حبيب صادق يروي ما جرى مع نبيه بري: محاولات محمومة للانتقاص من كرامة الآخر

حبيب صادق
في هذا المحور يعرض النائب السابق ورئيس المجلس الثقافي للبنان الجنوبي حبيب صادق لاربع رسائل ضمنها كتابه الصادر في العام 2010 تحت "عنوان وادي الوطن مقاربات في شؤون لبنان وشجونه" ورداً على ما ورد في كتاب: نبيه بري، أسكن هذا الكتاب الذي صدر عام 2004. (هذه مادة نشرت في مجلة "شؤون جنوبية" - العدد 163 - ربيع 2017)

الرسالة الأولى:

يقول السيد نبيه بري في مطلع الصفحة 286 من الكتاب الذي يسكنه ما يلي حرفياً: “.. أذكر أنني كنت أفتتح جسر الزرارية – طيرفلسيه وأعلنت في هذا الافتتاح المبادئ التي أخوض الانتخابات على أساسها وهي أنني أخوض معركة لتحطيم أكبر إقطاع في تاريخ لبنان وقلت يومها إننا لا ننسى الذين أهينوا، وهنا كنت ألمح إلى حبيب صادق…”.

اقرأ أيضاً: مرشحو صور يروون تجربتهم: انتهاكات وقمع واتهامات بالعمالة وتفجير فان

هذا ما يقوله صاحب الكتاب حرفياً أما ما يقوله الواقع، الحافل بالشهود والمؤيّد بالمستندات، فشيء آخر تماماً، إذ يقول: إن التصريح بإسم حبيب صادق، وليس التلميح، جاء، واضحاً ولافتاً، على لسان السيد بري وهو يخطب في ذلك الافتتاح وقد ردَّده، لا أقل من ثلاث مرات، في معرض إشادته بموقف حبيب صادق من الإقطاع السياسي في الجنوب وتنديده بما لحق به من عدوان سلطوي في انتخابات العام 1972 حيث قال ما حرفيَّته: “تحدثوا عن حرية الانتخابات… وهل حرية الانتخابات في إسقاط حبيب صادق بعدما نجح في مرجعيون”.

هذا القول المرسل في الخطاب قد بثته، في حينه مباشرة وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، وهو محفوظ في خزائنها لتاريخه كما هو محفوظ في مستودعات الصحف اليومية التي نقلته إلى قرائها في اليوم التالي.

ومن البديهي القول أن الخطاب كان موجهاً إلى الناس كافة وكان منهم في ذلك الاحتفال حشد كبير وقد رأوا وسمعوا ووعوا ثم راحوا ينقلون صورة ما شاهدوا مع التعليقات والحواشي.. وصادف أن كان بين المدعوين أصدقاء لي ومعارف فأتوني بالخبر اليقين وكان في طليعتهم الوجه الاجتماعي الثقافي المناضل الوطني عادل صباح الذي زارني، في النبطية، عقب الاحتفال مباشرة، ونقل إلي ما سمع معلّقاً بالقول: “لقد أتى على ذكرك أكثر من مرة في خطابه فقال من في جواري: إنها رسالة موجهة إليك على عتبة الانتخابات النيابية المقبلة…

في ضوء المقارنة بين تلميح خافت جاء في نص الكتاب المسكون فيه السيد بري وتصريح منه عالي النبرة سطره الواقع المشهود هل يبدو أثر لفضيلة الصدق في النص المكتوب؟

تُرى أين ذهبت فطنة البداهة، وأين تزايلت نباهة الحقوقي حيال واقعة أجمع على حدوثها الفعلي شهود عُدل وسجّلتها، بحياد تام، أجهزة الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب؟!!

الرسالة الثانية:

يتابع السيد نبيه بري قوله حرفياً في متن الصفحة عينها: “بعد هذا الاحتفال عدت إلى منزلي في المصيلح وأرسلت في طلب حبيب صادق ووضعته في الجو وأبلغته رغبتي في ضمه إلى لائحتنا الانتخابية…”. و”أذكر أن حبيب صادق شكر ثقتي ووافق”.

هذا قوله المثبت في الكتاب، المسكون فيه، أما ما قام به، هو بالذات، من فعل على أرض الواقع، فيجافي هذا القول وينقضه تماماً ويدين صاحبه بالاختلاف والبهتان.

