عندما تعب المجتمع وضاقت المسافات

عندما بدأ «المجتمع» اللبناني باكتشاف ذاته، أو إعادة استكشاف ذاته بعد انحلال الأغطية السياسية والأيديولوجية لأحداث ٢٠٠٥، كانت ما زالت «الصدمة» هي الإحساس المسيطر، وهي ناتجة من الفارق بين النظرة للذات والواقع. فعندما وقعت جريمة كترمايا في ٢٠١٠، استنكر المجتمع الحادثة، محاولاً تبرئة ذاته من فعل بعض أبنائه. وعندما طُرِح «القانون الأرثوذكسي» في ٢٠١٣، وبّخ المجتمع طارحيه الذين لم يفهموا حياء الطوائف وضرورة اتباع لغة مزدوجة في السياسة. وعندما اتضح أن هناك أزمة بيئية قد تقضي على إمكانية الحياة، وجد المجتمع بعضاً من شبانه يتظاهرون مطالبين الدولة بحل. قد يكون هذا الإحساس بالصدمة مجرّد نفاق، لكّنه سمح لمسافة، وإن كانت بسيطة، بين الحدث والذات. لم نكن مجرّد أفعالنا، بل كنّا أفعالنا ورفضنا لها في آن.

اقرأ أيضاً: بَلادة العيون في متاهة التوحش

بيد أن منطقاً آخر كان يتسلل من وراء هذه الصدمات المتكرّرة، فحواه استياء متزايد من هذه المسافة الضئيلة بين الحدث والذات ومتطلباتها الأخلاقية، والمواظبة بشتى الطرق على نسفها. فالاحتدام السياسي العنيف لم يعد يحتمل أن تكبّله هذه المسافة، فأطلق العنف وتبناه، بما فيه «الإرهابي» منه، كما حصل مثلاً مع قضية ميشال سماحة في ٢٠١٢. ترافق هذا التبني مع تعطيل كامل للمؤسسة القضائية الضامنة رمزياً لهذه المسافة، ليروح القضاة يستعجلون صدور قرار يمنع تداول اسم طبيب مشتبه بقتل، أو يخلون سبيل متاجر بالبشر بكفالة مالية قد تكون أقل مما جناه بساعة «عمل».
إلى ذلك، لم تتمكن هذه المسافة من مقاومة الأخبار المتسارعة والمتكاثرة التي تشير إلى الانهيار الكامن في المجتمع. فأصبحت «الفضائح» طريقة عيش وأصبح «الخبر العاجل» التوقيت الطبيعي للمجتمع. فلم يمرّ يوم خالٍ من خبر عن جريمة سببها فنجان قهوة أو الموت جراء رصاصة طائشة أو صور لميليشيات المواكب تنهال ضرباً على مواطن أو كارثة بيئية لا عودة عنها. هناك كمٌّ معين من القضايا يمكن لهذه المسافة أن تبعدها عن الذات. وهذا ما سقط، لنصبح مجرّد مجموع هذه الأفعال، من دون مسافة أو فارق.
«تعب» المجتمع من هذه المسافة ومطالباتها الأخلاقية، وباتت مناعته، كبحيرة القرعون، معدومة. وكما حصل مع كل هزيمة، كان العنفوان الوطني جاهزاً لتقديم التكبّر المطلوب على هذه المسافة الضئيلة التي تشكّل إمكانية العيش المشترك. فتبرّع عدد من الكتّاب والصحافيين للتعبير عن السخط والاستياء و «ضيق الخلق» من تهم «العنصرية» التي تساق ضد «مجتمعهم». فالعاملات الأجنبية يسرقن ربّات المنزل، ما يبرّر احتجازهن، والإرهاب يختبئ في اللاجئين، ما يجعل فرض حظر التجوّل على السوريين ضرورة وجودية، والأمن مهدّد، ما يجعل التعذيب مطلباً جامعاً. فليخرس أصحاب الجمعيات وكارهو النفس الوطنية، «نحن» الحجز والحظر والتعذيب. ألم تقرأوا افتتاحية «النهار»: إنهم يتكاثرون ونحن نتضاءل.
