مستقبل لبنان على محكّ الحرب السورية

التحديات الأساسية التي يواجهها لبنان اليوم يتصل معظمها بانعكاسات الحرب السورية، وإن كان لبنان يعاني من تشققات بنيوية سابقة للحرب السورية.

رغم التقدم المحرز المتصل بانتخاب رئيس للجمهورية بعد 30 شهراً من الفراغ، ومن ثم تشكيل حكومة جديدة، وملء عدد من المناصب الأمنية والإدارية، فإن تعثر ولادة قانون جديد للانتخاب وتفاوت الرأي والتقدير حول موعد الانتخابات المقبلة يبرزان هشاشة الائتلاف الحاكم اليوم وعدم امتلاك أطرافه رؤية مشتركة لمرحلة ما بعد الانتخابات. والسؤال المهم الذي يطرح اليوم في لبنان: هل فقد حزب الله قدرته على الترجيح أو الحسم بين هؤلاء الأطراف، على غرار ما يضطلع به منذ مايو (أيار) 2008، وعلى غرار ما قام به أخيراً عند ترجيح اختيار العماد ميشال عون للرئاسة، أو عند وضع اللمسات الأخيرة على تشكيلة حكومة الرئيس سعد الحريري؟ أم أن الحزب ينتظر التوقيت الملائم؟ أم هو غير متحمس لإجراء الانتخابات قبل اتضاح الوضع الإقليمي الحرج والمتحرك؟ هذا ما سنتبينه، على الأقل جزئياً، خلال الأسابيع القليلة الفاصلة عن 20 يونيو (حزيران)، موعد انتهاء الولاية الممددة للمجلس الحالي المنتخب عام 2009. وتبعاً للسيناريو الذي سترسو عليه عملية تأجيل الانتخابات، سيتضح حجم الضرر اللاحق بمصداقية المؤسسات والسلطات.

اقرأ أيضاً: جريمة في لبنان

القلق من المجهول وعدم اليقين في لبنان لم يعد يقتصر على المستوى المؤسسي والسياسي، بل بات يطاول أخيراً المستوى الأمني الذي كان مسلماً به ضمن الستاتيكو القائم منذ اندلاع الأزمة السورية أنه خط أحمر. فالمتغيرات المتسارعة في المنطقة منذ انتخاب دونالد ترمب تشي بتوجه أميركي جدي نحو تحجيم طموحات إيران الإقليمية، وهي تطرح بالتالي من جديد مسألة حزب الله ودوره الخارجي. وإن كانت احتمالات التصعيد تنحصر حتى الآن في المسرح السوري، فإن دخول العامل الإسرائيلي على الخط، سواء من بوابة منع الحزب من الحصول على أسلحة كاسرة للتوازن، أو منع إيران من إقامة منطقة نفوذ جديدة محاذية للجولان، أو منع قيام خط إمداد بري متواصل بين إيران وحزب الله في لبنان، يدعو إلى القلق من انفلات أي مواجهة بين إسرائيل وحزب الله في سوريا وتمددها إلى لبنان، وذلك رغم توازن الرعب القائم حالياً بين الطرفين. إن أي حرب جديدة بين إسرائيل وحزب الله على غرار 2006 ستكون لها نتائج كارثية على لبنان.

الترجمة الميدانية للتوجه الأميركي الجديد حيال إيران وحزب الله لم تتضح بعد، لكن ثمة توجه جدي لفرض رزمة جديدة من العقوبات على إيران وحزب الله، من بوابة مكافحة الإرهاب بعدما تم استبعاد خيار تمزيق الاتفاق النووي. وما تسرب من معلومات حول مشروع العقوبات الجديد يشير إلى احتمال توسيعها إلى كل من يتعامل مع الحزب ولتطال ربما مسؤولين في الدولة اللبنانية. وبمعزل عمّن ستطاله العقوبات الأميركية المنتظرة، فإن مجرد إقرارها أو حتى الاستمرار بالتلويح بها يشكلان عبئاً إضافياً على الوضع الاقتصادي الهش أصلاً الذي تعرض في السنوات الماضية لسلسلة ضربات لم يتعافَ منها بعد. فاندلاع الحرب في سوريا، ثم انخراط حزب الله فيها، كانا كفيلين بنقل نحو 8 في المائة من سكان سوريا إلى لبنان، حيث باتوا يشكلون 25 في المائة من إجمالي السكان.

