قطر تشرب من كأسها

الوثائق والمستندات التي قدمتها مصر والسعودية والإمارات والبحرين، بشأن قوائم الأشخاص والكيانات الداعمة للإرهاب، جاءت غالبيتها من جهات متنوعة، معظمها تابع لقطر وتمت إذاعتها وتسويقها في أوقات سابقة باعتبارها محل تفاخر، وعندما أصبحت الأجواء مهيأة للنظر إليها من زاوية أخرى تحولت إلى دليل دامغ للإدانة.

الصور والكلمات التي كانت تذيعها قناة الجزيرة مباشر مصر، عقب ثورة 30 يونيو 2013، وكلها مليئة بالتهديد والوعيد والتحريض والعنف اللفظي هي ذاتها التي أثبتت أن أصحابها ومن يقف خلفهم أكبر الداعمين للإرهاب، وكانوا يتفاخرون بأن لديهم قدرة على الحشد ودغدغة مشاعر الناس واللعب على عواطفهم بقوالب دينية هدفها الإيحاء بالقوة ومد حبال الأمل.

اقرأ أيضاً: ظاهرة الدور القطري

لم تدرك الدوحة وأذرعها الإعلامية في مصر التي استولت على عربات للبث المباشر، كانت ملكا للحكومة، أن ما أقدما عليه سوف يحسب عليهما وليس معهما عندما يحين الحساب، فقد تحولت الفيديوهات التي تم تسجيلها من قناة الجزيرة مباشر إلى وثائق تكشف لأي درجة كانت هذه المحطة أحد أهم الأدوات المحرّضة على العنف.

المثير أن العاملين فيها ومن ظهروا على شاشتها أخذتهم العزة بالإثم وكانوا يتسابقون في أيهم أكثر عنفا، ورأينا على منصة ميدان رابعة العدوية الشهير في قلب القاهرة تنافسا محموما بين شيوخ جماعة الإخوان وغيرهم يلقون خطبا نارية وصاخبة مليئة بالألفاظ والعبارات التي تحضّ على العنف.

لعل اللقاء الشهير الذي عقده الرئيس الإخواني محمد مرسي في إستاد القاهرة الرياضي بمناسبة الاحتفال بذكرى نصر 6 أكتوبر 2012، واحد من العلامات البارزة التي كشفت آليات العنف على الهواء مباشرة.

وقتها أحاط مرسي نفسه بعدد من إرهابيي تنظيمه والجماعات الإسلامية، وكانت الدعوة للجهاد صراحة في سوريا ومطالبة الجيش المصري بالذهاب إلى هناك لدعم المتشددين، نقطة تحول أساسية في اقتناع المؤسسة العسكرية أن نظام الإخوان جاء لخلق المزيد من الفتن في المنطقة.

اللافت أن الدولة القطرية بأدواتها المختلفة تعاملت مع هذه النوعية من التخرصات على أنها تندرج ضمن السياق القومي، وأخذت تعزف على ألحان الإرهاب بصور تبدو بعيدة عن هذا السياق، حتى تبيّن أن الجزيرة وأخواتها جزء من معزوفة تم إعدادها بدقة لتخريب دول المنطقة ومن بينها مصر.

ربما استطاعت وسائل الإعلام التابعة للدوحة جذب عدد كبير من النخب العربية إليها، لكن ذلك لم يتعد لزوم تجميل الصورة والتغطية على المهمة الرئيسية التي تقوم بها، وهي الترويج للتيار الإسلامي ومحاولة تسهيل مهمة تغلغله في نسيج المجتمع من خلال هؤلاء، ونجحت قناة الجزيرة وموقعها الإلكتروني في استقطاب أسماء عربية كبيرة في السياسة والثقـافة والفكر لتمرير أهدافها.

الحيلة انطلت على كثيرين، بإرادتهم أو دونها، وكان سلاح المال بتارا في كل الأحوال، والصرف يتم بسخاء، والمغريات لم يستطع البعض مقاومتها تحت ظروف الضغوط المادية، ووسط النخبة جرى تمرير رسائل إعلامية، منها ما يحض على العنف والإرهاب مباشرة، وغالبيتها ألبس خطابه بحيل مختلفة، تارة بذريعة المقاومة ورفض الظلم، وأخرى بالدعوة إلى تهميش دور المؤسسة العسكرية، لأنها العقبة الكأداء التي وقفت في طريق الإخوان.

