منازلها أعشاش الفينيق قرى تتكرر مكاناً وزماناً وأهلاً

هاني فحص

عيثرون… في مدينة درعا في حوران جنوب سورية عائلة كبيرة باسم العثروني، أصلها من عيثرون البلدة الحدودية نفسها، وقد هاجر قسم من أهلها، يوم لم تكن الحدود حدودا، إلى حوران، تحت ضغط الحرب والمجاعة، وبقوا فيها.. والهجرة الثانية من عيثرون هي الهجرة الأولى لأهل الشريط الحدودي بعد نكسة عام 1967 وبداية المقاومة ضد الاحتلال، لقد عوقبت عيثرون بسبب سرعة انخراطها في المقاومة، ونزلت على ساحتها قذيفة مدفعية إسرائيلية قتلت أول مجموعة أطفال… تناثر لحم الأطفال على الجدران… وهدم عدد من منازلها وشرد قسم من أهلها..

اقرأ أيضاً: وتبدأ السهرة «الشقرائية» مع النهايات!

وكان في المشردين الذين نزحوا إلى أملاك آل الصلح وبقية منازلهم في مزرعة (تول) قرب النبطية، وزرعوا تبغ آل الصلح بإتقان ودأب معروف لأهل عيثرون ورميش ورامية وعيتا الشعب حتى الآن. كان فيهم مجموعة من الفدائيين وكان رقم تسلسل أحدهم في مجموعات المقاومة الأولى هو رقم (ثلاثة).. ولم يكفوا في مهجرهم عن المقاومة إلى جانب الزراعة، وتعرضت منازلهم منذ عام 1972 لعدة غارات من طيران العدو، إلىأن هدمت جميعها، فابتنوا غيرها في المنطقة الواقعة بين الدوير وحاروف حيث لم يلبث الحي أن اتسع جاذباً إليه أمثالهم من فاقدي منازلهم في القرى الحدودية… هؤلاء الذين قاتلوا وقتلوا وتعلموا وسهروا في حقول التبغ وبنوا وهدمت مبانيهم فأعادوا بناءها في البلدة وخارجها.. هم نموذج للكرم والصبر والحرمان الذي يصنع الرجال والأوطان.. ويتناقل أهل القرى المجاورة طرائف عن بعضهم بعضاً تصور العناء الطويل والمقيم فيها، عن عيثرون أن الحاج أبو حسين عاد من الحقل بعد يوم حصاد شاق، فعب من ماء البئر إبريقا كاملا وجلس على أرض المصطبة في ظل شجرة الزنزلخت وصاح بأم حسين: “إقلي بيضتين وجيبي رغيفين وراس بصل وكاسة لبن وعمرو ما حدا يورث.. بدو هالبيت يخرب.. خليه يخرب”. ويرد أهالي عيثرون على أهل بليدا بالرواية التالية: ذهب أبو علي إلى سوق بنت جبيل واشترى أوقية ونصف أوقية من لحم البقر بليرة سوري قسمتها أم علي إلى قسمين القسم المدهن للطبخ غداً وقسم الهبرة للكبة على الغداء.. وهرست الهبرة على البلاطة بالمدقة والقطة وابنها الصغير (7 سنوات) يرمقان حركتها بعيون جائعة على رجاء الحصول على شيء، أو على فتة البلاطة في النهاية… وضعت اللحم المهروس في الصينية النحاسية الواسعة وأهالت عليه مقداراً كبيراً من البرغل الجافي بحيث يكفي لغداء عشرة أنفار من العائلة.. واشتغلت في الجبل والفرك… وأثناء ذلك قالت لابنها المقرفص أمامها: هات ابريق الزيت… وشرع الولد بالوقوف على قدميه ليطال إبريق الزيت المعلق في القنطرة، وقبل أن يتم وقوفه صرخت به: حاجي تصب زيت… كانت مهجوسة بالزيت… فاحتاطت للأمر قبل أن يبدأ ولدها بالصب. ومن عيثرون إلى يارين مروراً بحانين التي اجتثت كلها من فوق الأرض عام1976. يارين جارة مروحين والظهيرة والزلوطية والبستان والبطيشية.. وكانت في السبعينيات أسماؤها أكبر من مجموع منازلها وأحجام هذه المنازل المتواضعة. ولكن الراوي يروي أن أهلها اجتمعوا كلهم في منزل المختار صديقي رحمه الله ليالي العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وتباحثوا في الأمر وهمُّ مصر يشغلهم جميعاً، وعندما انتبه أحد الوجهاء إلى الوجوم الذي خيم عليهم خوفاً من الهزيمة قال: لا تشيلوا هم.. فإسرائيل ليس معها سوى انكلترا وفرنسا أما عبد الناصر فمعه يارين ومروحين والزلوطية والظهيرة والبطيشية والبستان والقسم الأكبر من عيتا ورامية ومارون الراس ويارون وقسم غير قليل من رميش وعلما الشعب ولذلك فسوف ننتصر.


