أن تُصْبِحَ شيخاً

عمة

عزيزي المتخرّج من الثانوية المقبل على الجامعة، او عزيزي غير الحاصل على شهادة الثانوية. خُذْ نَفَساً عميقاً واهدأ تماماً واستمِع إلى ما سأقوله لك من دون رفْع حاجبِ الاستغراب او إطلاق شهقةِ الظنِّ بسلامةِ قواي العقلية.
لا تفكّرْ بالجامعة ولا بتخصُّصاتها. لا تدرسْ الهنْدسة او الطب وفروعهما. لا تتّجهْ الى الإدارة والبزنس والعلوم الإنسانية والقانونية. لا تفكّرْ كما يفكّر أقرانُك في شهادةِ وماجستير ودكتوراه ثم وظيفة تتدرّج مع راتبها صعوداً كمسيرة السلحفاة. تَعْرِفْ ان القناعة كنزٌ لا يفنى، لكن عليك ان تعرفَ أيضاً كيف تسبق عصركَ وتتخصّص في مجالٍ يعود عليك بثروةٍ طائلة في وقتٍ قصير إضافة الى أنه يُرضي غرورَك الاجتماعي ويجعلك نجماَ مُقدَّراً او صاحب سطوةٍ ونفوذٍ في محيطك.

اقرأ أيضاً: «أثواب نورانية» لـ«زلفا عساف»: تبييض صفحة رجال الدين

أقترح عليك ان تصبح شيخاً. رجل دينٍ معمَّمٍ بالأسود او الأبيض او الطربوش مع اللفة او أي شكلٍ من أشكال التميّز. كلّ ما عليك فعله هو إتقان الحد الأدنى من اللغة العربية مع تلوين الأسلوب والسيطرة ما أمكن على القواعد والنحو والصرف. إبدأ بحفْظ القليل من السور والآيات وليس بالضرورة الكثير منها لأن عِلم التشيّخ الحديث تجاوزَ النص الى أمورٍ كثيرة. لا تُتْعِبْ نفسك بدرْس الأحكام الشرعية فهي موجوة على الانترنت، بل اخترْ من الأحاديث ما يناسب موقعَك وأهدافَك وجمهورَك حتى ولو لم تكن مثْبتة، ورَكِّزْ على قصص الرواة التي تَنقل التفكير من مداره العقلي الى مداره الغيْبي وستجدها بالأطنان لدى الدعاة الجدد الذين احتلّوا القنوات التلفزيونية الشيعية والسنّية.

إذا أَنهيتَ هذه المرحلة في سنةٍ فيمكن تسميتك شيخاً، كما يمكن أن تدّعي أنك شيخٌ متخرّجٌ من أهمّ المدارس الدينية شرقاً وغرباً حتى ولو زرتَ هذه المدارس لمدة يوميْن فقط وأخذتَ “سلفي” مع أحد علمائها، فلا أحد في عالمنا العربي يسأل شيخاً عن شهادته. وأزيدك من الشعر بيتاً، لا أحد في العالم العربي سأل إن كانتْ هناك وظيفة شيخ او رجل دين او عالِم في زمن الرسول الكريم او الخلفاء الراشدين … ولكن ما علينا، لِنَبْقَ في تأمين مستقبلك ومستقبل أبنائك.

في الشكل، أنتَ الآن شيخٌ. كل ما عليك هو ان تتمرّن كيف تُتْقِن رَفْعَ الصوت لشدّ انتباه المستمعين في مسجدك او حسينيّتك او مجلسك بشكلٍ عام، وكيف تُتْقِن خفْض الصوت مع حشْرجةٍ في الحنجرة لإطلاق الحزن من صدورهم والدمع من عيونهم. وفي الشكل ايضاً، عليك أن تتعلّم كيف تجلس وتسير وتتكلّم وتُصافِح وتبتسم وتَعْبس، فهذه كلّها من مستلزمات الاستقطاب، وهناك الكثير من الفيديوات لمشايخ يمكنكَ ان تَصْنعَ من متابعتها توليفةَ تقليدٍ بما يتناسب والبيئة التي تُخاطِبها.

