«أثواب نورانية» لـ«زلفا عساف»: رحلة اكتشاف جوهر اللباس الديني

إجتهدت زلفا عساف في رؤيتها الإخراجيّة في إخراج المادة التي عملت عليها في فيلمها الوثائقي الذي أنتجته لصالح قناة الجزيرة الوثائقية في إبراز التقليد التاريخي والمعنى الروحي لملابس رجال وعلماء الدين في الديانات السماوية وإبراز تنوّع أشكالها وألوانها وتميزها بين الطوائف.

في إطار محاولة ذات أبعاد تاريخية وروحية هدفت الى الإضاءة على تأثر الملابس بتطوّر الحقبات التاريخية وإظهار الجانب الروحي للباس الذي يشكل فرادة في الأديان. أبدعت في تمكنّها من حصر الفكرة في مدّة زمنية لا تتعدى الـ52 دقيقة، لفئة من المجتمع تحتاج لتاريخ بأكمله، أي تاريخ الأديان السماوية.

ففي مدخل إبداعيّ يُدلّل على أهمية اللون في الحياة، على عكس ما هو متعارف عليه عن الدين وخصوصاً الإسلامي، ينطلق الشريط الوثائقي. فالثوب رمز عالمي يحاكي كل الثقافات وكل الاديان، فنرى الكنيسة ذات الحوائط الملوّنة، والجوامع المزخرفة، وان اختلفت الالوان فيما بينهما الا انهما رموزنا في التوحيد والتثليث معا.

ينقسم الفيلم الى جزئين كبيرين دون تمييز، لكن الواقع يفرض نفسه، فالمذاهب المسيحية أكثر من المذاهب الاسلامية في لبنان، وتنوّع اللباس المسيحي أكثر بالتالي، نظرا للإختلاف الديني في التراتبيّة الطقوسيّة.

ويستضيف الفيلم العديد من الباحثين والمطّلعين على اللباس المسيحي في تاريخه العريق والمميّز. فلباس الكاهن المسيحي له عدة أنواع وطقوس ومناسبات وأوقات. اذ لكل كنيسة لباسها الخاص. فالاكليروس البيزنطي يبدأ من الصاية، الى الجبة، الى السكوفا، الى القلنسوة، الى اللاطئة، الى صليب الصدر. وهكذا دواليك في كل مذهب. وفي مذهب آخر هناك القمباز، والكمر الاحمر، وصليب الصدر عند الكاثوليك. ووفقا للمراتب الكهنوتيّة تتميّز الملابس، والثوب مرتبط بحالة الزهد التي يعيشها الراهب في الدير.

ويدخل الفيلم الى تفاصيل التفاصيل في اللباس الكهنوتي، فيؤكد ان الزيّ الدينيّ المسيحي هو عبارة عن أربع قطع أساسية منها: البطرشيل، والزنار، والبدلة. والمطران يحمل العصا للدلالة على رعاية الكنيسة فهو الراعي، ويلبس الخاتم للدلالة على الختم الذي كان يوقّع فيه المطارنة قديماً الصكوك.

إقرأ ايضا: يا رجال الدين.. لوذوا بالصمت

ويختلف الزيّ الكهنوتيّ والإكليركيّ بين وقت الخدمة والأوقات الأخرى أي الزيّ اليومي الذي يرتديه رجال الدين المسيحيين خارج الإحتفال بالقدّاس. ولكل مذهب لباسه اليومي والاحتفالي الخاص داخل الطائفة نفسها عند المسيحيين. ويعود تاريخ اللباس المسيحي الى القرن الرابع الميلادي. وترتبط ألوان اللباس التي يتم يرتديها الإكليروس في الكنيسة الكاثوليكيّة باختلاف الطقوس. وقد اشتهرت عادة اللباس الديني في الأديان بالبساطة وكانت خياطتها تتم يدويا على يد الرهبان في الأديرة الا انها تطورت مع الزمن وباتت لها خصوصيتها ومصمميها.

