بطل حسن داوود يتوه «في أثر غيمة»

"في أثر غيمة"، هو إسم الرواية الجديدة، للكاتب اللبناني والروائي حسن داوود (الحائز على جائزة نجيب محفوظ للأدب لعام 2015).

و”في أثر غيمة”، هي رواية صادرة حديثاً عن “دار الساقي” في بيروت. وفي طبعة أولى 2017.

وبطل الرواية وراويها هو شاعر أسماه الكاتب “سالم الشريف”؛ قرر التفرغ للكتابة بعد تركه وظيفته، وفي إطار هذا التفرغ، لقد قام برحلة نهرية؛ وحول هذه الرحلة تدور أحداث هذه الرواية.

اقرأ أيضاً: حسن داوود 1/2: الماضي هو الذي دفعني إلى الكتابة

فـ”في أثر غيمة”، يعلن سالم: “جئت من أجل الباخرة”، إجابة عابرة أطلقها سالم وهو يشرح سبب قدومه إلى رحلة قصيرة عبر النهر، قرر أن يكتب فيها ويقرأ.

كل الذين أتوا كانوا أزواجاً، ورجعوا كذلك، اثنين اثنين، سوى فريال التي “انتقمت” من الأمل الأخير لتميم، فنزلت فجأة من الباص. سالم فقط أتى وحيداً، وعاد وحيداً، دون أن يدري هل كان يجب أن يفعل شيئاً لمن لاحقت خياله دون شهوته لمى!

لقد خانته التفاصيل، التي لم تغب عنه أصغرها، لكنه لم يجد إلا أن يقنع نفسه بما سمعه من تميم: في الرحلات، لا شيء مما يحدث، يحدث حقيقة، تماماً كما الأحلام.

ومن أجواء الرواية هذا المقطع:

«أما زال ضرورياً بقاؤنا هنا؟ كانت يدها قد انسلت من يدي، وما نشاهده أمامنا، على الحلبة وأطرافها، ظل على حاله. لم يظهر ما يدل على أن السهرة ستنتهي في وقت ما. ذلك الهرج الذي يؤدّيه لم يتبدل فيه شيء. لم يقل عددهم لتتسع الحلبة لمن قد يبقون منهم، ولم يجمعوا بعضهم بعضاً في رقصة الطابور الطويل، تلك التي يكونون فيها قد بلغوا أقصى بهجتهم.
مثل لمى كنت راغباً في القيام، لكن كان ينبغي، قبل ذلك، أن أحذر من تعريض ما نحن فيه إلى تلك التفاصيل:إلى أين سنقوم؟ هل سنخرج معاً أم يتبع واحدنا الآخر؟ ثم، ماذا لو عاد عبد الإله في لحظة ما كنا خارجين معاً، أو في لحظة ما كان واحدنا خارجاً من دون الآخر؟ وماذا لو صادف خروجنا مجيء رضوان وليس عبد الإله؟
إن كنا سنقوم فلنفعل ذلك الآن، قالت لمى بما بدا أنه احتجاج على ما أغرق نفسي بالتفكير فيه. وإذا لم تحظ مني إلا بتلك النظرة المفكرة المترددة، قامت عن مقعدها، هكذا بحركة منتفضة، وخطت نحو المسافة الخالية بجانب الطاولة.
مذعناً قمت من بعدها، مستعداً أن نبدأ مشينا معاً إلى الخارج، وصامتاً عما أردت قوله إن من الفضل لنا أن نخرج منفردين.
رحت أتبع سيرها بمحاذاة أولئك المنشغلين عنا برقصهم وتصفيقهم، لكنني، قبل خطوات من البوابة، تقدمت لأصير إلى جانبها، خارجاً معها، ومشاركاً إياها في ما قد نتعرض له.
لا، ليس المصعد، قالت وهي تسبقني إلى نزول الدرجات في الأسفل، في الممشى المضاء بما يفيض من أنوار السطح القوية، أمسكتني من يدي محولة وجهتي عن المسافة المؤدية إلى غرفتي. “أعرف مكاناً أفضل”، قالت وهي تتقدمني لنسير مستظلين بجانب المبنى المرتفع فوقنا. وقد عبرنا واجهته الأمامية كلها، تلك المحاذية للساحة المكشوفة، ثم انعطفنا مبتعدين عن درج النزول مستمرين في مشينا إلى درج صغير موصل إلى الطبقة التي فوقنا، تلك التي كنت رأيت لمى تقف عندها، في الأعلى، ناظرة إلى جيهان وهي بين يدي من ينزلون بها إلى حيث القارب الذي سيذهب بها ومن معها مبعداً إياهم عن الباخرة. “سنكون حيث لن يهتدي إلينا أحد”، قالت وهي تصعد درجات أخرى، ضيقة وقليلة، إلى ما بدا لي أنه أقل ارتفاعاً من أن يكون ملحقاً بواحدة من طبقات المبنى. “أنظر أين سنختبئ”، قالت لي مشيرة إلى ما يشبه غرفة صغيرة منخفضة السقف، منكشفة حيث لا جدار يحجزها عن مشهد ضفّة النهر أمامها.

كتاب حسن داوود
هذا ليس مكاناً لاختباء، قلت وأنا أدل بإصبعي إلى حيث سنجلس معروضين لمن قد يعبر من أمامنا.
اطمئنّ، قلما يأتي إلى هنا أحد.. ثم إن حدث ذلك، سنشاهد كأننا جالسان نتحادث على شرفة.
كانت الغرفة هذه، أو نصف الغرفة، معدة للجلوس إذ أسند إلى حائطها مقعد خشبي طويل، ذلك الذي أشرت بإصبعي إليه متسائلاً، مرة أخرى: “كيف يمكن أن يكون هذا مخبأ لا يعلم به أحد”؟
إنه مخبأي الذي لن يكون بين الأمكنة التي يقصدونها وهم يبحثون عني. تصور أن تكون محتجباً عن الناس والمشهد مفتوح أمامك في الوقت نفسه، ثم إن هذا يلائمنا أكثر بكثير مما لو كنا وراء باب مقفل.
إنها تذكرني بتلك الليلة، وها هي ترفق جملتها الأخيرة بابتسامة مخابثة لأفهم أنها تقصد شيئاً مما حدث في تلك الليلة، شيئاً يخصّني. كان علي أن أجيب، بسؤال ربما، عما تقصده، لكنني اكتفيت بأن جعلت أبدو منتظراً جملة أخرى تقولها.
إنه مخبئي… حيث تقيم يجب أن يكون لك مخبأ تهرب إليه قالت متحوّلة عما كنت أنتظر أن أسمعه.

اقرأ أيضاً: حسن داوود 2/2: أجمع شتات مواضيع عن تجربة حياة عابرة

لكن أتقيمين هنا، أقصد في الباخرة؟
أعمل هنا وأقيم هنا.
يعني ستعودين إلى هنا غداً بعد أن توصلينا إلى المطار.
ليس بالباص نفسه، تخيّل أن يعود بي وحدي، ثم ليس من المؤكد أن أكون أنا، من سيرافقكم.
أجفلني ذلك. رغم ما قد يحدث بيننا الليلة، لم أكن أحسب أن ذلك سيكون نهاية لقائنا. كنت قد تخيلت نظرات كثيرة وألّفت كلام وداع كثير، بل نقّلت نفسي بين المقاعد وأنا أفتش عن المكان الذي يليق بلحظات الوداع».

السابق
وضع اللمسات الأخيرة على قانون الانتخاب
التالي
إعدام في لبنان؟