وقصة هذا الفعل الممارس نوجزها في ما يلي:

في مساء ذلك اليوم من آب، كنا نحتسي الشاي، كجاري عادتنا، على شرفة منزلنا في النبطية. وكان في الندمان، إضافة إلى الصديق العزيز عادل صباح، الأستاذ الجامعي د. محمد سلوم والمربي الأديب حبيب جابر وآخرون من الأصدقاء والأقارب. كان عادل قد فرغ، لتوِّه، من حديثه عما شاهد وسمع في احتفال الجسر… وإذا يدخل علينا، فجأة، وفد من أربعة أصدقاء هم: الحاج قبلان قبلان (رئيس مجلس الجنوب حالياً) ود. إبراهيم قبيسي (رئيس الجامعة اللبنانية حالياً) ود. غسان بدر الدين (مدير كلية الحقوق – الفرع الأول – الجامعة اللبنانية حالياً) والمحامي سمير فياض.

حبيب صادق

وعقب تبادل التحيات والقبلات تجاذبنا أطراف الحديث، في جو ودّي، وكان من الطبيعي أن يتركز الحديث على حدث اليوم من هنا بادرني الحاج قبلان بسؤال ما إذا كانت الرسالة الموجهة إليّ، عبر الأثير، قد وصلت فاستزدته توضيحاً فاستطرد قائلاً: الرسالة التي وجهها إليك الأخ نبيه في خطابه، اليوم، في حفل افتتاح الجسر. فأجبت نعم إذا كانت الرسالة التي تعنيها هي ما أخبرنا به أبو أحمد، مشيراً إلى الصديق عادل صباح، فجاءني الرد بالإيجاب، مقروناً بأن تلك رسالة غير مباشرة وها نحن الآن نحمل إليك رسالة مباشرة، فالأخ نبيه أرسلنا إليك، فور عودته إلى داره في المصيلح، لكي نبلغك دعوته إلى مشاركته في خوض الانتخابات النيابية المقبلة.. ونحن، من جهتنا كأصدقاء لك، نؤيد هذه الدعوة ونرى فيها فرصة ثمينة لخدمة الجنوب وأهله ولخدمة البلد في هذه الظروف الانتقالية… فما رأيك؟

أجبت، بعد لحظة صمت، يقتضي الواجب عليّ، قبل إبدء الرأي، أن أعرب عن شكري للأستاذ نبيه على رسالتيه، ولكم، جميعاً، على مسعاكم الودي الكريم… وإذ بي أسمع من يقول: ليس من داع للشكر فنحن إخوان إنما نأمل أن نعرف الآن رأيك لننقله إليه فوراً فهو ينتظرنا في داره بالمصيلح، فتوجهت إليهم بالقول: نحن أصدقاء والصديق من صدقك لا من صدَّقك فاعلموا، يا أعزائي، أن سؤال الانتخابات النيابية لم أطرحه على نفسي، بعد، وبالتالي لم أفاتح بحديثه إخوان الصفاء الذين رافقوني في مسيرتي السياسية منذ الانتخابات السابقة (عام 1972) كما لم أتداول الرأي، في شأنه، مع أصدقائي في قيادات اليسار وأنتم على بينة بمدى العلاقة الوطيدة القائمة بيني وبينهم…

لمحت على قسمات الوجوه وصفحات العيون إمارات تساؤل وتعجّب فتابعت قائلاً: الرأي المسؤول في مثل هذا الشأن العام لا يرتجل ارتجالاً بصوت الفرد، أيا كان، فأستميحكم العذر إن تريثت في إعطاء الجواب.

هنا تداخل أعضاء الوفد تباعاً مشددين على أهمية المشاركة وضرورة الإسراع في إبداء الرأي.

فقلت: “إني أقدِّر مشاعركم كل التقدير إنما يحق لي أن أستمهلكم ريثما أخلو إلى نفسي وأعود إلى من ذكرت من الإخوان والأصدقاء لأقف على آرائهم.. فما زال أمامنا متسع من الوقت لمعالجة هذا الأمر.. وغداً نلتقي في بيروت، كجاري عادتنا، ونتابع الحديث في هذا الموضوع تعييناً”.