والمعروف أن هذه القرى هي قرى بدوية وسنية.. كانت سنيتها أو مذهبيتها آخر ما يحضر في حياتها وذاكرتها إلى السنوات الأخيرة. وقد تداول أهل المنطقة خبراً عن يارين أوائل الخمسينيات… فقد أتم أهل القرية بناء مسجدهم وبقي أن يختاروا له مؤذناً، فما كان من أحدهم إلا أن ذهب إلى المرجع الشيعي السيد عبد الحسين شرف الدين في صور وحصل منه على إذن برفع الأذان في المسجد.. وكان هناك من يعارضه في ذلك، فما كان منه في صباح اليوم التالي إلا أن صعد المئذنة وأذن الأذان بالصيغة الشيعية (أشهد أن علياً ولي الله).. أما مروحين فمن طرائفها المروية أن مباراة في كرة القدم جرت بين فريقها وفريق يارين في الستينيات، وطبعاً كان (الشورت) لباس الفريقين، ما استهجنه أهل البلدة وقالوا: والله في عيتا الشعب ما بيصير هذا الأمر!
هذا اللطف وهذه البداوة المتحضرة المتشبثة بالأصول أثمرت شراكة عالية ومبكرة في المقاومة بين شباب هذه القرى وشباب القرى المجاورة وخاصة حانين ورامية.. وهناك روايات متداولة عن بطولات معروفة استفزت العدو فقتل من أهلها خلقاً كثيراً وهدم منازل كثيرة وهجر عوائل عدة، استطاعت في مهاجرها التي توزعت بين قرى الساحل من صور إلى الزهراني أن تبني أحياء لها وتتفرغ لحياتها علماً وتعليماً وعملاً في البساتين يلتقي فيه المعلم وتلميذه والأم وابنتها وحفيدتها.. سيّجوا عزتهم واستمروا على مواقفهم وقدموا شهداء… كان منهم نزيه الذي أحببته لنبله وعنايته الفائقة بوالدته التي بقيت في القرية وكان ينشغل باله في آخر الشهر كيف يوصل إليها ثلاثة أرباع راتبه ويبقى له الربع… استشهد مع ثلاثة من رفاقه على باب قرية حانين أيام حصارها.
وأختم ببيت ياحون.. أثناء عدوان حزيران.. كان شبان القرية متحلقين في مساحتها حول الترانزستور الصغير.. خرجت الحاجة صبحية العجوز وصاحت: شوفيها لايصة يا عمي؟ قالوا إسرائيل هجمت على مصر، قالت: ما فيكم دم.. روحوا لعند كامل بك خليه يصالحهم…

اقرأ أيضاً: العيد الذي لم يعد لو يعود

“بيت ياحون كهوف وثنية.. غرقت في الرمل والرمل زمان… بيت ياحون هي الأم الوفية… فأطلي آية الوعد أطلي، واقرعي خشب الصدرِ.. اركعي انفجري واغمريني… صدق الله العظيم” (محمد علي شمس الدين).
سلاماً يارين… سلاماً يا عيثا… يا حاج محمد سعيد سرور وحاج سعيد وحاج عبد الحميد والسيد يوسف مرتضى… سلاماً يا أصدقاء طفولتي وهم في عمر أجدادي… حسنة حجارة عيثا لحقت بكم.. ولكن أرواحكم عادت إليها.
“على أمواتك المتناثرين بكل منحدرِ
سلام جال فيه الدمع والوجدُ
على المتبدلات لحودهم، والغاديات قبورهم طرفاً..
وطيب رقادهم أرقاً.. يحن إلى النشور
ويرقب موعد الرب”
(السياب).

(من كتاب في وصف الحب والحرب)

السابق
ازدهار المسابح النسائية في لبنان…وممنوع التصوير!‎
التالي
«تاء التأنيث» في مجتمع ذكوري