لبنان من إيران وجع الحرف

ذهبت إلى ايران مقيماً ثلاث سنوات، في زمن الثورة الدولة أو الدولة الثورة، على جدل ما زال مستمراً وعلى ميل متزايد ومتوقع إلى جهة الدولة في الداخل، وإلى جهة الثورة في بعض الخارج من أجل الداخل أحياناً واقتربت هناك من النسيج الثقافي والسياسي والاجتماعي بحيث أمكنتني الرؤية والاستشعار عن قرب. لقد كانت رحلتي وإقامتي فرصة للعودة إلى الذات وإسقاط أسباب التنصل من الخاص الوطني اللبناني تحت يافطة العموميات العابرة للأوطان، وكانت فرصة لإسقاط وهم المماهاة بين المتغايرات المتلاقية على نسبة من الوحدة ونسبة من التمايز الذي لا عيب فيه بل يكون العيب في فهمه الناقص وطريقة التعامل معه. ذهبت إلى ايران منتمياً إلى وطن عملاق، كوني، خرافي، يشبه وطن الغجر، أي اللاوطن، ينتشر رخواً في فضاء القارات الخمس، لا يقر ولا يستقر… ما أجمل الطيران فوق المحيطات! ولكن أين تستريح من وعثاء السفر؟ أين تحب؟ أين تنام وتحلم؟ أين تبني عشك الحضاري؟ وتعد أفراخك للتحليق في الفضاءات الجميلة الواسعة؟ هذه هي المسألة…

اقرأ أيضاً: عيناي مشرقتان لأني أرى بهما الآخرين

في طهران، استيقظت على وطنية لبنانية استيقاظي على ضرورة حياة ودور، واستيقظت على عروبة انتماء استيقاظي على المعنى والمدى والأصل في مكونات الفرد والجماعة، وكادت عروبتي، هناك، أن تبلغ عتبة العصبية الضارة حيال المشهد الإيراني، لولا أني عجلت باستعادة المسافة الضائعة، متأثراًإلى حد الغيرة، بما لمست من وطنية إيرانية، لم يسعفني الدليل في وضعها خارج الإسلام عقيدة وشريعة، وكانت غيرتي شروعاً في وعي جديد دشنته بالسؤال: هل كنت في مجافاتي ومفارقتي للوطنية اللبنانية والعروبة بانياً على أصل عقيدي وسيرة متصلة في أسلافي العامليين، أي شيعة جبل عامل اللبناني الذي له حبل سرّة يصله بجليل فلسطين وجولان سورية؟ أم كنت حالة من حالات الفتوة التي تنزع إلى التجريد والإطلاق والاختزال والتعميم الأيديولوجي، يعبر به الشباب حدود المكان والزمان والأهل والخلان؟ وكان لا بد لي أن أتلمس أصولي لأستوي عليها فرعاً لا يعاني الغربة عن مصادر النسغ والعافية. وكان لا بد لي من التوفّر على دراسة الشيعة كمتحد اجتماعي على نصاب ديني وكجماعة سياسية مدنية تتحرك على مساحة الاجتماع الوطني العام مع تمايزات يقتضيها أي تنوع على الوحدة في أي وطن من أوطان البشر.


إن اشتغالي وانشغالي في مسألة الشيعة والدولة في لبنان هو محاولة ترسيم منهجي للسؤال، ومحاولة لتأسيس وعي معاصر على ذاكرة منقاة وسليمة، دخول في قراءة هادئة في وعي الأطراف المكونة للبنان مجتمعاً ووطناً ودولة لمواقعها وأدوارها وسياقاتها التي ظلت تنقطع وتتصل منذ التأسيس وحتى الآن، بعيداً عن فرضية الرفض والثورية المستعلية المستنكفة، كما عن فرضية الواقعية المفرطة التي تجعل من الكيان مهرباً من العروبة وخروجاً عليها. إننا في بعض مظاهرنا، نبدو وكأننا نشرع في إرساء المعادلة على نصاب منهجي، هو نصاب الحوار على قاعدة الاختلاف والتكافؤ، بين الجماعة والجماعة، بين الدولة والمجتمع، بين الموالاة والمعارضة، بين المثقف والعالم والقائد السياسي، سعياًإلى تحقيق التكامل في الوظيفة الأعلى من إقامة العلاقة والأطروحة على جدل الحرية والضرورة… إن ذلك يدخل في باب تحقيق اللياقة المرجوة أمام الاستحقاقات الكبرى القادمة، ويمهد لحركة تنموية شاملة… للمادي والروحي على حد سواء. يقول ميشال بريجان “لقد آن الأوان للنظر في وقائع العلم والثقافة نظراً فكرياً وليس سياسياً، وللتأكيد عالياً وبوضوح أن الجمهورية بحاجة إلى علماء كما هي بحاجة إلى رسامين وشعراء وموسيقيين، ويجب النظر الفكري في الثقافة بذاتها ولذاتها بوصفها قوة ضرورية للوقوف في وجه الدولة عندما تستسلم للإغراء الكلي”.

