يراعتي وعمامتي والحرب

هاني فحص

حرب تموز 2006

أول ما واجهني في هذه الحرب من مشاكل مشكلتي مع الإعلام، صحف محلية وعربية وأجنبية، وكالات أنباء، إذاعات وفضائيات عديدة تطلب مني حديثاً أو حواراً، وقد استطعت بحمد الله أن أنجو منها كلها، لذلك أعتبر أني خرجت من هذه المشكلة سالماً، واللافت أنه ما من صديق هاتفني طالباً لقاء إعلامياً، إلا وانتهى موافقاً على صواب امتناعي، ولم أكن أحتاج إلى كلام كثير لإقناعهم، ما كشف لي أن لأكثر الإعلاميين شخصيتين، شخصية الموظف الذي يقوم بعمله ذاتياً أو بناء على طلب من رؤسائه، وشخصية المواطن الذي يتجادل وعيه الحقيقي مع وعيه الوظيفي، في فضاء الشخصية الثانية كنا نلتقي ونتوافق بسرعة.. وعندما كنت أُسأل لماذا التمنع؟ أنفي أن يكون دلالاً أو استكباراً أو عجزاً، وأؤكد على خوفي من المشافهة والحوار المباشر، أخاف أن استعجل وأخطئ، وأخاف أن لا أخطئ وأفهم خطأً، ذلك أني غير مندفع، ولا أنتمي لتيار المدح ولا تيار القدح، وأصرّ على الوسط مكاناً لعقلي وقلبي ولساني، إذن فأنا عاجز عن قول المطلوب مني، وهو ليس واحداً، بل هو في أقل التقادير اثنان لا يجمعها جامع، والسبب الواضح لهذه الإشكالية بالنسبة لي، هو الاعتدال، الذي يغري كلاً من الطرفين المتعارضين والمتهاجيين، بأني جاهز لقول ما يريد أو ما يحب… وكذلك عبرت عن خوفي من طغيان انفعال ما عليّ بحيث أقول كلاماً لا أفكر فيه ثم يأخذني سؤال آخر إلى قول النقيض فلا أرضي أحداً، ذلك أني كما كثيرون اكتشفت كثرتهم لاحقاً، كنا ممتلئين بمشاعر وأفكار مختلفة.. فمرة نحن هنا ومرة نحن هناك، وعندما كنت أعبر لجلسائي عن مشاعري كانوا يقتربون من اتهامي بالنفاق والتناقض، ولا يلبثون أن يقعوا فيما وقعت فيه من توزع بين المقاومة على الخطوط الأمامية والتي تلعب برؤوس الصهاينة بتواضع جمّ، وبين الدمار الذي يخترق الحجر إلى أعصاب البشر، ويمرّ من ثقب في جدار المنزل إلى حيّز رخو في جدار الوطن، وبين الخطاب المقاوم في الإعلام والذي يقترب من محاولة تحويل تواضع المقاومين والمهجرين إلى كبرياء إعلامية تخلط الذاتي بالموضوعي، أو تلغي الموضوعي لمصلحة الذاتي فتذهب معها، ريثما تنتبه إلى أنك بلغت الستين ومررت بدعاوى اكتسحتك على مدى عقود من عمرك وعمر القضية، ثم عندما انكشفت أمامك، وحاولت أن تقول الحقيقة كما تجلت لك لتجنيب من بعدك الوقوع في إغراء السهولة والإطلاق والتعميم، يواجهك الأقل منك عمراً وخبرة، وأحياناً الأقل التزاماً ووعياً وتدقيقاً في الأمور، يواجهك باستنكار لخيانتك لقضاياك وماضيك ووطنك وعروبتك وقوميتك ودينك وطائفتك وأهل قريتك والأكثرية من جيرانك وأقاربك… ويعظك ويذكّرك بما قلت وكتبت وناضلت، فتؤكد أنك لا تتعرّى من ماضيك، ولكنك تجد من واجبك ومصلحتك ومصلحة الأمة والطائفة والوطن أن تنقده حتى لا تتكرر الأخطاء… ويمر الكلام مرور الكرام فتلجأ إلى المجاملة وتدوير الزوايا إلى حد إلغائها طلباً للسلامة وحفاظاً على المودة، وتشعر يومياً أنك على حافة النفاق.. بل ربما تكون قد مارست النفاق من دون أن تدري، وربما يكون مَن حاورك من موقع الشفقة عليك أنك نافقت معه كثيراً.

