الولي الفقيه مرشداً ورئيساً!

لا يبدو أن العالم كان مهتماً هذه المرة بما يمكن أن تحمله الانتخابات الرئاسية الإيرانية، ولم يكن يبدو أن للعواصم الكبرى مرشحاً مفضّلاً لرئاسة البلاد، وأن التجديد لحسن روحاني أو انتخاب خصمه إبراهيم رئيسي أصبح بالنسبة لهذا العالم لا يعدو كونه تمريناً شكلياً لا يغير من أداء النظام السياسي في طهران.

ولا يبدو أن العالم بعد فوز روحاني يقارب الرجل بصفته صنفاً آخر يختلف عن قماشة الولي الفقيه وحرسه الثوري. ولئن تعرّف المجتمع الدولي أثناء مفاوضات الخمس زائداً واحداً مع طهران على مناخ رئيس الجمهورية «المعتدل» وأداء وزير خارجيته محمد جواد ظريفي «المبتسم»، فإن التيار الإصلاحي المفترض أن روحاني يمثّله لم يجرؤ على اتخاذ مواقف تتباين عن السياسات الاستراتيجية الكبرى التي يشرف عليها المرشد علي خامنئي.

لم يسمح النظام السياسي الإيراني لمحمود أحمدي نجاد، الرئيس الإيراني السابق لولايتين والذي كان يمثل المحافظين والحرس والمرشد، بالترشح في الانتخابات الأخيرة. وبغضّ النظر عن ضعف حظوظ نجاد بالفوز، فإن «الدولة العميقة» أرادت لهذا السباق أن يجرى بين رئيسي المحافظ تاريخياً والذي تبوأ مواقع تدافع عن التشدد منذ الأيام الأولى لقيام الجمهورية الإسلامية، وروحاني الذي لم ينتم إلى التيار الإصلاحي يوماً ولا يمكن اعتباره ركناً أصيلاً من أركان الاعتدال الإيراني، وإن تقدم منذ ترشحه لولايته الأولى تحت هذه الصفة.

أعاد الإيرانيون انتخاب روحاني بغالبية مريحة. اعتبر الرئيس الفائز أن انتخابه يعكس رغبة الإيرانيين في «التوافق مع العالم». ولا ريب أن ذلك صحيح وأن المجتمع الإيراني توّاق لمصالحة هذا العالم والقطع مع سطوة الخطاب الخشبي الذي يصدح في سمائه. ولا شك في أن الناخب الإيراني بعث برسائل سبق أن أرسلها، فأتى برفسنجاني يوماً وبخاتمي يوماً آخر وخرج إلى الشوارع عام 2009 دفاعاً عن خياراته من دون أن يُحدث ذلك أي تبدل طفيف على سلوك الحاكم في إيران.

يوحي روحاني بأنه يمثل الاعتدال، لكن صلاحياته لا تمكّنه من تجاوز تيار التشدد. بيد أن المراقب يلاحظ بسهولة تطابق رؤية الرئاسة ومؤسسة المرشد في كافة السلوكيات التي تعاديها دول المنطقة. فلم يصدر عن روحاني ما يتناقض مع فلسفة الولي الفقيه في الانخراط المباشر في الدفاع عن نظام الأسد في دمشق، أو في توطيد السيطرة على النظام الحاكم في بغداد، أو في دعم الحوثيين في اليمن أو في رفد «حزب الله» في لبنان بكل ما يعوزه من مال وسلاح وديبلوماسية وأيديولوجيا.

تحاصر طهران رموز الإصلاح داخل السجون وبالإقامة الجبرية، فيما تطلق يد الرئيس «المعتدل الإصلاحي» حسن روحاني وتتيح له تولي رئاسة البلاد لولاية ثانية، وتقدم الأمر بصفته ثمرة معركة انتخابية مصطنعة بين محافظين ومعتدلين كشفت المناظرات التلفزيونية خواءها.

شن المرشحون المحافظون، قبل أن ينحصر أمرهم بإبراهيم رئيسي، حملة ضد أداء حكومة الرئيس المرشح الإنمائية والاقتصادية. تبادل المرشحان اتهامات الفساد والتلويح بكشف ملفات من دون أن يصدر عن روحاني، للدفاع عن حكومته، أي تساؤل (وليس اتهاماً) عن مصير الثروات الإيرانية التي يتم تبذيرها على ورش الحرس الثوري في ميادين المنطقة.

