هذا ما حصل أمس في مستشفى أوتيل ديو: ترهيب وتهديد من مخابرات الجيش!

عرسال
روت المحامية ديالا شحادة عبر صفحتها الفيسبوك التفاصيل التي دارت في مستشفى أوتيل ديو في بيروت بين مخابرات الجيش وادارة المستشفى التي كانت تقوم بتنفيذ القرار القضائي .

أكتب هذا النصّ المُسهَب بتمهّل منذ الساعة الثالثة فجرا، وأنا جالسة في قسم الطوارئ في مستشفى أوتيل ديو في بيروت. لا تقلقوا. حالتي الجسدية ممتازة، رغم بعض الإنهاك والكثير من الخيبة. وحالتي النفسية أفضل الآن بعد انسحاب آخر عناصر مخابرات الجيش اللبناني المدججين بالسلاح من صرح المستشفى قبل أربع ساعات. حالتي النفسية أفضل لأنني، ومساعدتي الإدارية (التي وفَّرت لها إدارة المشفى المحترم مكاناً للنوم)، كنّا (ولعلّنا لم نزل، بشكلٍ ما) شبه محاصرتين في المستشفى ومخابرات الجيش تتربّص بِنَا على أبوابه الداخلية والخارجية. تتربص بِنَا لأننا، بكل بساطة، شاركنا في تنفيذ قرار قضائي معجّل نافذ على أصله صادر عن قاضي الأمور المستعجلة في زحلة الرئيس أنطوان أبي زيد. أجل. يا لسوء نيّتنا.

القرار المعجّل والمحقّ، الذي استجاب فوراً لطلب تقدم به مكتبنا أمس بموجب وكالات قضائية عن ذوي كل من المواطنين السوريين المتوفّين مصطفى عبد الكريم العبسي، وخالد حسين المليص، وأنس حسين الحسيكي، قضى بتكليف طبيب شرعي محلّف، الجرّاح المخضرم ريمون خزاقة، بإجراء كشف طبي على جثث هؤلاء المودعة في برادات مستشفى زحلة الحكومي، وذلك “لبيان سبب وفاة” أصحابها. طلبنا الكشف الطبي لأن التقارير الطبية الشرعية التي أجريت لهؤلاء بتاريخ ٢/٧/٢٠١٧، أي بعد أقل من ٤٨ ساعة على توقيفهم احتياطياً ضمن المداهمات الواسعة التي استهدفت مخيمات وبيوت اللاجئين السوريين في عرسال قبل أسبوع، والتي استحصلنا على نسخ عنها أمس فقط بإذن من النيابة العامة العسكرية، خلصت إلى أن أسباب الوفاة طبيعية مئة بالمئة: جلطة قلبية، وجرحة قلبية، وجلطة دماغية، و”لا آثار للعنف”. هكذا. تقرير طبي شرعي اكتفى بصفحة ونصف عن كل وفية.

اقرأ أيضاً: وفاة أربعة من موقوفي مخيمات عرسال

أعتقد أنه من قبيل المعجزة الإلهية أن يموت ثلاثة أشخاص أصحاء بشهادة أسرهم ومعارفهم (بينهم ممرض تخدير لا يسكن أصلاً في المخيمات) في غضون ٤٨ ساعة من توقيفهم احتياطياً، وفي مكان واحد، ومن قبل جهة واحدة، جميعهم لأسباب “طبيعية”. ولا أعتقد أنه ثمة من يُؤْمِن بالمعجزات بين اللاجئين السوريين على أيّ حال. ولكننا كنّا لم نزلْ، حتى الأمس، نؤمن بأن الموضوعية والحقيقة ضالتا العدالة وبأن سيادة القانون صمّام الأمن والأمان. فلم نستعجل ولَم نتكهن ولَم نتحامل، وإنما طلبنا من القضاء منح ذوي الجثث الحق بمعرفة الحقيقة. وهكذا كان.