اقرأ أيضاً: العيد الذي لم يعد لو يعود

أكاد أقول بأن أغلب الذين التقيت بهم كانت هذه حالي معهم، وأكثرهم من الشيعة وبعضهم من السنة والدروز والمسيحيين، وهذا النصاب وطني عظيم، يعني أننا يمكن أن نلتقي.. ولكني أجلت الاستبشار بهذه الفكرة إلى ما بعد الحرب، إذ قررت أن أكون أكثر صبراً وحكمة، لأن الأطراف المختلفة في لبنان سوف تكون بحاجة إلى اعتدالي ووسطيتي، طالما أن الواقع غير قادم على حسم كامل للأمور، أو هكذا أقنعت نفسي وقررت ان أقلل من كلامي وأن أقطع مع أصدقائي حتى لا أوسع مساحة اختلافي وأحتفظ بأعصابي إلى ما بعد الحرب على لبنان. أي إلى موعد السلم على لبنان، على أساس أننا في لبنان، ولمعايشتنا للحرب في السلم ننتظر الحرب لعلها تجمعنا وعندما تفرقنا الحرب أكثر نعود إلى تعليق وحدتنا وتفاهمنا على السلم الذي يحيلنا مجدداً على الحرب، إذن فكأننا نعيش الحرب في السلم والسلم في الحرب، أو نعيش الحرب في السلم والحرب!!! لا أدري! ولا يبدو أنني سوف أدري وقد “هلك من ترك قول لا أدري”، ولا أدري نصف العلم كما يقول علي (ع).

قال لي أحد الإعلاميين الذين امتنعت عن موافاتهم إلى الاستديو! ولكنك تكتب! فقلت الكتابة غير الارتجال، فأنا في الكتابة أسيطر على الكلام وفي المشافهة يسيطر عليّ الكلام، يجرني بدلاً من أن أجرّه، وأكتب وأنا وحدي، في عزلة، ولا أكتب إلا عندما تكون أعصابي هادئة، عندما أريد، وأعود إلى ما كتبته مرات عدة، أحذف هذا وأعدّل ذاك وأشرح ذلك من كلامي، إلى أن خلوتي تعطيني فرصة لركوب لغتي أو ركوب لغتي لقلمي، ولأني عاشق للغة ومخلص فهي تطيعني تعطيني من مجازاتها واستعاراتها وكناياتها وقدراتها الالتفافية على المعنى وفرصة الغموض التي توفرها، فأنجو من المباشرة والتقرير وأضفي على نصي السياسي طابعاً ذاتياً إبداعياً يسلّي القارئ ويراوغ قلبه ويحميني من الغضب ويعفيني من كثير من المجاملة ليبقى ما تبقى منها في حدود الأدب والأخلاق والجمال التي تحاول أن تهدي النقد إلى المنقود من دون أن تجرح، أي إنها توضّبه في (علبة) لغوية تؤمن له قبولاً نسبياً… أي يكفّ النقد عن أن يكون شتيمة أو كيداً أو عداوة، وتكف المجاملة التي لا بدّ منها عن أن تكون نفاقاًأو مسحاً للجوخ أو الغبار عن أقدام القادة والزعماء. وما حيلتي.. وخلال الستين من سنوات عمري مجّدت وامتدحت وهتفت بالروح والدم، لأكتشف لاحقاً وبعد تراكم الخسائر والانكشافات (أن الباشا زلمة) يخطئ ويصيب، وأن المطلق وحده هو الله، وأن المقدس قد تحمّل المدنس، حتى بتنا مضطرين إلى تضييق مساحته، أي تخليصه من الزائد والمضاف من الأفكار التي تحولت إلى عقائد والأشخاص الذين تحوّلوا إلى عقد.. في النهاية لا أعتقد أني نجوت… فيما قليل ينبري لإدانتي وشجبي كل القاعدين في الأطراف متقابلين، وربما عادوا فالتقوا، ولكنهم سوف يتنكبون الطرق التي تمرّ بهم على رعيل المعتدلين الذين لم يتحولوا حتى الآن إلى مشهد متماسك ومعتصم من الابتزاز.