كان صوت الناخب الإيراني في أن «إيران أولاً» أقوى من صوت مرشحه الفائز. وبدا أن روحاني، الرئيس في ولايته الجديدة، بات مكلفاً، وفق شروط الفوز، بتولي شن الهجمات على قمم الرياض الثلاث مع الرئيس الاميركي دونالد ترامب واعتبارها «استعراضية»، ليستدرك لاحقاً، على رغم «استعراضية» نتائجها أن «لا استقرار للمنطقة من دون إيران».

تدرك طهران بجدية انتهاء «مواسمها». ولئن لمّح الرئيس الأميركي إلى أن ما بعد قمم الرياض يختلف عما قبلها، فإن طهران للمفارقة تدرك ذلك أيضاً. تراقب إيران تحوّلاً دولياً إقليمياً يجوّف طموحها الإمبراطوري وينهي سيطرتها على أربع عواصم عربية، وفق ما بشّر علي يونسي الذي للمفارقة كان يشغل منصب مستشار الرئيس «المعتدل» حسن روحاني.

إقرأ أيضاً: أوراق النفوذ الإيراني تتهاوى في بازار ترامب

وقد لا يكون صدفة أن تقويض النفوذ الإيراني في المنطقة يجرى متوازياً ومتواكباً مع اجتثاث تنظيم «داعش» من المنطقة ذاتها. تبدو العلاقة حميمة بين التطرفين السني والشيعي اللذين يتبادلان المصالح والخدمات، ويبدو أن القضاء الجاري على تنظيم البغدادي لا يستقيم، كما أملت طهران، مع ازدهار نظام ولاية الفقيه.

قد تكون الانتخابات الرئاسية تفصيلاً إيرانياً، وقد يكون فوز روحاني بالرئاسة وفوز الإصلاحيين بالانتخابات المحلية شأناً داخلياً صرفاً. وقد تمثل حيثيات الحدث مزاجاً اجتماعياً في إيران، لكنها تكشف من دون شك مأزق ولاية الفقيه عقيدة ومؤسسة واستراتيجية، وتكشف أيضاً انسداد أفق الاستمرار في التذاكي على المنظومتين الاقليمية والدولية لشراء البقاء في شكل مجاني. ولا ريب أن تفاصيل أخرى قد تميط اللثام عن سرّ التجديد لروحاني، ذلك أن المرشد أراده قبل أربع سنوات جسراً للعبور نحو الاتفاق النووي، وقد لا نفاجأ بأنه أراده هذه المرة لرسم خريطة طريق مضنية للنزول عن شجرة ارتفعت نهاياتها.

إقرأ أيضاً: نصرالله القلق من «قمة الرياض» يدعو للحوار الإيراني السعودي

نجحت قمم الرياض الثلاث في إرساء إجماع يدين السلوك الإيراني. بمعنى آخر، فإن العالميْن العربي والاسلامي يبتعدان نهائياً عن خيارات طهران على نحو يقلق إيران ويدفع وزير خارجية لبنان جبران باسيل، المتحالف مع «حزب الله»، إلى التغريد: «لم نكن نعلم». بدا واضحاً أن التهاني التي صدرت عن عواصم أوروبية لروحاني بالفوز باتت تطالب طهران بتغيير سلوكها وفق الرؤى التي يفرضها خطاب ترامب وكامل إدارته. وأن ما يفترض أنه تباين بين أوروبا وواشنطن حول مصير الاتفاق النووي يميل نحو الخضوع للقواعد التي أرستها قمم الرياض.

ربما مثّل روحاني في ولايته الأولى عبقاً سياسياً مختلفاً عن تيارات التشدد في إيران، لكنه في ولايته الجديدة لا يمثل أي اعتدال بل يمثل إرادة الولي الفقيه في موقعَي المرشد والرئاسة، ذلك أن النظام السياسي برمته، في اعتداله وتشدده، بات خارج مزاج العصر.

السابق
خامنئي: السعودية كالبقرة الحلوب يستدرون حليبها ثم يذبحونها
التالي
سقوط قائد في الحرس الثوري في مدينة الموصل