اقرأ أيضاً: مشــروع شهـــادة

أصارحكم وأنتم الأهل وما دونكم من سر، إني أحب أولادي شأن كل عباد الله، إلا من شذ وندر لعلة في نفسه أو عقله أو ذوقه، ولكن أقول أحياناً: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لما تزوجت ولا أنجبت، وتفرغت للكتابة، اكتبكم فأكتبني وأكتبني فاكتبكم وجعاً ورجاء، وطناًوأهلاً… لا تصدقوا… لو لم أتزوج وأنجب ما كتبت، لو لم أتزوج لم أدرك تماماً موقع المرأة في نظام الحياة والقيم، ولم أصل إلى الصورة التي كونتها عما تعانيه من ظلم وتهميش وافتئات رغم مركزيتها في عمارة الحضارة والدين والثقافة والاجتماع والفن… ولو أني لم أنجب لم أكن لأعيش هذا القلق المستبد المبدع في الأجيال التي تنمو بين أعيننا في هذه المساحة المحتشدة بالنار والخضرة والرماد، ولم أدرك موقع أقدام الأطفال الحلوة ووقعها في اللحظة الشفافة بين النوم واليقظة، وإيقاعها الآسر في المطرح المعشب بين العقل والقلب، وملعبها في الممر المعتم بين الحاضر والغد، وإشكاليتها العالقة بين التربية والتنمية، بين اللغة والحاسوب… ولكانت الإشراقة في كل ما أكتب، إن كتبت، أقرب إلى العتمة، وما كانت العتمة مخزناً للضوء… ولما كنت انتهيت إلى قناعتي بأن مجتمعاً يظلم الطفل والمرأة، بحجة الدين إحياناً، مستعيداً من البداوة اسوأ مقتنياتها مسقطاً بداوته على الشرع والعقيدة، مجتمعاً هذه حاله، لن ينهض، لن يكون بمقدوره أن ينهض، وإذا ما نهض قليلاً عاد فتردى كثيراًإلىأن تبلغ حاله ما نحن عليه… وهل من داع لأن ينهض مجتمع ما على جثة نصفه أو ثلثيه أو ثلاثة أرباعه، أو جميعه في المحصلة؟ على جثة الحب والغد؟ ارأيتم إلى الغد كيف يصبح ماضياً ميتاً عندما نأتي إليه من ماضٍ مغلق؟ ما أريد أن أقوله هو أن الكتابة الباحثة، القلقة المترددة على طريق اليقين، التي تقطع سياقها لتعاود السؤال، جرياً وراء المعرفة، هذه الكتابة تعادل الزواج والإنجاب تعباً وعشقاً، تعادل الأهل والأحباب قيمة لدى الكاتب الحقيقي، أعني الراهب الذي يعتزل لذائذ الحياة في دفتره حيث تزدهر لذة فوق اللذاذات. أيها الأحبة، الذين نقرؤهم فنكتب ويقرؤوننا فنكتب، أيتها الكتب المفتوحة على السموات السبع والأرضين السبع، وعلى العالمين.. لو كنا ننتظر أجراًلما كتبنا. ومن قال إن أجر الدنيا كلها يعادل جزءاً يسيراً من آلام الحمل والمخاض والوضع والإرضاع والسهر الطويل على حافة المهد الجميل أو الدفتر المفتوح لولادات إبداعية؟ إننا ننتظر حباً… وكفى. شكراً لكم على مكافأتكم العظيمة… وأعدكم أن أكمل حبي لأولادكم في أحفادي وأحفادكم وأستكمل حبي لزوجتي في الوفاء للمرأة أماً وبنتاً وأختاً وحبيبة… أن أحب الوطن الأم وأكتبه، ذاهباً منه إلىالأهل عائداً منهم إليه من حاضره إلى ماضيه وغده. من دولته إلى مجتمعه ومن تنوعه إلى وحدته. ومن كيانه إلى وحدويته… ومن سيادته إلى عروبته، ومن إسلامه إلى مسيحيته، ومن احتلاله إلى حريته، ومن حربه إلى سلمه… ومن سجالاته إلى حواراته ومن أعدائه إلى حوارييه المحدقة أرواحهم الآن حول المذود في بيت لحم، وحول البركة في بنت جبيل والقلعة في بيت ياحون والمقبرة في قانا… وعلى آخر درجات الملوية في سامراء ينتظرون ولادة المهدي على رجاء العدل والحرية.

(من كتاب في وصف الحب والحرب)

السابق
صيدا: الله يرحم أيام مكب النفايات!
التالي
زيارة ترامب للسعودية بعين روسيا:حرب كبرى في الشرق الأوسط