هذه الحيرة، لا حيرتي، بل حيرة وضعي بين الأمزجة المختلفة أو المتبدلة بين حدث وحدث وخبر وخبر، حماساً للمقاومة وأطرها السياسية، أو شجباً لها بعد كل غارة تقترب من منازل جلسائي وأرواح من تبقى من أهلهم في ديارهم المقصوفة… تعدّت كلامي المباشر والمضطرب والمضطر كل مرة إلى الاعتذار عنه، لأن مزاج السامعين لم يستوعبه، تعدّته إلى الاعتراض على ممارستي لوظيفتي الوحيدة المتاحة، أو غريزتي في الكتابة، ومن دون معرفة بما أكتب… فالذي لا يقرأ إلا الأخبار من الصحف، كان مضطراً لتمضية الوقت إلى المرور عاماً على صفحة الرأي والقضايا، يقرأ عموداً أو نصفه أو سطوراً منه، ويعثر على كلمة لا تروق له، ولا خيرة عنده في شأن سياق الكلام أو لحنه على ما يقول أهل اللغة، فيرمي الصحيفة من يده بعصبية، ويظهر عليه الخوف، فلربما قرأ سياسي معين أو عسكري أو عميل صهيوني هذه الكلمة أو هذه الجملة وانفعل وقرر أن ينال مني، وقد ينال مني في مكان وجودي، بعدما شاعت الأخبار أن الأصدقاء والأعداء يعرفون كل شيء، كل التفاصيل ويستطيعون أن يطالوك في أي مكان من دون تفكير بمن يعيشون معك، وقد قتل العدو مئات الاطفال والشيوخ والنساء طمعاً باصطياد مقاتل واحد أو ما بدا له أو لعملائه أنه مقاتل. إذن فهم جميعاً، النساء والأطفال والرجال سوف يقتلون بسبب مقالتي، أو عبارة من عباراتها، يا عمي أنا معتدل ولست في حساب أحد حتى يتبعني لينال مني في هذه الحرب المعقدة والظروف الشائكة.. لا يصدق، ويسألك مستنكراً لماذا تكتب؟ هل هناك ضرورة للكتابة؟ لولا الكتابة لما أصابنا مكروه… يا عمي الكتابة شغلي كما أن التجارة شغلك… دبر شغلاً آخر… بعد الستين؟ وليت المسألة تقف عند هذا الحد من الأحباب والأهل والأقربين… بل إن العدوى تصل إلى الشركاء في الحياة والهمّ… ينسى الشريك أن شراكتنا قامت فيما قامت على الحبر وأوراق الدفاتر، وأننا احتمينا بالكتاب والدفتر من الخمول والهامشية والكسب غير المشروع. أعيد ما قلته مرة على الشاشة ومباشرة بأن أسوأ خيار يتخذه العربي هو أن يكون كاتباً او مثقفاً إلا القليل القليل ممن ينعم الله عليهم بالأمان.. ذلك أن القلق هو وقود الكتابة، فإن لم تذهب إلى القلق أتاك من حيث لا تدري، فإن لم تذهب اليه ولم يأت شعرت بالاختناق والعدم.. لا أدري، هناك لذة عارمة في هذا الاقتراف تجعلك وأنت ترى للآخر الذي ينظر فقط ولا يرى، لا ترى ذاتك، تراها في الآخر، فإن مللت أو اعتزلت أو جف حبرك، لم تعد ترى شيئاً، لم تعد ترى ذاتك في الآخر، لأنك لا ترى الآخر في ذاتك، والآخر ليس هو الذي يوافق عليك فقط، بل الذي يخالفك ويفتك بك أحياناً… في الكتابة نحن أحوج إلى نقائضنا لنكتشف ذواتنا ولغاتنا.