تزامناً مع عبء النزوح السوري، بدأ لبنان يعاني تدريجياً نوعاً من العزلة الاقتصادية ذات أوجه عدة؛ أهمها انقطاع خطوط التصدير البرية، وامتناع السياح الخليجيين عن زيارة لبنان، وانخفاض التدفقات المالية التي تشكل تقليدياً رئة التمويل الخارجية للبنان. وقد انخفضت لسببين: تراجع عائدات النفط، ورداً على تزايد استخدام إيران وحزب الله للبنان منصة إعلامية وسياسية ضد السعودية ودول الخليج.

مع تراجع التحويلات وتحول ميزان المدفوعات إلى السلبية، أجرى المصرف المركزي «هندسات مالية» لاستبدال جزء من الديون، وذلك للحفاظ على الاستقرار النقدي وتأمين السيولة للمصارف التي تأثرت بالتطورات الإقليمية. لكن هذا الأمر تم بمعدلات فائدة مرتفعة جداً فاقمت زيادة الدين العام الذي كان يلامس بالأصل معدلات قياسية.

قبل أعباء الحرب السورية، لم يكن لبنان «جنة» اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية. وفي طليعة التشققات التي كان يعانيها وما زال، الانقسام الحاد حول المنظومة العسكرية التي يحتفظ بها «حزب الله» خارج الدولة التي باتت أهم ذراع خارجية للاستراتيجية الإيرانية، والتي يعود الاعتراض عليها داخلياً إلى ما قبل اندلاع الحرب السورية.

كذلك، هناك الفساد الذي يحتمي بنظام «المحاصصة» بين زعماء الطوائف بذريعة حماية المصالح الاستراتيجية لطوائفهم، في حين أنها حقيقةً التجسيد المحلي لنظام الدولة الغنائمية القائم على السطو على المال العام والحيز العام واستغلاله وتوزيعه على قاعدة الزبائنية السياسية أو المحسوبية. ويعتبر الفساد العائق الرئيسي أمام التنافسية والاستفادة من الحيوية الكبيرة للقطاع الخاص اللبناني المتميّز بروح المبادرة وثقافة ريادة الأعمال. وثمة من يقدر حجم «الاقتصاد الأسود»، الذي يشتمل على التهريب والتهرب الضريبي والرشوة والإثراء غير المشروع، بخمسة مليارات دولار، أي ما يعادل ثلث الموازنة العامة للدولة أو 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.

ضمن هذا المناخ، اندلعت الحرب السورية ومعها أزمة اللجوء. ارتفع عدد إجمالي المقيمين في غضون سنتين 30 في المائة، وهي نسبة غير مسبوقة في التاريخ الديموغرافي الحديث لأي دولة. ولتبين فداحة الوضع، يكفي النظر إلى انخفاض حصة الفرد من الناتج المحلي دراماتيكياً من 9400 إلى 7900 دولار، أي بنسبة 14 في المائة. فضلاً عن ذلك، فإن الضغط على المجتمعات المضيفة للاجئين وعلى البنى التحتية بات غير محمول، خصوصاً الطرقات والصرف الصحي والكهرباء. صحيح أن أزمة الكهرباء هي في الأساس أزمة فساد وسوء إدارة، لكن الطلب تزايد بقوة بسبب النزوح. كذلك، فإن البطالة بين اللبنانيين ارتفعت من 9 في المائة إلى 20 في المائة‏، والعمالة غير النظامية بينهم باتت تناهز 30 في المائة، فيما هي تفوق الـ50 في المائة بين السوريين. نسبة الفقر بين اللبنانيين ارتفعت من 27 في المائة إلى 35 في المائة، وهي تصل بين اللاجئين السوريين إلى 75 في المائة. باختصار، الخسائر المتراكمة للبنان على مدى 6 سنوات من جراء الأزمة بلغت 25 مليار دولار.