المهم. قام الطبيب المكلَّف من قضاء العجلة في زحلة بمهمته الأولية في برادات مستشفى زحلة الحكومي. كشف على الجثث، وقام بتصويرها، واستخرج عيّناتٍ منها، ووضّبها أصولاً، وكلَّف موظفاً طبياً بإيصالها معنا إلى مستشفى أوتيل ديو في بيروت. كلّ ذلك وأنا أشعر بأن لبنان لم يزل، نوعاً ما، إلى حدّ ما، بخير. فها هو القضاء يستجيب بسرعة في قضية حسّاسة أبكت اللاجئين السوريين في عرسال، وأمرَ رئيس الحكومة بإجراء تحقيق جدي حولها، وضجّ الرأي العام المحلي والدولي بها قبل أيام. وَيَا لسذاجتنا.

قبل قليل من وصولنا مع الموظف المكلَّف والعينات الموضبة إلى بيروت نزولاً من زحلة، اتصل بِنَا الطبيب المكلَّف. كان منفعلاً وطلب منا العودة بالعينات فوراً. قال إن رئيس النيابة العامة العسكرية القاضي صقر صقر خابره وأمره بعدم السماح بوصول العينات إلى مستشفى أوتيل ديو وبإعادتها لأنها، النيابة العامة العسكرية، هي المخوّلة بمنح إذنٍ كهذا. هاتفنا القاضي أبي زيد وأبلغناه بما حصل فأجاب بأن قراره قانوني ويجدر الاستمرار في تنفيذه وبلّغ الموظف الذي معنا بذلك مباشرة على الهاتف. واصلنا طريقنا فاتصلت بالموظف مخابرات الجيش وطلب الشاب اللبق على الهاتف اسمي ورقم هاتفي وسألني: “إنتِ من وين؟”. أجبته: “أنا محامية لبنانية مسجَّلة لدى نقابة بيروت”. طلب أسماء فريق عملي فامتنعت عن تزويده بها. أجاب بأن قائد الشرطة العسكرية في البقاع العميد عازار سيتصل بي على رقمي. لم يتصل بي أحد وإنما اتصلت إدارة مستشفى زحلة الحكومي بالموظف الذي معنا وطلبت إليه “التوقف في مكانه”. توالت الاتصالات المقلقة على الموظف الذي استقال في النهاية من مهمته القانونية وطلب النزول من السيارة وسط أوتوستراد خطر.

وصلنا إلى مستشفى أوتيل ديو حوالي الساعة الحادية عشرة ليلاً. أبرزتُ لإدارة المشفى أوراقي القضائية والرسمية والثبوتية وباشرنا الإجراءات الإدارية لحفظ العينات في البرادات. نقلنا العينات الموضّبة إلى غرفة تسجيل الدخول وانتظرت مساعدتي هناك ريثما أتابع الإجراءات الروتينية. فجأة، ظهر شابان واثقان بنفسيهما وسألاني: أنتِ المحامية الفلانية؟ أين هي العينات؟ سألتهم عن صفتهما. أجابا: نحن مخابرات الجيش. طلبت منهما إثبات صفتهما فأبرزا، عن بعد، بطاقة لم يسمحا لي بالتمعن فيها وقال الأقل لباقة بينهما بتذاكي: ألا ترين الأرزة الخضراء؟ وطلب الأكثر لباقة الاجتماع بي على حدى فرافقتنا موظفة إدارية إلى غرفة مغلقة حيث أطلعته على القرار القضائي الذي بحوزتي. أبلغني بأنهم مكلّفين ب”أخذ العينات بأي طريقة”. أجبت: لديّ قرار قضائي يعلو على أي قرار، فردّ بأن قرار مخابرات الجيش هو الذي يعلو على أيّ قرار.

مرّت ساعة مشحونة واصلتُ فيها الامتناع عن الإفصاح عن مكان وجود العينات وتسليمها من دون قرار قضائي رسمي. تعرّض طبيب وموظفة في هذه الأثناء لترهيبٍ وتهويل بسبب إصرارهما (الصادق) بأن المستشفى لم يتسلَّم أي عينات. وسط احتقان مقنّع بتمالك النفس راح رجال مخابرات الجيش الذين تضاعف عددهم حتى زاد عن العشرة عناصر بالزي المدني داخل قسم الطوارئ يجرون اتصالاتهم ويلاحقون خطواتي، ومثلهم فعلت. هاتفتُ محامين وحقوقيين وناشطين ورجال أمن وإعلاميين. كان القاضي أبي زيد قد أغلق هاتفه، على ما يبدو تجنباً لأي ضغوط. في النهاية هاتفتُ المدعي العام التمييزي الرئيس سمير حمود الذي طلب إليّ تسليم العينات لمخابرات الجيش لأن القضاء العسكري، لا قضاء العجلة، هو المخول بإجراء تحقيقاتٍ كهذه، قال. طلبتُ إليه أن يأمر بحفظها في برادات أوتيل ديو مؤقتاً كي لا تفسد. أجاب بأنه سيتمّ حفظها في المستشفى العسكري.