حاشية على سيرة الحرب أو سيرتي في الحرب. انتقلنا بعد قصف الضاحية إلى منزل صهرنا في الصنائع… وبتلقائية او عفوية كنت أذهب ظهراً إلى منزل صهري لموافاة الأهل هناك لأعود مساء، في النهار كنت محرجاً، تمتد يدي إلى عمتي وحدها فتنزعها عن رأسي لتستريح على ركبتي في السيارة، فإذا ما نسيتها على رأسي نبّهني رفيقي السائق إلى ضرورة نزعها، مؤكداً نفور الناس في الشوارع منها.. وعندما أهبط من السيارة أحملها تحت إبطي مغطاة بالعباءة المنزوعة أيضاً وأدخل العمارة من دونها.. وعندما أدخل المنزل أختار لها مكاناً لا نغادره إلى الليل، لأن الجلوس يكون على الشرفة… وللجيران عيون فلا يجوز التبرج المعمم أمام عيونهم لأنهم يخافون من (الإم كا) أو (أم كامل).. يخافون من الدين إذا تمظهر ويأمنونه اذا ما بقي في الداخل مستوراً، (دراكولا) كما قال لي فيصل سلمان مداعباً مشفقاً وشامتاً على طريقته الفكهة… وفي المنزل الذي أقمت فيه وحدي لمدة أسبوع، قبل أن تترك العائلة مع بعض أقاربها منزل صهري، في الروشة، في شقة صديقي الكويتي الحاج حسين القطان.. صارحني سكان العمارة عن طريق البواب بأن من الضروري أن أنزع عمامتي فنزعتها. ولكن الأكثر إثارة ومشقة ومفارقة (لا مفارقة) هو أننا فكرنا باستئجار منزل، عاينا شققاً تعود لمالكين سنة ومسيحيين، لم يتحفظوا على عمامتي وأكدوا أنهم يعرفون اعتدالي، اختلفنا بالنسبة للشقق التي أعجبتنا على قيمة بدل الإيجار، لنعود كل يوم إلى الندم، لأن أسعار الإيجار ترتفع يومياً، ونحن نرفع ولا نصل، ثم نندم، أما الشقق التي يملكها شيعة من الجنوب فكان ولدي يصل معهم إلى النهاية ولا يبقى إلا تحرير العقد، فيسألون: ومن المستأجر؟ يقول فلان فيأتي الردّ رفضاً باتاً.. يا عمي الرجل معتدل! ويقول المالك أو المالكة: بلى ونعرفه، ولكننا لا نريد عمائم تدخل إلى عماراتنا والجيران لا يرضون… مرة اقترح أحد الأصدقاء أن لا نخبرهم ويوقع العقد باسم ولدي.. ولكن كيف نكذب؟ هذا مشكل شرعاً، وقد يكون العقد باطلاً، ثم لا بدّ أن ينكشف الكذب، وهنا يكون احتمال (البهدلة)كبيراً.. أعادتني هذه الإشكالية إلى ذكرى جارحة.. يوم كانت الفتنة التي قبرناها منذ مدة طويلة ونسينا مراراتها، تدور في الجنوب ولرجال الدين حضور في مشهدها، والانقسام متفشٍ بين أهلنا.. دخلت مكاناً فيه صديق وفيه وجيه جنوبي لا أعرفه، كان معادياً بشدة لحزب الله، ثم صار مؤيداً له بشدة، سأل صديقي من يكون الشيخ؟ قال: فلان.. فنظر إليّ الوجيه وقال: لا.. أنت آدمي… ولدي الأكبر في طفولته كنت أطلب منه أن يشتري لي جريدة، وهو يلاحظ أني أقرأ (السفير)أكثر من غيرها، فكان يذهب إلى دكان القرية ويقول للبائع أريد السفير النهار، تماماً كما كنا في طفولتنا العمرية والريفية العامة نقول لكل التبغ الأجنبي لوكي… والأهم من ذلك أن ولدي عندما فتح عينيه في النجف على العمائم داخلة خارجة من بيتنا صار يسمّي المشايخ: بابا.. حوّل الخاص إلى العام، وحوّل اسم المفرد إلى اسم جنس.. هل أعادتنا الحرب إلى طفولتنا بعد قتل الأطفال بالجملة؟