من يمعن النظر في الخطاب التحريضي على الجيش المصري من قبل قيادات الجماعات الإسلامية التي ظهرت على شاشات الجزيرة، يشعر أن المسألة جاءت من رحم تخطيط يرمي إلى هدم المؤسسات القـوية لصالح التنظيمات الإرهابية، وتزايدت الخطورة عندما نجح هؤلاء في خداع عدد كبير من الشباب تحت لافتات وشعارات براقة، قوامها الظاهر الحرية والديمقراطية، وعمادها الخفي الهدم والتخريب حتى تتحول دولة في حجم مصر إلى أنقاض.

هذه النوعية من الخطابات كشفت مبكرا المخاطر التي ينطوي عليها الدور القطري، بعد أن تمكنت الدوحة من امتلاك حضور مؤثر في أماكن كثيرة، بأدوات تتدثر بحجج واهية، لكن بدت للبعض صلبة ومنطقية، الأمر الذي منحها قدرة على تغيير مجريات الأحداث في دول لصالح الجهة الإسلامية التي تريد لها أن تكبر وتسيطر.

اللعبة حققت جزءا مما هو مرسوم لها غير أنها خلفت وراءها أدلة تؤكد ضرورة الانتباه للدور الخفي الذي تلعبه قطر، وانتبهت جهات كثيرة لذلك، وأعدت عدتها ورصدت وتابعت وراقبت ودققت، حتى حصلت على حزمة جيدة من الوثائق والأدلة، ومعظمها معلن ومعروف، تؤكد أن هناك مؤامرة تحيكها الدوحة لصالح أفراد وقيادات وجماعات غرضهم زعزعة الأمن الإقليمي.

الصورة الكاملة التي اتضحت معالمها لكثيرين هي ذاتها التي خرجت منها لائحة الاتهام العربية بأن قطر تلعب دورا سلبيا في المنطقة، وساهمت عن عمد في الترويج لحلفائها من الحركات المتشددة، وبدأت حلقات السلسلة تتفكك تدريجيا، وتتضح حقائق مفزعة تعزز الرؤية التي ألمحت لها مصر بأن ثمة دولا في المنطقة تمول وترعى وتغذي الإرهاب.

قطر تتجرع الآن السمّ الذي حاولت أن تذيقه لآخرين، وتتلقى صفعات سياسية واقتصادية متتالية من دول كانت تحسب أنها قريبة منها بدرجة كافية، وتسعى إلى إنقاذ نفسها عبر حيل ومناورات وألاعيب مختلفة، استهلاكا للوقت وبحثا عن طاقة أمل تمنحها فـرصة للعودة إلى ما كانت عليه.

النتيجة التي يخلص إليها المراقب لتطورات الأزمة القطرية هي أن هناك مرحلة جديدة يتم التأسيس لها تسد الثغرات أمام الجهات التي حاولت توظيف الإرهاب واعتباره ضمن أدوات السياسة الخارجية للدول، والرؤية الدولية للتعامل معه أضحت قريبة من النظرة الشاملة، والابتعاد عن الانتقائية التي سمحت لدولة مثل قطر بأن تضع هذه الجهة في خانة الإرهاب وتلك في مربع المقاومة.

الكأس الذي حاولت قطر تقديمه لغيرها فقد بريقه المعتاد وأصبحت مطالبة بتغييره تماما قبل أن تواجه مصيرا مجهولا، فالخارطة التي رسمتها واشتغلت عليها بمساعدة آخرين لحقت بها تشوهات وتاهت فيها الخطوط والفواصل، ولم يعد أمامها سوى القبول برسم خارطة أخرى تراعي الأسس والقوانين الحاكمة في العلاقات الدولية، فلم يتحول العالم إلى غابة بعد ولم تعد الحيل التقليدية والازدواجية وتبني الشيء ونقيضه ضمن الشروط التي تضمن لقطر مكانا تحت الشمس.

السابق
قرار بلدية صيدا حول موقف «الفانات»
التالي
جنبلاط معلقاً على قانون الانتخابات: نزلة و طلعة!