خطط سوريا المستقبل: أي دور جديد للأردن؟

انتهت سوريا التي نعرفها. وبات على السوريين بعد انتهاء مأساة بلادهم أن يتحضروا للتعايش مع بلد آخر في شكله ومضمون نظامه السياسي. والأمر ليس سابقة في التاريخ، فيكفي تأمل بلدان العالم الحالية للاستنتاج بأنها وليدة محن تاريخية أفضت إلى ولادة الكيانات حدودا وأنظمة حكم، بالعنف أحيانا، وبالسلم أحيانا أخرى.

بمعنى آخر فإن نهاية سوريا التي نعرفها لا تعني موتها، بل ولادة مرحلة جديدة في كمالها وعيوبها. ولا نكشف سرا إذا ما قلنا إن سوريا ذات الحكم المركزي وعاصمتها دمشق باتت حالة متقادمة يطيح بها كمّ السيناريوهات المتدفق يوميا لحل نزاع بات ثقيلا على العالم أجمع.

اقرأ أيضاً: خطورة الرسائل بالواسطة في سورية

لا يملك السوريون الخروج من أزمتهم بمواهب سورية محلية. لم يعد الصراع في سوريا يقتصر على ثنائية المواجهة بين نظام ومعارضة، بل بات ورشة تتناطح داخلها أجندات إقليمية ودولية كبرى ترهن الحل السوري باستقرار نظام دولي جديد عصيّ على التشكّل.

لم يسقط نظام دمشق كما سقطت أنظمة أخرى في المنطقة بسبب قوة هذا النظام وتجذّره الشعبي، بل بسبب إرادات خارجية تحول دون ذلك. ولم يستطع نظام دمشق المدعوم من روسيا وإيران والميليشيات التابعة لها سحق المعارضة، ليس بسبب الصمود “الأسطوري” لتلك المعارضة، بل بسبب إرادات أخرى خارجية ما زالت تحول دون ذلك.

ولئن يميل العالم حاليا إلى الاعتراف بعجزه عن فرض “الحلّ السوري” وفق رؤى الغرب أو رؤى الشرق، فإن الولايات المتحدة وروسيا اللتين تشرفان، بالتوافق وبالتناقض، على مقاربة ذلك النزاع، أجمعتا، بالتقاطع وربما بالتواطؤ، على تفتيت الأزمة، وبالتالي تصغير اللقم الواجب ابتلاعها، بانتظار إنضاج ظروف للانتقال إلى الحلّ النهائي.

استخدمت واشنطن وموسكو قبل سنوات صيغا تستشرف مستقبل سوريا. أُطلق على الأمر من جانب اسم “اللامركزية” وأطلق عليه من الجانب الآخر اسم “التقسيم”. وأيا تكن جدية هذه الصيغ، فإنها مجمعة على التخلي عن الشكل الموحد المركزي الذي حُكمت به سوريا في عقود ما بعد الاستقلال.

وإذا ما كان شكل الصراع الداخلي الذي انفجر عام 2011 يأخذ شكلا تقليديا في أنه مواجهة بين ثورة شعب ونظام حكم، فإن مخارج الحلول التي تُعدُّ لهذا البلد تدفع إلى تعديل لتوصيف الصراع وجعله سوري- سوري يجري بين مناطق يعمل على الفصل بينها وترتيب جسور الوصل الاجتماعي والإغاثي والاقتصادي في ما بينها.

تختلف إيقاعات واشنطن وموسكو لعزف مقطوعة واحدة. تحدّث الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن “مناطق آمنة” في سوريا وراحت تبشّر بها بلدان المنطقة. التقطت موسكو الصدى وأعادت إنتاج الفكرة وفق صيغة “مناطق خفض التوتر” التي وُقعت اتفاقيتها في آخر اجتماع في أستانة (5 مايو الماضي).

يحتاج الأميركيون والروس إلى إعادة رسم خرائط الصراع الحالي للسيطرة على عبث إقليمي بات خارج السيطرة. وتعكس المحادثات، التي جرت وستجري بين الدولتين في العاصمة الأردنية من أجل نحت معالم المنطقة الآمنة في جنوب سوريا، إرادة ثنائية جدية، أولا للعمل سوية في سوريا، وثانيا لبناء هذه المناطق العتيدة، ربما على منوال مناطق النفوذ الأربع التي تقاسمتها الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا في ألمانيا بعد هزيمة النازية نهاية الحرب العالمية الثانية. بمعنى آخر، فإن ما يقدم على أنه حلّ مؤقت في سوريا، كان يخطط له أن يكون حلا دائما في ألمانيا إلى أن اندلعت الحرب الكورية في خمسينات القرن الماضي فتغير شكل العالم، وبالتالي شكل ألمانيا أيضا.

