حزيران و… الهزيمة الفردية

كان العمر أقل من نصر، لكنه كان بالتأكيد عصياً على الهزيمة. كل ما ضجت به الألوان في تلك الحقبة من الستينات كان يقين وعود، بل كان تحقق الوعود بكليّتها، ومن دون فاصل كلامي أو انقطاع سياق نفْسي، بين فعلين مستقبليين: ستحصل وقد تحصل. لم يكن الشك مولوداً في الذهن، كانت الكاريزما القومية الشخصية كتاباً منقذاً من ضلال السؤال المتردد، وكانت إرهاصات الوجدان الداخلي مفتوحة فقط على الثأر والكرامة ومحو العار واستعادة الوطن الفلسطيني السليب. كان الوليد المنتظر «طفل قيامة ومهديّ خلاص»، وما كان على الهيكل المزعوم سوى انتظار غضب وسياط الخراب.

اقرأ أيضاً: بريطانيا تحتاج إلى نقد للذات

سياق الفردية الحزيراني هذا، قطعته وقيعة طيران «تجار الهيكل» الصهيوني، وخلال دهشة خاطفة صارت العيون بلهاء، وبات إنسان كل عين نقطة انحباس ملح بلا دمع، وكان أن أخلى دمع فرح العيون مكانه لسراب الجمل الرنانة، وناب عن جلبة المعارك الانتصارية الموعودة، صدى أصوات الإذاعات التي هدرت بحمم البلاغة، وحرّرت بحركات الرفع والضم والنصب وطناً من البحر إلى النهر!!. فجأة وجدت الأقلام حبرها محكوماً بحركة السكون، وتسمّرت الوجوه في مشهد الوجوم، وما كان للسؤال حينها أن يخرج إلى أثير الكلام. ذلك كان يوم الهزيمة الجماعية في حزيران 1967، ذلك كان يوم الصدمة الفردية التي صارت هزيمة شخصية. جمعاً سقطوا في الهزيمة، وفرداً فرداً جاءت الهزيمة إليهم… إلينا، وما زالت مكابرة «هزمنا» تمنع فرد «هُزمْتُ» عن كسر المسافة بين «نا» الجمع و «ت» المتكلم، وما زالت جملة «لماذا فعلوا بنا ذلك» تحجب جملة «لماذا حصل معنا ذلك». هو تواطؤ فردي شخصي يحمل صاحبه إلى رحاب التبرير، وهو إشباع رضا داخلي وهمي يتوسله كل فرد من أبناء جيل الهزيمة، ليتسنى له التطهر من رجس الإنكسار، ولتكون له القدرة على توجيه أسئلة الاتهام، وليمارس دور القاضي الذي يعود إليه وحده احتلال مقعد الباحث عن الحقيقة تحت قوس العدالة.
لكن الفرار الفردي المستدام من تحمل قسط المسؤولية عن هزيمة من الهزائم العربية، ليس متاحاً في زمن العروبة «الهزائمية»، إذ إن عدم ذهاب زمان حزيران الستيني إلى التاريخ، جعله التاريخ العربي الوحيد، مثله مثل زمن احتلال فلسطين عام 1948، الذي ثبت أنه كان هو الزمن العربي العميق عندما ظنت «القومية العربية» أنها غادرته إلى زمن جديد.
لقد كان على هذه القومية أن تعيد وعيها لزمانها القديم كشرط لاستيعاب مقدمات عصرها الجديد، لكن ما غاب عن الذهن، وما جرى الالتفاف عليه في التفكير والتدبير، هو ما طفا على اليوميات والوقائع والميادين والاستراتيجيات… وقال بالجملة الواقعية الثقيلة، ما زلتم أعزائي «القوميين والوطنيين» مقيدين بسلاسل تجاهلي الناعمة.
ذات الصوت الواقعي لعام 1948 تردد بعيد الخامس من حزيران 1967، والصوت ذاته ما زال يتردد في الأرجاء العربية حاملاً نداء الانكسار، وداعياً الجمع العربي إلى سلوك مسالك الانحدار، ومن عجب، أن الصوت هذا ما زال يلقى استجابة جماهيرية واسعة. راهناً يتلازم الضروري مع الصعب، والمطلوب مع الممتنع، وسؤال من أين وإلى أين، لا يدعم جوابه كلام ابتدائي. من الضروري الدعوة إلى مراجعة جماعية، لكن من هي الجماعة أو الجماعات المعنية بهذه الدعوة الضرورية؟ ومن المطلوب البحث عن أسباب الانفجارات المتوالية في «بنية الذات العربية»، لكن من أية نقطة ختامية يبدأ البحث، والسيرة «الخرائبية» لمّا تضع لكتابها نقطة الختام؟ وكيف الحركة من إلى… وتعيين مكان الانطلاق ما زال خارج جغرافيا المكان؟
الحيرة التساؤلية مجتمعة صارت خارج الجماعة التي غادرت اجتماعها، وتداعيات الطرد الجمعي من أطر التجميع والاجتماع، مفتوحة على «الفردية» التي تلامس وحدتها، والتي تنشد، بفعل الانهيارات من حولها، عزلتها داخل وحدتها. الفردية هذه ليست شخصانية، فهي تتخذ مظهر الشخص المفرد، والجماعة المفردة، والبلد المفرد، أي أنها فردية بصيغ شتى، لكنها تبتعد طرداً عن جمع الاتصال، وتتوجس من تجميع الاندماج، لفظياً كان أم مادياً، وتتوسل ما هو مصلحي فردي مباشر، في كل عبارة قومية أو ما فوق وطنية. والحال، ما المسؤولية الفردية عند أفراد جيلنا، جيل الهزائم؟ وفي غياب مراجعة الجماعة، كيف يغيب الفرد عن مراجعته؟ لقد هزمنا فرداً فرداً، وما زلنا مشاركين في زمن هزائم يتوالى، فكيف لا نقول كلمة في هزيمتنا؟ وإذا كان الرد على «نون» انكسار الجماعة غائباً، فلِمَ التغاضي عن «أنا» الذات؟ أول الغيث إعلان الهزيمة، فهذه ما زالت مجهولة العنوان ويتيمة الأبوين. هزيمتنا تسكن بيوتنا. هزيمتنا نحن آباؤها.

السابق
السعودية تقطع «الجزيرة» عن المراكز السياحية
التالي
وزير ماليّة «حزب الله» يتعاون مع السلطات الاميركية