وا أسفاهُ على طرابلسَ…

من أجمل وأغنى مدن البحر المتوسط تحولت الى مدينة المحاور والزعامات.. إنها طرابلس!!

طرابلسُ الأمسِ أسمَى وأجملَ وأغنَى مُدُنِ البحرِ الأبيضِ المتوسطِ، فكانت بحقِّ فيحاءَ العربِ ومنهلَ العلمِ والشعرِ والأدبِ، مثّلّتْ دورَ الأزهرِ في العلومِ الدينيةِ من خلالِ الكليةِ الإسلاميةِ في بلادِ الشام، حجَّ الناسُ إلى أسواقِها ومدارسِها ومساجدِها وكنائسِها من كل فجًّ عميق، وشكَّلَت قِبلةَ الأدباءِ والمفكرين، ومشايخُها برتبةِ فُقَهَاءَ وفهماءَ أمَتَعَهُم الله برجاحةِ العقلِ وآتاهم من الحكمة وعلَّمهم مما يشاء، فكانوا منارةً تربوية ًوقياداتٍ واعيةً راشدةً، فاستَحَقَّت لقبَ (مدينة العلم والعلماء) وساستُها فيما مضى رجالاتٌ في المواقف والعمل بصبغةٍ وطنيةٍ على مساحةِ وطنٍ شارَكُوا في استقلالِه.

إقرأ ايضا: معذرةً أيها المسلمون إنها الحقيقة..

وفي الماضي القريبِ ذاتِ التاريخِ المملوكي كانتْ أنموذجَ النَّظافةِ في الطرقات والشوارع والأزقة ومدخل البناية وفي الأسواق والساحات والحدائق والشواطئ وفي معالِمِها السياحيةِ الموجودةِ فيما باقي المدينة كان بساتين وسهلاً خَصْباً ومرتعاً للمزارعين.

وطرابلسُ اليومَ ليستْ طرابلسَ القرنِ العشرينَ والقرونَ السِّمانِ الأولى، فكلُّ شيءٍ فيها الانَ تغيَّرَ واخْتَلَف،حتى أضْحَتْ أسيرةَ الأزماتِ السياسيةِ من فلسطينَ إلى سوريا إلى العراق إلى اليمن وربطُوها بالنزاع العربي الإسرائيلي والحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفياتي وطموحات القذافي في الوطن العربي والقرن الأفريقي، وما زالتْ تدفعُ ثمنَ نزاعاتِ الآخرينَ على أرضِها، حتى نُزِعَ عنها لقبُ مدينة للعلم والعلماء والعاصمةَ الفيحاء، فأهلُها هجَرُوا أحياءَها القديمةَ التاريخيةَ ونَزَحُوا لشوارع المئتين وعزمي والثقافة والمعرض والضم الفرز والبعض نحو مناطق الكورة والبترون، وخَلفَهُم في تلك المساكنِ مساكينُ الأرياف فعاثَ بعضُهم فيها الخرابَ التدريجيَّ إلى زمنِ ظهورِ قادةِ المحاوِرِ حتى عَلَوا وعَتَوا وجعلوا أعزةَ أهلِها أذلةً وصاروا يتصدَّرون عناوينَ الصُّحُفِ والمجلاتِ كزعماءَ ووجهاءَ (لمدينة العلم والعلماء سابقا)، وتحولّت طرابلس القديمة إلى حزام بؤس وأضْحَتْ أزقتُها وأحياؤُها بيئةً موبوءَةً لا تَصْلُحُ للسَّكَنِ الآمِن، وأفَرَزَتْ تلك الحالةُ مجتمعاتٍ متباعدةً ما بين مناطقَ راقيةِ ومناطقَ كالثوب المُرَقّع، والفجْوةُ تكبرُ يوماً بعدَ يومٍ حتى اتَّسَعَ الخِرْقُ على الراقِع.