الحرب السورية

الجميع، دولاً ومنظمات، «معجب» بصمود لبنان وسخاء اللبنانيين، لكن قدرة لبنان على الصمود تتآكل كل يوم. والوصفة التقليدية المطروحة أمامه، أي الاكتفاء باستيعاب اللاجئين ودمجهم في سوق العمل، تنم إما عن جهل فادح أو عن تقصير. لا يمكن لأي اقتصاد من 4 ملايين نسمة أن يهضم 1.5 مليون نسمة إضافية، وأن يُطلب منه خلق نصف مليون فرصة عمل إضافية، لا في خلال 5 سنوات ولا في خلال 20 سنة. إن أي خبير اقتصادي عاقل يدرك هذا الأمر، هذا إذا وضعنا جانباً التوترات والمزايدات العنصرية الخطيرة التي تثيرها قضية النازحين. إن الاستيعاب عبر سوق العمل فحسب، وهو ما يُطلب من لبنان، ليس حلاً لأزمة النازحين. الحل المتكامل، الواقعي والعادل والمستدام، يجب أن يقوم على رؤية تعطي أولوية متكافئة لثلاث ركائز:

1 – العودة الآمنة للاجئين، أي المحصنة أمنياً واقتصادياً، إلى مناطق تحظى بالحماية الدولية داخل سوريا.

2 – الاستيعاب المؤقت لجزء من العمالة السورية التي لا تشكل منافسة لليد العاملة اللبنانية. وهذا أمر مفيد للجانبين ويتطلب تنظيماً أكثر فاعلية لسوق العمل، ولا طائل من التحريض والهذيان الشعبوي في هذا المجال.

3 – مشاركة المجتمع الدولي بشكل فعلي في تحمل الأعباء، ليس مالياً فحسب، إنما أيضاً باستيعاب عدد أكبر من السوريين الذين يرغبون في الانتقال إلى بلد ثالث. صحيح أن هناك تقصيراً فادحاً من المجتمع الدولي حيال لبنان والدول المضيفة، لكن المسؤولية الأولى تقع على السلطات اللبنانية التي لم تستقر حتى الآن على سياسة متكاملة وفاعلة لإدارة أزمة النازحين.

الخلاصة العامة:

1 – إن عودة لبنان إلى شيء من الاستقرار يمر بحتمية الحل السياسي في سوريا، الذي يتضمن فيما يعني لبنان ثلاث أولويات: محاصرة الإرهاب، وانسحاب حزب الله من سوريا، وعودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم.

2 – إن عودة الأمور إلى نصابها في لبنان تتطلب، فضلاً عن تثبيت القرار 1701، تخلي حزب الله عن دوره الإقليمي وعن دوره الأمني داخل لبنان وتحوله إلى حزب سياسي. هذا معبر إلزامي لتحييد لبنان ولتطبيع الأوضاع فيه.

3 – في لبنان أزمة سلطة وليست أزمة نظام أو دستور أو ميثاق. الصيغة اللبنانية التي تجمع بين المساواة في المواطنة وحماية التعددية الدينية قابلة للتطبيق والتطوير إذا تم تحييد لبنان ونزع عناصر التأزيم الإقليمي، وتم الالتزام باتفاق الطائف، واعتماد قانون انتخاب ديمقراطي واحترام دورية الانتخاب وتداول السلطة.

4 – لبنان ليس بلداً فقيراً، والاقتصاد اللبناني قابل للحياة وهو يملك ميزات تفاضلية قوية وثروة بشرية استثنائية. المعبر الإلزامي إلى ذلك حياة سياسية نظيفة ومصالح اقتصادية مشروعة وفك الارتباط غير المشروع بين السياسة والأعمال والكف عن اعتبار المال العام غنيمة والدولة بقرة حلوب.

السابق
لا لكل الثنائيات الطائفية
التالي
قانون الانتخاب ينتظر الاتفاق على المغتربين والصوت التفضيلي