وتتحدث المعلومات عن سعي للوصول إلى “تفاهم روسي أميركي لضم درعا والقنيطرة والجولان وجزء من ريف السويداء، امتدادا إلى معسكر التنف ومعبر الوليد مع العراق إلى هذه المنطقة، بحيث تقام في مناطق المعارضة مجالس محلية وممرات إنسانية وعودة إلى النازحين واللاجئين ومشروعات إعادة إعمار، مع احتمال التوصل إلى تفاهم على وجود رمزي لدمشق على معبر نصيب مع الأردن ورفع العلم السوري الرسمي، في نقاط معينة في الشريط الأمني الذي يجب أن يكون خاليا من ميليشيات إيران وحزب الله”.

وإذا ما تمت ولادة المنطقة الآمنة في الجنوب برعاية واشنطن وموسكو بالتوافق مع الأردن ودول إقليمية أخرى (لا سيما إسرائيل وفق ما كشف وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو)، وإذا ما تم الاتفاق على شكل ومضمون إدارة هذه المنطقة، وإذا ما تم القبول بانخراط قوات إقليمية للمحافظة على أمن “المنطقة الآمنة”، فإن للنموذج الجديد مفاعيل عدوى تنسحب على بقية النواحي السورية لإقامة مناطق آمنة أخرى قد يتجاوز أو يحترم عددها الرقم الذي أوردته اتفاقية أستانة حول الأمر.

استشعرت دمشق مبكرا جدية المشروع الذي يتم التداول به على الحدود الأردنية. شنّ رأس نظام دمشق هجوما على الأردن وحذر وزير خارجيته من أن التعامل مع أي تدخل عسكري أردني سيكون تعاملا مع عدوان خارجي. نفت عمان وجود خطط لتدخل ما لكنها لمحت إلى أنها ستفعل إذا ما استدعى أمنها الاستراتيجي ذلك. وفي أبجديات الأردن رفض لوجود تنظيم داعش وأي جماعات جهادية على حدوده، ورفض لاقتراب أي قوات رسمية أو أمنية أو ميليشياوية تابعة لإيران من تلك الحدود. جاهر ملك البلاد بذلك في مقابلته الأخيرة مع واشنطن بوست، فيما أعلن وزير خارجية البلد أن عمان أبلغت روسيا بذلك.

يمثل الأردن حالة تقاطع مصالح بين روسيا والولايات المتحدة. تمتلك عمّان علاقات متقدمة استراتيجية وتاريخية مع واشنطن، وكان عاهل البلاد الملك عبدالله الثاني أول زعيم عربي يستقبله الرئيس الأميركي الجديد في البيت الأبيض. ومع ذلك تنبّهت عمّان مبكرا للدور الروسي الجديد في الشرق الأوسط عامة وسوريا خاصة، ونسج ملكها بنجاح علاقات لافتة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وكلمة سر المملكة الهاشمية بسيطة وهي أنها محكومة بضريبة الجغرافيا التي تجعلها عرضة بشكل دائم لضغوط الأزمات القادمة من فلسطين تاريخيا، ومن العراق منذ حصاره ثم غزوه، ومن سوريا منذ تفجر الصراع فيها، ومن درعا بالتحديد غير البعيدة عن الحدود. لا تملك عمّان أجندة خاصة ترتبط بهوية وشكل النظام في سوريا.

وضعت تصريحات مبكرة لرئيس هيئة الأركان المشتركة الفريق الركن محمود فريحات في آخر ديسمبر الماضي النقاط على الحروف “لا ولم نعمل ضد نظام دمشق. ندعم العشائر الحدودية لمكافحة الإرهاب. ونقلق ونحذّر من الممر الذي تعده إيران لاختراق العراق والوصل مع لبنان من خلال شمال سوريا”. ويأتي شكل المنطقة الآمنة جنوب سوريا ليعالج هواجس الأردن هذه، بحيث تخلو تلك المنطقة من جماعات الإرهاب وجماعات طهران وتثبّت الأردن شريكا إقليميا في تسويات سوريا المقبلة.

بيد أنه وبغضّ النظر عن تلك المداولات المتعلقة بسوريا، يعيد الحدث تعويم الجدل الذي راج عام 2015 حول توسع الأردن لتفيض حدوده باتجاه سوريا والعراق. وحين سلم العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني الراية الهاشمية للقوات المسلحة الأردنية في ذكرى الجلوس الملكي في ذلك العام، تدافعت التحليلات والمقالات لمناقشة تفسيرات الحدث وعلاقته بوظيفة الأردن في المنطقة وحاجة المملكة كما حاجة المنطقة إلى تطوير هذا الدور.

ولئن كان من المبكر الاهتداء إلى معادلة أردنية جديدة يفرضها مشروع المنطقة الآمنة على الحدود الشمالية للمملكة، فإن الخرائط التي تعد لسوريا كما للعراق قد تتطلب إعادة قراءة لأدوار ومساحات دول في المنطقة، وأن الدور الأردني الجديد، بما في ذلك ما بشرت به بعض مقالات ذلك العام من قيام “مملكة عربية عاصمتها عمّان”، قد يصبح أكثر من حديث الساعة بل من ضرورات هذه الساعة.

السابق
خطورة الرسائل بالواسطة في سورية
التالي
التهويل على قطر