على هذا النحو جرى الحوار بمودة قبل أن أشيع الأصدقاء أعضاء الوفد إلى الباب الخارجي مودعاً.. وذلك في مساء يوم الأحد الواقع فيه 9 آب 1992 أي يوم الاحتفال بافتتاح الجسر.

في ضوء هذا الواقع الملموس هل يبدو من أثر لاحترام فضيلة الصدق في النص المنشور؟ ففي صفحات الكتاب يقول صاحب المذكرات إنه استدعاني، بعد الاحتفال، إلى منزله في المصيلح وأبلغني رغبته في ضمي إلى لائحته الانتخابية فوافقت شكراً ثقته بي.. في حين كنت في هذا الوقت، بالذات، أستقبل وفده

الصديق، في منزلي في النبطية، ناقلاً إليّ دعوته إلى المشاركة في الانتخابات وكان موقفي من هذه الدعوة، ما سبق ذكره..

تُرى كيف يتأتى للمرء أن يكون في مكانين متباعدين في حيز من الوقت واحد؟ هل في الأمر إعجاز غيبي أو هو من سحر ساحر؟ ليس هذا أو ذاك يجب لسان العقل والصدق فالأمر يتشخص في التناقض الفاحش بين فعل يتقنَّع بعفوية صاخبة، إنما لا تلزم صاحبها بشيء، وبين قول ينطق بلغة البهتان والاستعلاء والغطرسة…

تُرى ما سبب هذا التناقض الفاحش؟ هل يعود السبب إلى ضعف الذاكرة وتراكم المحتويات في وعائها أم إلى طبيعة السلطان واعتداده بالقدرة الخارقة على صنع المصائر والتحكم بالأقدار؟ أم في الأمر ما يستدعي التحليل السياسي، الاجتماعي – والنفسي، الأخلاقي وصولاً إلى كشف النقاب عن الأسباب الحقيقية؟

شؤون جنوبية

الرسالة الثالثة:

ظهر يوم الخميس الواقع فيه 14 آب 1992 أتتني مخابرة هاتفية من مقر المكتب السياسي لحركة أمل مفادها أن السيد علي حسن خليل (النائب والوزير حالياً) يطلب موعداً لزيارتي وحددت ظهر غد الجمعة موعداً للزيارة في مقر المجلس الثقافي للبنان الجنوبي – بيروت.

وفي الموعد المحدد جاءني السيد علي حسن خليل في رفقة أحد إخوانه، وكان لقائي الأول به مع أنه من أبناء بلدتي الخيام وتشدني إلى أهله الطيبين علاقة محبة واحترام.

أشهد أن السيد علي كان، في ذلك اللقاء، بارعاً في اللياقة والكياسة وقد أخجلني جداً إفراطه في الثناء عليّ والإشادة بدوري السياسي والثقافي. أصغيت إليه باهتمام وهو ينتقل من الإعراب، باستفاضة، عن مشاعره الشخصية تجاهي، إلى الحديث المطول عن محبة الأخ نبيه لي وعن تقديره لدوري في مواجهة الإقطاع السياسي في الجنوب.

كنت في ذلك اللقاء مصغياً أكثر مني متحدثاً فهو صاحب المبادرة وله من ورائها غاية لا بد من الإفصاح عنها وقد أفصح أخيراً عنها بالقول أن الأستاذ نبيه قد اطلع على موقفك من قبل وفده السابق إليك في شأن الانتخابات النيابية وهو قد أوفدني اليوم ليعرف ما إذا كنت قد أجريت اتصالاتك المطلوبة واتخذت قراراً في ضوئها.. لم يحن الوقت، بعد، لأتخذ هذا القرار، أجبت، فالحوار مع الإخوان ورفاق الطريق قد بدأ عقب عودتي من الجنوب مباشرة ولما يُستكمل بعد.. ثم إني على تواصل في هذا الشأن، شبه يومي، مع الصديقين (المقيمين في بيروت) د. إبراهيم قبيسي ود. غسان بدر الدين وهما على تواصل يومي معكم أليس كذلك؟

لعل من الجدير بالذكر، هنا، أن هذا اللقاء لم ينعقد بعيداً من السمع والبصر بل عُقد في إحدى غرف المجلس الثقافي المشرعة الأبواب عادة، وقد جالسنا أكثر من صديق فأبصر وسمع وما زال يذكر بوضوح ما جرى.