قد تكون ذروة هذا الالتحام مع الفعل، مهما كان شنيعاً، خط الدفاع الجماعي عن مؤسسة الجيش الذي شهدناه أخيراً. فبعد الاعتداء الوحشي على بعض المعترضين على التمديد الأخير لمجلس النواب، تبرّع البعض بالدفاع عن العنف المفرط. بيد أن هذا التبرير بلغ ذروته في التغطية الأخيرة لعرسال وتسرّب بعض الصور عن معاملة «المشتبه بهم». لقد استُقبلت صور التعذيب بحفاوة وطنية وخُوِّن كل من شكّك بالرواية الرسمية أو طالب ببعض المعايير الإنسانية في التعاطي مع النازحين. في مجتمع تعب من ذاته، هكذا تشكيك لم يعد ممكناً. الآن، زمن الوطنية القذرة، التي مهدّ لها إعلام الممانعة وبرّرها الإعلام المقابل، زمن الالتحام بالفعل والجيش، وزمن تجسيد ثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة» في طقوس تعذيب السوريين، المنفذ الأخير للكراهية الكامنة في المجتمع.
مع زوال هذه المسافة، بات مستحيلاً العيش في «مجتمع القسوة» الذي بات أشبه بغرفة مغلقة تضيق على سكّانها. فالمساحات القليلة التي حاولت إبعاد القسوة بعض الشيء لمحاولة البقاء على قيد الحياة باتت تنقرض كسلاحف صور التي تعيش أيامها الأخيرة. الحصار بات مكانياً وبيئياً وأخلاقياً، بعدما كان اقتصادياً وسياسياً. فالأمكنة العامة الأخيرة سقطت أمام بلدية بيروت، بعدما سقط البحر أمام التلوث، ومعه المزروعات المرويّة بالمجارير والهواء السرطاني. وما لم يطله الانهيار البيئي، تساقطت عليه الرصاصات الطائشة وقطّعته المواكب المتعجرفة وتسللت إليه صور المسؤولين يمضغون سيكارهم الطويل.
ومن يعاني رُهاب الأمكنة المغلقة، خائن وكاره للنفس. وفي كل الأحوال، أيامه معدودة، ومع الأزمة المقبلة، سينقض عليه الوطنيون الجدد الذين لم يعودوا يحتملون التشكيك بغرفتهم المغلقة.
في هذه الغرفة التي تضيق بقاطنيها، باتت الأخبار خدشاً للذات، تتسارع لتقضي على ما تبقى من مسافة تفصل بين القسوة العامة وبعض الأفراد التائهين في متاهة البلاد الخارجة عن المنطق العام. ففي هذا الدوران حول الذات، لم تعد تعاش هذه الأخبار كمجرد حوادث متقطّعة، بل كخط مستقيم من العنف موجه إلى كل من يسكن هذه الغرفة. كما لم يعد للتحليل قدرة على عقلنة الأحداث من خلال إرجاعها إلى جذورها الاجتماعية أو التاريخية. فسقوط ما تبقى من الدولة وانفجار المشاعر الطائفية وانحلال الضوابط المؤسساتية لم تعد أحداثاً، بل هي جدران هذا الواقع وحدوده. في غرفة كهذه، أي حركة باتت عنفنا موجهاً للذات، لمجرّد الوجود في هذا المجتمع.
لم يعد للمقاومة معنى. فالغرفة ليست مقسومة بين شعب وسلطة أو «أوادم» و «زعران» أو طبقات مهمشة ومستغلين…، تلك التصنيفات تحتاج إلى مسافة. الوضع بات أقرب إلى عملية احتجاز لرهائن، خيارهم الوحيد الفرار أو التأقلم مع الغرفة. لم يبق من تضامن كاف لكي يوزع على الضحايا المتزايدين، ولا من مثابرة للدفاع عن كل متر يبنى عليه مجمع سياحي، ولا من عزيمة لمجرد السير في مجتمع القسوة. المجتمع تعب ورضخ لأفعاله. أن تكون لبنانياً اليوم يعني أن تكون مع التعذيب والحظر والمنع والمجارير وتجارة البشر.
وإن رفضت هذا، لا يبقى إلا الهجرة، كاستبدال للمسافة الرمزية بأخرى مادية، وكمقاومة لإحساس الكره العميق تجاه مجتمع القسوة هذا. إذا كان السفر في الماضي يعتبر خسارة لبعض من الذات، فهو اليوم بات الطريقة الوحيدة للمحافظة على شيء من تلك الذات.

السابق
ماذا دار بين ترامب جونيور والمحامية الروسية في أروقة «مانهاتن» ؟
التالي
أطفال «حزب الله» مقاتلون في سوريا