وَإذا ما جِلْتَ بسيارتك وعلى الأقدام في شوارعِ الأحياءِ القديمةِ والشعبيةِ ستتحسّرُ على مظاهرِ الإهمالِ وسيتلوّثُ بَصَرُكَ بالنفاياتِ الفائضة عن المستوعبات، وتشمئزُّ نفسُكَ حين تَمُرُّ على شاطئِها فتشتمُّ رائحةَ المجاريرِ التي تصبُّ في البحر، حتى أنك لَتَجِدُ في كلِّ زواياها البَسْطاتِ العبثيةَ والمسيئةَ، إضافةً لاعْتداءِ المحلاتِ التجاريةِ على الطُّرقاتِ والأرصفةِ العامةِ ومكانِ ركنِ السيارة، فسلطة القانون فيها لا يتجاوز دَفَتَيْ الكتاب، وعلى الأرض فكلُّ شارعٍ لهُ أربابُهُ الذين يُسَطِّرُوْنَ الخُوَّات باسم الحماية والأمر الواقع. حتى غدا المرورُ بطرابلسَ باتِّجاهِ بيروت أو المنية مرض يومي للمواطنين بسبب فقدان المدينة لنظام السير والإشارات والفوضى العارمة في تنفيذ المشاريع والحفريات الدائمة التي شَوَّهَتِ المدينة.

وأمامَ مُرِّ الحقيقة فإنَّ أعلى نسبة غنى في لبنان هي في طرابلس، والخطورة تكمن في تنامي الحضور والخطاب الشعبوي حتى بدأنا نسمع أصوات الشاذين (التكفير والتنفير والوعيد) الذين احتلوا الساحات والمناسبات حتى ظنَّ البعيدُ أن طرابلسَ داعشيةٌ أو خارجة عن القانون، مع أنَّهم أقليةٌ أمامَ سبعِمائةِ وخمسين ألفِ مقيمٍ يريدون العيشَ بكرامةٍ وبسلامٍ وأمانٍ وتحتَ سلطةِ الدولة دونَ سواها.

والمشكلة أنَّ العائلاتِ الطرابلسيةَ البرجوازية انزَوَتْ وانحسرَ دورُها في الصالونات،والطامحون في السياسة رأوا ضالتَهم في الأحياء والمناطقِ الأكثر فقراً وبؤساً وتعاسةً مستغلِّينَ حاجتَهم لِيَعبُروا من خلالهم إلى برلمان الحياةِ الذهبية والسعادة الأبدية.

فطرابلس اليوم تعاني نقصَ الإنماءِ والإنتماءِ من قبل القائد والقيادة والقاعدة، حيث عجزوا عن حماية وتطوير مدينتهم، فجميعهم ساهم في التنكيل وتمزيق صورتها وجعلها على صورة أضعف قرية في ريف عكار والبقاع.

وسيشهد التاريخُ الحاضرُ أنَّ مدينةً عمرُها أكثرَ 3500 عام أسَّسَها الفينيقيون، وتعاقبت عليها الأممُ والعهودُ من الفينيقيين ومروراً بالرومان، والبيزنطيين، والعرب، والفرنجة، والمماليك، والعثمانيين وحتى الانتداب الفرنسي وما تلاه أنَّ ممثِّليها ومرجعياتُها الرجعية هم جزء من الفوضى الخلاَّقة فيها وأداةُ هدمٍ ما بناهُ الأجدادُ والآباءُ.

إقرأ ايضا: الضرائبُ المجحفةُ والرواتبُ الظالمة

وهم مَنْ أتَوا بالمسعوريين لينهَشُوا ويشوِّهوا جمالَ عاصمةٍ ومدينةٍ حوَّلُوها من فيحاءَ وخضراءَ إلى بلدٍ تَفوحُ منه روائحُ النفاياتِ والمجاريرِ وجعلوا ساحاتها مربضاً للبسطات الثابتة والجوّالة. وهي تسوءُ يوماً بعدَ يومٍ من مرتبة أغنى عاصمة عربية إلى أفقر مدينة في لبنان والوطن العربي.

كلُّ الاحتفالاتِ والمناسبات التراثية والمسرحياتِ والمهرجاناتِ والمؤتمرات التي تقام في طرابلس الآنَ لا تَعكسُ أرضَ الواقعِ الذي بات متعطّشاً لماء الأمن وتحت الفصل السابع.

السابق
أسرار الصحف المحلية الصادرة يوم الثلاثاء في 13 حزيران 2017
التالي
بالفيديو: ضحية أفضلية المرور يتحدث.. والجاني هو الضابط!