أما في المضمون، فهنا القصة كلّها. تريد التجييش الطائفي لجمهورٍ شيعي ضدّ السنّة، او جمهورٍ سنّي ضد الشيعة، فما عليكَ إلا حفْظ رواياتٍ غير مسنَدة او مثْبتة تعجّ بها فضائيات دينية. أَضِف عليها مقادير من مخيّلتك كأن تقول: عن أبي المرزكان انه التقى عجروم بن الكتافة فأخبره أن خاروب بن الزرعي قال لدى احتضاره بعد معركة أُحُد: سمعتُ صوتاً يهمس في أذني أن مَن تبع فلاناً (هنا اذا كنت شيعياً او سنياً، ضَعْ أي اسم) تحت رايةٍ (خضراء او صفراء او سوداء او زرقاء… تبعاً لجمهورك) وأَقْسَمَ على الولاء له فسيظفر في الدنيا والآخرة.

طبعاً، لن يبحثَ أحدٌ عن كل هذه الأسماء الوهمية، بل سيصدّق مَن سَحَرَتْهُ الكاريزما الخاصة بك ما أَعْلَنْتَهُ ويضاف الى قائمة الموالين لك موالون جدد. وهذا يَرفع رصيدكَ و”وسعرك” عند الجهات والدول التي يمكن ان تَدخل على خط مسيرتك إن رأتْ فيك إفادةً سياسيةً لها فتدعمكَ مالياً عبر واجهاتٍ خيرية وإنسانية، وكلّ ما عليكَ فعله لتأمين استمرار الدعم ان تسبغ على الأهداف السياسية للجهات الداعمة غطاءً شرعياً ودينياً فيصبح التظاهر أو الاعتصام أو التقاتل وربما الاغتيال نوعاً من أنواع التكليف أو الواجب… وصولاً إلى الانتحار وتفجير النفس.

وإذا كانت مؤهّلاتك ما زالتْ متواضعة ولا تتيح لك دخول هذا الميدان او جعْل الآخرين يعتمدون عليك، فإن عِلم التشيّخ بحرٌ واسعٌ يسمح لك بالنهْل منه مالاً ونفوذاً. وكما في الطب فروعٌ وتنوّعات فالحال مُشابِه هنا، اذ يمكنك أن تتخصّصَ مثلاً في الإفتاء حسب الطلب، وهنا قد تصبح نجماً فضائياً او “نظاميّاً”. ويمكنكَ ان تتخصص في فك ّالمربوط وربْط المفكوك والتطليق والتزويج من خلال الحروز والحجابات وقهْر الجنّ، فهذه تدرّ عليكَ ثرواتٍ حقيقيةً إضافة الى الهيْبة التي تمنحها لك عند الجنسيْن والخوف الذي تشيعه ويجعلهما يلبّيان أيّ طلبٍ تطلبه هَرَباً من مَسٍّ او عقابٍ. ويمكنك ارتداء اللبوس الخيري فتؤسس جمعيةً تستحوذ على أموال الخير. أَرسِل منها النُذر اليسير ولن يسألك أحد عن الباقي.

اقرأ أيضاً: لكل مسلمة … كتاب «أمّ الملذّات» للمتعة الجنسية

ستتزوّج بِيُسْرٍ أكثر من واحدة، وستَعدل بينهنّ لأنك الشيخ المهاب الذي تخشى قرينتُه أن يتسلل الى تفكيرها شعورٌ بالغبن او الظلم، وستجد مِن أتباعك مَن يهمس في أذن الحاضرين الجدد الى مجلسك: “هذا شيخٌ صاحبُ كراماتٍ يَظهر عليه الأولياء في المنام ويملك قدراتٍ قدسيّة، لكنه لا يحبّ إظهارها أو الحديث عنها”، وستجد نفسك بطل الروايات المؤلّفة بعدما كنتَ تؤلف الرويات وتخترع أبطالها.

عزيزي المتخرّج من الثانوية المقبل على الجامعة، طبعاً هناك استثناءات وقامات كبيرة وزاهدون في محراب العِلم، لكنني أتحدّث عن غالبية مَن سكنوا العباءات واعتمروا اللفّات في العقود الأربعة الماضية. لا تَنْدمْ على خيارك الجديد ولا تقلْ ليْتني أصبحتُ طبيباُ او مهندساُ او محامياُ، فإن أتقنتَ المشيخة حسب أصولها الجديدة، ستجد أطباء ومهندسين ومحامين في مجلسك يستمعون ويتفاعلون ويرفعون القبضات او يعيدون بعد الدعاء آميييييين… ثم يهْمسون في أذن الوافدين الجدد بأنك صاحب كرامات.

السابق
الشيخ مصطفي الحجيري لـ«جنوبية»: حزب الله تراجع وعدد من عناصره سقطوا في الفليطة والزمراني
التالي
«الشرق الاوسط»: دول خليجية موّلت الجماعات المسلحة في سورية والعراق