نعم لنعمة محفوض في وجه سلطة الاحزاب المذهبية من أجل أن يبقى في لبنان «أثر» من ديموقراطية

أكثر ما أدهشني عند قراءة كتاب “فلاحو سوريا” لحنا بطاطو هو اكتشافي أنّ الحركة النقابية في #سوريا عريقة وأنّ الفلاحين البستانيين تمتعوا بإمكانات الاتحاد المهني باكرًا في القرون، السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر – إن لم يكن ابكر- في غوطة دمشق في “طائفة” تحت رئاسة زعيمهم (شيخ البساتنة). وايضا اتحد زملاؤهم في حلب وعلى طول نهر العاصي وفي مناطق حمص وحماه وانطاكيا على نحو مشابه في الفترة نفسها. وكانت روابطهم التنظيمية محلية اكثر منها على مستوى الامبراطورية. شكلت طائفتهم واحدة من 163 نقابة او نحوه، كانت ترجع في القرون المذكورة آنفا الى محاكم دمشق او حلب الشرعية لتنصيب شيوخ او عزلهم ولتسوية النزاعات، وذلك في اعراف غير مكتوبة. كانت هذه الطوائف/ النقابات جمعيات دعم متبادل ذات حكم ذاتي. وكانت طوائف دمشق “فريدة” في استقلاليتها النسبية، وعلى كل حال تمتع اعضاء نقابات الفلاحين البستانيين بالقدرة على حماية مصالحهم. بالطبع حماية مصالحهم تجاه السلطات وتسلطها.

هل تصدقون أنّ جميع أشكال التمثيل الديموقراطي هذه امحت من سوريا بحيث صرنا نعتقد ان سوريا هذه وجدت دائماً تحت سلطة آل الأسد والى الأبد؟ فكيف تمكن حافظ الاسد من الاطباق على سوريا بهذا الشكل؟ هنا أعيدوا قراءة ميشال سورا وحنا بطاطو.

اقرأ أيضاً : ما الذي تكشفه إحصاءات قتلى حزب الله بسوريا؟

لقد استطاع نظام الاسد القضاء على جميع اشكال التنظيمات والمهنية والنقابات من طريق ضربها وتفكيكها والهيمنة على قراراتها، لأنه اكتشف ان هذه احدى ادوات السيطرة التامة على المجتمع وصولاً الى السيطرة القصوى التي يطلق عليها اسم البيوبوليتيك او السيطرة التامة على الاجساد.

وكنموذج عن الانظمة المستبدة، كان هذا في الحقيقة ايذانا بالانتقال من نمط سلطة الى آخر، اي الانتقال من السيطرة القضائية على رعايا الى السيطرة على الحياة والجسد. كان فوكو قد عرّف هذه السياسة كالآتي: “السياسة التي تستولي على الحياة”، فلا يعود الاستيلاء على الاراضي وحده مصدر الثروة بل الاستيلاء على الجهد البشري المبذول. البيوسلطة صارت امتلاكاً أو إدارة، أو الإمساك بكل ما له علاقة بالوجود البيولوجي للفرد وللسكان، منفردين وجماعات.

جميعنا يعلم نوع السلطة التي مورست – ولا تزال- في النظام الاسدي الاول والثاني والى أين اوصلت سوريا والشعب السوري.

جرت منذ السبعينات والثمانينيات، خصوصا مع موجة الاغتيالات الاولى، محاولة تخويف اللبنانيين، وقد نجحت المحاولة. ومن جديد تم في لبنان التسعينات تطبيق الاسلوب نفسه الذي قضى على النقابات في سوريا. يشير كمال ديب في كتابه “الجسر العتيق” إلى أنه ظهر في لبنان التسعينات نظام يمسك بالامن ويضرب المعارضة المسيحية التي كانت ترفض دولة ما بعد الحرب او ترفض الوصاية السورية على الدولة. هذا الوضع الشاذ ادى الى سلطة لبنانية تريد فرض “الوفاق الوطني” بالقوة حيث اصبح البلد “ممسوكاً وليس متماسكاً”. فتراجعت الحريات العامة ومنعت التظاهرات واعتقل المعارضون ولا سيما انصار عون (رزق الله على تينك الايام!). وتدخلت الحكومة في الاتحاد العمالي العام لضرب استقلاليته ومتانته، وهو جسم شكل واقعا مهما في لبنان منذ الستينات حتى نهاية الحرب. وادت تدخلات الحكومة الى انشقاقه في انتخابات 1996، فلم يعد قادرا على اطلاق التظاهرات الكبرى كما في السابق. كما تدخلت الحكومة ومَن وراءها من زعماء و”دعم سوري”، في شؤون الحريات الاعلامية وضغطت على الصحف والاذاعات ومحطات التلفزة واصدرت مراسيم قلصت من حرية الصحافة.

وبدت ممارسات الدولة عبارة عن خطوات قام بها من هم في السلطة لتحسين مصالحهم السياسية والمالية عبر امتلاكهم مؤسسات اعلامية كبرى او مشاركتهم فيها. كما تعرضت حرية الاحزاب والجمعيات للاضطهاد بواسطة وزارة الداخلية حيث فسِّر “العلم والخبر” بطريقة عشوائية وصار كأنه بمثابة شرط قانوني وصار الجواب عنه كأنه رخصة، ما ضرب حقوق المجتمع المدني وناقض الدستور الذي تحوّل الى ألعوبة في يد سوريا وحلفائها.

الان، بعدما تخلصنا من هيمنة النظام السوري، نرى البلد وسيادته ودستوره وطبقته السياسية ومصيره يتحوّل الى ألعوبة في يد حليف نظام الاسد: “حزب الله“.