أسامح ولا أتسامح

أسعدني أني وٌفّقت مبكراً لاختيار التواصل والعيش المشترك سبيلاً إلى السلامة، مدعماً بفردية الخلاص كما في القرآن والإنجيل. أما أن الجماعة تخلص فهذا مخالف للعدل الإلهي، هذا في الآخرة. وهذا أدعى لاحترام الخيارات الدينية المختلفة.
أما في الدنيا، فإن دولة الأفراد المدنية هي خلاصنا لا دولة الجماعة الدينية لأنها لا تصف سوى الاستبداد، ما أعتبره اعتداءً على ديني ودنياي. ومن هنا فإني لا أسامح ولا أتسامح مع من يحوّلون دولنا إلى كائن كاسر يهشم عوامل الاندماج بين مكونات الاجتماع بدل أن يجمع مختلفاتها على الحوار لكي تأتلف وتتكامل.. واعياً بأن إلغاء الاختلاف أو المختلف، إلى كونه محالاً، فهو إخلال بقوانين الكون وسنن الحياة والخلق وإفقار للذي يلغي، إلى شروطه الوجودية والمعرفية، ولمن يُلغى.
مرجعيتي إسلامي ومذهبي المتفرع منه والذي يكتمل بالمذاهب، والمساحة الشاسعة من الثقافات الإنسانية، التي يحتاج المتقدم منها إلى نقد علمي أما البدائي أو النامي، فيحتاج إلى فرص لفرز محمولاته لإحياء الحي منها وإبقاء الباقي في المخزن.. من دون دعوة أو تبشير بشيء لأن ذلك عنف غير مباشر يؤدي إلى عنف مباشر.
أنا متدين وهناك متدينون كثيرون مثلي لا يتسامحون بدينهم بل يسهلونه وفي لسان العرب، سمح لي فلان أي أعطاني، والمسامحة هي المساهلة. وسمحت الناقة إذا انقادت.
أنا لا أنقاد لناقتي، أي جماعتي، ولا أقودها لأني لا أملكها وهي تملكني إن شاءت بشروطي التي لا تناقض شروطها بل تكمّلها. وأعترض على الدعوة إلى التسامح الديني لأن فيه استعلاءً وادعاء بالعطاء، وقبولاً منقوصاً أو مغشوشاً بالآخر المختلف إثنياً أو دينياً أو سياسياً أو فكرياً، لأنه يقوم على غرور التنازل في قبول المختلف على هناته وعواهنه !! فإذا كان الآخر الذي أتسامح معه وأقبله مستكبراً هكذا مثلي ويعاملني بالمثل، فقد أصبحت مساحة اللقاء أضيق من ثقب الإبرة، مع إدراكي العميق لإشكالية المصطلح لأنه هو المتداول ولا أريد أن أصادِرَ عليه والأهم هو السلوك وتحسينه باستمرار.
وفي أدبياتنا لا توصف الشريعة بالمتسامحة أو السامحة بل بالحنيفية أي السهلة ليس فيها ضيق ولا شدة، والحنيف هو الذي يميل إلى الحق أو هو المخلص أو غير الملتوي..
إذن فالإسلام سمح أي واسع يسع الجميع من داخله ومن خارجه. ومن تسليمي أمري إلى الله أني لا أنصب نفسي حاكماً على الآخر والرأي الآخر وأترك ذلك لله وعدله وما لله لله وما لغيره لغيره. في المحصلة أنا مسهل لا متساهل وسمح لا متسامح.. إلا في حالات يصبح فيها التسامح ضرورة حياة وأخلاق.. في الحروب الداخلية مثلاً، لأن بعدم التسامح، أي النسيان أو التناسي للبشاعات المتبادلة يصبح الواحد منا ماضياً مقطوعاً عن غده وغيره. هنا يصبح التسامح في الحق تسامحاً من أجل الحق ويصبح التنازل حفظاً لما تبقى من الحقوق وشرفاً للمتنازل وأماناً للمتنازَل له. على هذا، اسمحوا لي أن لا أسامح أو أتسامح مع الحكام الذين منعوني من حاجتي إلى الحرية والخبز أو أن أتسامح مع من يمنعونني ويرفعون صوت المعركة فوق صوت احتجاجي من أجل المزيد من القتل والنهب والجهل وإشاعة الضغينة. لا أسامح زملائي من رجال الدين الذين يخالفون الأساس المسيحي في المحبة والغائية الإسلامية في العدل والعدالة ويخالفون سفر الرؤيا بسفر الخروج والكلام عن (الغوييم).. وفي أدبياتنا عن الإمام جعفر الصادق “وهل الدين إلا الحب”.,
على أن ديني يحثني ولا يرضى مني إلا أن أسامح أي فرد يرتكب المعصية في حقي، لأني مأمور بكره المعصية ومحبة العاصي من أجل ترك المعصية.. وأنا أعصي أيضاً وأحتاج إلى مسامحة.
أنا شخص نسبي وسطي وأدعو إلى التسوية الدائمة وأسامح من أجلها بحقوقي الشخصية وحتى الزوجية إذا اقتضى الأمر ولا أسامح بحقوقي الوطنية وإذا خيرت بين أن أكون ظالماً أو مظلوماً اختار الثاني بحماس. وفي أدبياتنا الإسلامية أن الله من عدله أن يتسامح مع العبد المقصر في حقوق ربه وليس من عدله أن يسامح من يعتدي مادياً أو معنوياً على الناس إلا إذا سامح المعتدى عليه.