وفي القسم الثاني من الفيلم المتعلق باللباس الديني الاسلامي، تُجري عساف لقاءات مع علماء دين مسلمين لتكشف عن نشوء الزيّ الديني في الاسلام، وانه ليس لدى الشيعة ما يُسمى بـ”لباس رجل دين” ولباس رجل دنيا. بل هو لباس العرب والمسلمين منذ ايام الرسول، ولم يتميّز الرسول بلباس خاص عن سائر الناس. وقد تطورت ازياء المسلمين رويدا رويدا، والرسوم التي صوّرت العصور الإسلامية المتعاقبة برأي المختصّين تبيّن ذلك.

ففي حضارة الاندلس تأثر اللباس الديني بحضارة بلاد ما بين النهرين، اضافة الى احتكاك المسلمين بحضارات الروم والفرس. ولكن في العصر العباسي أخذ رجال الدين والقضاة يمتازون بلباس خاص، وتبلورت ازياؤهم في عهد هارون الرشيد. ويُعتبر ابو يوسف القاضي هو أول من اقترح لباس العلماء. وفي العهد الفاطمي تميّز الخلفاء والعلماء بلباسهم عن العامة. ومع بناء الازهر تحولت مصر عاصمة للعالم الاسلامي ولم يكن للزيّ حينها أية اهمية في العصرين العباسي والأموي، ولكن ازدهرت صناعة الالبسة في العصر المملوكي.

وصار هناك نوعان من اللباس الاول البسيط والثاني المزخرف. اما القبعة الحمراء ذات الاصول التركية فقد لفت بالعمامة العربية لأسلمة الطربوش التركي. والى الان يستطيع الازهري ان يتميّز عن غير الأزهري من خلال اللفة والعمامة التي يضعها على رأسه.

وتؤكد المعدة والمنتجة المنفذة لفيلم “أثواب نورانية” زلفا عساف لـ”جنوبية”: “اختياري للعنوان يعود الى كوني أعالج ماهيّة الثوب من الناحيتين الروحيّة والتاريخيّة، فالثوب الديني له إطلالته الخاصة المنبثقة من رمزيّته النورانيّة المرتبطة بدورها بالنور الايماني للدين أي العلاقة الروحيّة بين النور والروحانية الدينية وبين التاريخ”.

ويعتبر لباس علماء ورجال الدين ميزة هامة كعلامة على المرجعيّة الروحيّة التي يمثلها رجال وعلماء الدين في حياتهم بين الناس وليس للتفرقة عن سائر فئات المجتمع، فهم مميزون  للدلالة على صفتهم الروحيّة في المجتمع حتى يعرفهم الناس، ويلجأوا إليهم للاستشارة والمرجع.

وردا على سؤال ان كان هذا اللباس هو نوع من تعظيم صفة المثالية لديهم؟ تؤكد عساف: “تميزوا ليعرفهم الناس ولتكون لهم رمزيتهم الخاصة، وان كان بعضهم ربما غير مثاليين للغاية لكن تبقى لرجال الدين هيبتهم ووقارهم، لا أحد قال إن لباسهم مقدّس، وقد ذكر اللباس الديني في اليهودية بحيث ورد في كتاب التوراةْ في سفرِ الخُروجْ الإصحاحِ الثامنِ والعشرينْ 28، مصدرَ اللباسِ الكهنوتيّ في الديانة اليهودية، حينَ أمرَ اللهُ النبيَّ موسى، أن يُقرِّبَ هارونَ وبنِيه، كهنةً له، مُتشحينَ بلباسِ المجدِ والبهاء. ووصفَ اللهُ في ظهوره على النبيِّ موسى، كلَّ قِطعة من ثيابِ الكاهنِ الأكبرْ، هارونْ، وصفاً دقيقاً. وهي تتألفْ، مِن: العِمامة والصُدْرَة والأفود وَالجُبَّة وَالقَمِيص المُطرَّز والحزام. اما في الديانات الأخرى فلم نجد نصوصاً توضح ماهية اللباس”.