هناك من يحاول استعادة تجربة النظام الشقيق بطرق تدريجية وملتوية من اجل السيطرة التامة على لبنان من جديد والقضاء على جميع الاشكال التنظيمية التي تساعد المواطنين على مجابهة السلطة لحفظ حقوقهم، سواء أكانوا افرادا في مجتمع مدني او منظمين في ما تبقى من جسم نقابي تمت الهيمنة على معظم اطرافه.

ليس في هذا الكلام مبالغة، عندما نرى في القضاء على النقابات تهديداً لمصير الحريات والديموقراطية في لبنان، أو في أي بلد آخر، لنستعيد ما سمِّي مفاجأة “نوبل للسلام” في تكريم رباعي الحوار الوطني التونسي الذي أنقذ البلاد من حرب أهلية وحمى الانتقال إلى الديموقراطية في مطلع تشرين الاول من العام 1915. الرباعي المقصود يضم “الرباعي الراعي للحوار الوطني”، الاتحاد العام التونسي للشغل، الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية (منظمة أرباب العمل الرئيسية)، الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والهيئة الوطنية للمحامين التونسيين (نقابة المحامين). وهي جميعها اجسام نقابية تونسية لها تاريخ عريق في تنظيم الحياة المهنية منذ ان كان بورقيبة في السلطة. ورأى فيها الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل حسين العباسي رسالة أمل للمنطقة عن حق وجدارة. وهي التي حمت تونس من هيمنة “حزب النهضة” وتحويل التجربة التونسية الى مثيل التجربة المصرية مع “الاخوان”، وما تبع ذلك من وقائع

من هنا تكتسب المعركة النقابية التي يخوضها نعمة محفوض – بعد ان جرى اسقاط حنا غريب في التعليم الرسمي، وبعد ان صار الاتحاد العمالي العام دمية في يد السلطة – أهمية قصوى. وعلى المجتمع المدني حماية ما تبقى من جسم نقابي مستقل والحفاظ على الحراك النقابي والعمالي من اجل اعادة احياء دوره. فالنقابات وجدت لتحسين المهنة وظروف العاملين فيها، وتحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية، وبذلك تكون في مواجهة السلطة التي تسعى إلى الحفاظ على مكتسبات من يتحكمون بها. وقد خاضت النقابة معركة لا تزال مستمرة من أجل تصحيح الأجور والمطالبة بسلسلة رتب ورواتب.

في 25 آذار الماضي كتب النقابي غسان صليبي في “النهار” مقالة تحت عنوان “رسالة إلى الصديق بشارة الأسمر: كيف تقبل أن تكون رئيساً لاتحاد ميؤوس منه”؟ مضيفاً: “وقد كتبت مرارًا أن هذا الاتحاد لم يعد ديموقراطيًّا ولا مستقلاًّ، وهو بتركيبته الحالية، عاجز عن الدفاع عن حقوق العمّال والموظفين. لا أمل في التغيير من داخل الاتحاد وبمبادرة منه”. وكتب صليبي ايضاً في 1 تموز في “النهار”: “البارحة، جرى اسقاط حنا غريب في التعليم الرسمي، على يد تحالف الاحزاب المذهبية في السلطة !

اليوم جاء دور نعمة محفوض في التعليم الخاص. جاء دور إسقاطه!

اقرأ أيضاً : «جنوبية» تكشف تفاصيل معركة الجيش السوري وحزب الله في ريف حلب

الرجلان قادا معركة سلسلة الرتب والرواتب باستقلالية وشجاعة!

الاحزاب المذهبية لا تحب الاستقلالية، فهي مولعة بالتبعية، إما للخارج وإما لزعيمها الأوحد، او للاثنين معا! الاحزاب المذهبية حريصة على المحاصصة في ما بينها، حرصها على وجودها. التوزيع العادل للثروات، او العدالة الاجتماعية، هي بالنسبة لها، “محاصصة طبقية”، وهذا خطر على تركيبتها، على وحدتها الداخلية، على قيمها، على آلية عملها .يجب أن تبقى “المحاصصة الطبقية”، في خدمة المحاصصة المذهبية، و”التوزيع العادل” للسلطة. لذلك تتضامن الاحزاب المذهبية بعضها مع بعض، في الانتخابات النقابية، لفرض محازبيها على رأس النقابات. ومحاسن محازبيها “المنتخبين” الذين يأتمرون باوامرها”. انتهى الاستشهاد.

اعتقد ان الموضوع باختصار لا يتعلق فقط بقضية شخص اسمه نعمة محفوض، بل هي قضية مستقبل لبنان ومستقبلنا نحن كمواطنين لبنانيين مسؤولين عن مصير بلدنا ومستقبل اولادنا واحفادنا، وكأفراد في المجتمع المدني الذي يشكل فضاءً متميّزاً عن أجهزة الدولة يسعى لأن يؤثر فيها كي يتعداها إلى التأثير في الشأن العام.

هذا واجبنا، اذا اردنا ممارسة الشأن السياسي بالمعنى الواسع، وليس بالمعنى الضيق، المؤسساتي والحزبي. في إمكاننا ومن واجبنا حماية لبنان ونقاباته المتبقية عبر تشكيل قوة ضغط على مؤسسات الدولة وأجهزتها بما نملكه من تأثير – ولو بسيط- في الرأي العام.

نعم لمساندة نعمة محفوض، كآخر ممثل نقابي مستقل عن السلطة.

السابق
الحزب يخفض الرواتب وعناصره يرفضون القتال في سوريا
التالي
غارة اسرائيلية تستهدف موقعاً لحزب الله وتسقط أحد عناصره