نزولاً عند طلب المدعي العام التمييزي وافقتُ على تسليم العينات طالبةً من الطبيب زغبي، المدير المسؤول عن قسم الطوارئ، أن يشهد على عملية التسلّم والتسليم التي قمتُ بتوثيقها بهاتفي وسط اعتراض عنيف من عناصر مخابرات الجيش. في هذه الأثناء تم التنبه إلى مساعدتي فقام العنصر الأقل لباقة المذكور سابقاً بتصويرها بهاتفه واستفزازها بتصرفاتٍ سخيفة. طلب إليّ عنصر طويل القامة وصل حديثاً وكان الأكثر عدوانية أن “أحترمَ نفسي وإلا”، وذلك بعدما كنت قد سلمت العينات بالفعل. اجتمع بعدها عناصر عدة مع الدكتور زغيب في غرفة ضيقة لنحو نصف ساعة ومدّ أحدهم رأسه منها في لحظةٍ وصرخ بي مهدداً أن أبتعدَ عن الباب.

اقرأ أيضاً: جبهة عرسال النائمة إستيقظت فما الذي حصل ليل الثلثاء؟

كل ذلك فيما كانت التصرفات العدوانية ترهب فريق المستشفى وروّاد قسم الطوارئ، بمن فيهم موظفة تجادلت غير مرة بغضب مع العناصر. احتضن الفريق مساعدتي في غرفة داخلية بعدما راح أحد العناصر يلاحقها حتى إلى باب دورة المياه. رحل بعض العناصر بالعينات وبقي عدد لا بأس به منتشرا لأكثر من ساعتين داخل أروقة المستشفى وعلى أبوابه الداخلية والخارجية كالمتربصين بِنَا، مساعدتي وأنا. احتضننا فريق المستشفى ونصحونا بعدم المغادرة. اتصلتُ بنقيب المحامين في بيروت وشرحتُ له الموقف وطلبتُ الحماية فأجابني بأنه سيهاتف الرئيس صقر في الصباح. استمرّ التربص حتى نحو الساعة الثالثة صباحا حين تنبهت إلى وجود آلية عسكرية وشابين مدججين بالسلاح في صرح المستشفى أمام بابها الداخلي. قمتُ بتصويرهم بهاتفي فدنا مني عنصر ثالث مدني بسرعة وطلب مني تسليم هاتفي. ولما امتعنت، قال لي الشاب الذي بالكاد تجاوز العشرين: “إذا محامية أنا فيني إذا بدّي إستغني عن حصانتك”. فقدتُ أعصابي وصرختُ بكل طاقتي بعباراتٍ أجدها الآن واهية وساذجة، على وزن: “هيدا بلد بيحكمه القانون مش واحد حامل رشاش”. انسحبت العناصر الباقية لكننا بقينا في المستشفى ولَم نزل حتى الآن.

طلع النهار. جلستُ في الخارج أشربُ القهوة وأدخّن وأفكّر. متى أصبح المواطنون اللبنانيون ومخابرات الجيش اللبناني فريقين لا يثقان الواحد بالآخر؟ كان رواد المستشفى وفريقه ينظرون إلى المجموعة المداهمة لا نظرة مواطنٍ لمن يحفظ أمنه بإخلاص، وإنما نظرة توجّسٍ واستنكار. وأفكّر، أنا التي اخترتُ العودة قبل أربعة أعوام إلى وطني الذي أحبّ، كيف صار لبنان الذي صاغ بمفرده مع ثلاث دولٍ أخرى، فقط، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قبل ستة عقود، لبنان اليوم، الذي، ليس لبنان المواطنين، وإنما لبنان الأجهزة الأمنية.

 

 

السابق
رئيس الأركان الاسرائيلي: إبعاد إيران أهم من هزيمة داعش
التالي
بالفيديو: ترامب في موقف محرج مع زوجة الرئيس البولندي