الرسالة الرابعة:

لم يمض على هذا اللقاء سوى أسبوع واحد حتى جاءني ثانية، السيد علي حسن خليل، بناء على موعد سابق، وعلى ذلك المستوى من الكياسة واللياقة راح يشدد على أهمية التلاقي على خيار المشاركة في الانتخابات النيابية المقبلة خصوصاً وأن ثمة قواسم مشتركة عديدة تجمعني والأخ نبيه سواء على صعيد مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لشطر عزيز من الجنوب أم على صعيد محاربة الإقطاع السياسي أم صعيد العمل على رفع الغبن والحرمان عن أبناء الجنوب.

أخيراً بدا مغتبطاً جداً وهو يشير إلى ما سمعه من الأستاذ نبيه في شأن الاتصالات التي أجريتها مع الإخوان والرفاق وجاءت نتيجتها إيجابية. قلت لقد حصل ما هو قريب من ذلك وقد اطلعت الصديقين د. إبراهيم قبيسي ود. غسان بدر الدين على خلاصة ما جرى في لقائي معهما أمس الأول وهما، بالتأكيد، أطلعا الأستاذ نبيه على هذه الخلاصة.

اقرأ أيضاً: هكذا حاربت الثنائية الشيعية المرشحين المستقلين في انتخابات 2005

هنا استحسن السيد علي أن يدعوني إلى لقاء مع الأستاذ نبيه ما دام الأمر قد نضج إلى هذا الحد وليس بينكما إلا ما يستدعي عقد هذا اللقاء. فسارعت إلى القول بأن ليس بيني وبين الأستاذ ما يحول دون لقائه حول أكثر من شأن ولكن في شأن الانتخابات ثمة أمور، أراها غاية في الأهمية، ما تزال، إلى اليوم، مادة حوار بيني وبين بعض الأصدقاء والرفاق ويعرف امره الصديقان المذكوران.

****

تلك شهادات موثّقة في رسائل أربع أكتفي، في هذه المطالعة، بالإدلاء بها، كما سبقت الإشارة، وهي تنطق بحقيقة ما جرى، خلال أسبوعين تقريباً، في الواقع لا في الوهم أو الادعاء، وطبيعي أن تخلع، هذه الرسائل – الشهادات، مختلف الأقنعة عن وجوه القول المرسل في موقعه، من الكتاب المسكون فيه صاحبه بذاكرته الخصبة. وهنا يتسائل المرء، تساؤل العارف، ما الذي دعا صاحب هذه الذاكرة أن يستفرغها من محتوياتها في هذا الوقت المأزوم على شتى الصعد؟ ثم ما الذي دفعه إلى الوقوع في مطبّ نصبه لنفسه بنفسه، فيظهر، للملأ، متهافت المنطق، فاقد الحجة، “مفجوعاً بأكرم أخلاقه” لانتهاكه، انتهاكاً، فاضحاً، فضيلة الصدق في ما يروي من سير مختلقة وينقل من أخبار وأقوال لا صلة لها بالواقع والحقيقة.

تُرى لماذا أقدم، اليوم، على ما أقدم عليه وهو في أعلى المراتب في دولة الاستباحة والمحاصصة الطائفية، وفي المروي من أقوال العرب: أن من تعلو به الرتب ينخفض، في صدره، منسوب الضغائن والأحقاد.. إنما الناس، تعلم، علم اليقين كيف ومن أين هبطت عليه نعمة هذا السلطان الرفيع، وتعلم، علم اليقين، كيف ومن قِبَل من يُحمى هذا السلطان ويُصان. فلماذا، والحال هذه، يخاطب الناس من عليائه ويريدهم أن يصدقوا ما يشيع من أراجيف وأباطيل في صيغ مذكرات، وهم، أنفسهم، شهود عدل على اختلاقها… ثم هم لا يرون، في هذا السلوك، سوى ترجمة، بهلوانية، لوهم العظمة وتعبير، مراهق، عن إنتفاخ الذات في محاولة محمومة للانتقاض من كرامة الآخر بهدف تهميشه وإلغاء حضوره…

(من كتاب وادي الوطن مقاربات في شؤون لبنان وشجونه – حبيب صادق)

السابق
في ذكرى التحرير: احتفال يحيي العظام وهي رميم
التالي
شهادة علي الأمين: اعتداء وتهويل وتزوير ضد المرشح حبيب صادق