“وقد عانيت كمنتجة منفذّة ومعدّة من غياب مراجع متخصصة عن اللباس فلجأت الى الأبحاث المعمّقة والكتب العتيقة في الأديرة وبحثت مع المختصين في الأزياء الكنسية والإسلامية والمراجع اللاهوتية لكي أتمكّن من تقديم مضمون تاريخي وديني بأمانة وموضوعيّة ووفاء. وللدلالة على اللباس راجعنا تطور الرسوم عبر الزمن في الأديان واستعنا بمتخصصين لرسم الاشكال الحقيقية للباس الديني كما وردت في المجامع الكنسية والمنمنمات والعصور الإسلامية للحفاظ على الامانة التاريخية”.

وتتابع عساف، بالقول، لـ”جنوبية”: “تجدر الإشارة هنا الى تأثر الكنيسة المارونية اللبنانية باللباس اللاتيني في حقبة من تاريخها القديم حيث كانت الكنيسة فقيرة فقدّم اليها اللاتين لباسهم، وهو لباس بسيط غير مزخرف. الى ذلك، تأثر الزيّ الديني المسيحي بالمراحل التاريخية وبالمجامع والحقبات. ولكل طقس كنسي لونه الخاص ففي زمن الآلام يرتدي الاكليروس الكاثوليكي على سبيل المثال اللون البنفسجي وفي زمن الميلاد يرتدي اللون الأحمر “. وعن الطبقية في اللباس الديني المسيحي تلفت عساف الى ان “لباس المسيح كان بسيطا جدا، ولكن الكنيسة تعتبر اليوم أن بيت الله هو لقاء بين المؤمين ورجال الدين لتمجيد الله وتسبيحه وبالتالي تعتبر الكنيسة  انه على من يحتفل بسرّ القدّاس من رجال الدين ارتداء اللباس المتصف بالمجد والبهاء على المذبح وهو لباس يليق بمناسبة اللقاء مع الله”.

اما في الاسلام “فاللباس دوما رسميّ قاتم، فعند الطائفة الشيعية نجد الأبيض والأسود كثيرا، اضافة الى نوعين من العمامات السوداء والبيضاء، وهذا دليل للتمييز بين السادة والعامة من المشايخ”. اما عند السنّة فلا يوجد أي تمييز في اللباس. ولباس المسلمين الديني غير مكلف بشكل عام، ولا علاقة للفّات العمامة بالمستوى العلمي للشيخ أو بمرتبته فهذا أمر يعود لرغبة الشيخ في رفع مستوى طيّات عمامته. اما في المسيحية فلكل طقس لباس ولكل مرتبة لباس، وفي المسيحية ثمة تراتبيّة في اللباس الكهنوتي وفق المرتبة الكهنوتية”.

“وقد تأثر رجال الدين المسلمون بالفرنجة في لباسهم ونجد ذلك لدى علماء الدين في طرابلس، فأدخلوا البنطال والقميص الى زّيهم، وهو لباس مدنيّ، وان كانت الجبّة لباس عثماني مضاف فوقها وهي لا زالت محافظة على هيئتها العامة ولم تتطور كثيرا”. والملاحظ أن “لباس المسلمين لا زخرفة فيه، وقد حافظ على الألوان الترابيّة والصحراوية”.

وختمت زلفا عساف التي استغرقت في اعداد وتصوير وتحضير الفيلم حوالى 18 شهرا ليخرج الى النور كوثيقة نوعيّة تحمل فرادة خاصة ومرجعاً علميّاً دقيقاً :“ان اللباس الدينيّ رغم تنوعه يجمعه جوهر واحد هو دعوة الأديان السماويّة جميعها الى عبادة الله الواحد والى المحبة وهذا هو الجامع الأكبر لماهيّة الثوب في الأديان، وهذا هو نتاج فيلم أثواب نورانية، وأي خطأ في الإعداد كان حتماً سيسيء الى جوهر اللباس”.

إقرأ ايضا: الفتوى.. ملك حصري للمرجعيّة أم حق لمن يريد من العلماء؟

السابق
لهذا السبب أحيل الدكتور صعب الى المجلس التأديبي
التالي
إلقاء القبض على الشبان الذين اعتدوا على النازح السوري