اقرأ أيضاً: لبنان من إيران وجع الحرف

لا أسامح ولا أتسامح مع الاستعمار والاستحمار وكل الشموليات الغولية والحركة الصهيونية في شيء ولا أريد أن اقتص من اليهود لأهلي هنا وفي فلسطين، والسلام العاجل يَلزَمني ويُلزمني.. وأتمنى لو أن اليهودي يتحرر من الصهيونية لكي أنسى.. والموسف أن الأصولية والسلفية اليهودية يتعاظم نفوذها في الصهيونية لا في وجهها كما سلفياتنا وأصولياتنا الدينية أو العلمانية أحياناً وفي وجه الدين لا مع الانسان.
لا أسامح ولا أتسامح مع الأفراد والأحزاب والدول التي تعيق بناء دولتي المدنية التي أحفظ بها أهلي وديني، أو تهدم ما تبقى منها. لا أسامح الدول التي تريد إنتاج الدين، ولا الجماعات الدينية التي تريد إنتاج الدولة، لأن في ذلك خطراً عليهما.
لا أسامح أحداً يستقوي عليّ بمخالفة القانون ويلوي عنق الشريعة ليغطي بها ارتكاباته. يمكن أن أتسامح من دون أن أعفو عن الاعتداء المعنوي عليّ وأتنازل عن حقي الشخصي في العقوبة إذا كان ذلك سبباً للصلاح، ولا أعاقب أحداً بيدي وأدعو بالشلل للأيدي التي تشل يد القضاء. لا أسامح من ينتقص من صفة المواطنة أو الإنسانية لأي إنسان ولا من يختزلني في طائفتي ولا من يختزل طائفتي أو ديني في حزبه، والدولة في عصبته.
لا أتسامح مع المختلف عني إثنياً أو دينياً أو مذهبياً أو سياسياً ولا أريده أن يتسامح معي، أريد أن نتحاور لنتكامل من موقع التكافؤ والتناظر ولتزداد معرفتنا المتبادلة بذواتنا وحقائق الكون والحياة. بل أقبله من أجلي أولاً ثم من أجله إذا قبل ذلك ولا ألزمه بالقبول. ولا أتقدم اليه متسامحاً بخصوصياتي ولا أريده متنصلاً من خصوصياته من أجل أن يحظى بقبولي له. لا صدقاً ولا نفاقاً.. وإذا كانت العموميات الوطنية والإنسانية هي التي تجمعنا، فإن الخصوصيات هي التي تمد العموميات بالحيوية والفاعلية. تحياتي إلى أطفال قانا ونجع حمّادي وغزة وجنين وبحر البقر وحلبجة إلى فارس عوده ومحمد الدره وحمزة الخطيب وسائر الأطفال مجهولي الأسماء معلومي الأفعال من المحيط إلى الخليج.. تحياتي إلى بوعزيزي.

(من كتاب في وصف الحب والحرب)

السابق
دفاعاً عن حماس: الاستثناء الاسلامي
التالي
قائد الحرس الثوري: نملك معلومات دقيقة عن تورط السعودية في تنفيذ هجومي في طهران