جبشيت

أيقظته زوجته من نومه وقالت: حان وقت الصلاة. عرك عينيه براحته وقال : كان الوطن مرتدياً أجمل غاباته، حاملاً بيده حقلاًمن قمح وعدس وأقحوان وطيون.. هنا.. معي منذ قليل، للحظة كأنها دهر.. وأشار إلى فراشه.. قالت الزوجة: هذا الوطن يثير غيرتي.. قل له أن يعود ثانية، لأغار لأنه يأتيك أو يواتيك في منامك فتستمتع، اما أنا فيأتيني في يقظتي فيكويني ويسبيني.. وأغار منه لأنه يجد طريقه إلى فراشك مجللاً بالعطر.. مريضاً بالحرب.. يبحث عن شفائه في الحب.. قل له إني سأنام من أول الليل إلى أول الفجر، لعله يأتي.. ولو من دون ورد أو قمح.. ولو كان حاملاً احتمالاً باستئناف الحرب واحتمال سلام بينها وبين حرب أخرى، أو حديقة من شوك.. وحقلاً من جعفيل.. والمهم أن يكون فيه بقية من هوائه النقي، ورطوبته المنعشة. أكاد أختنق من هذا العراء، بلا وطن..

اقرأ أيضاً: سؤال صعب عن الجبة والحب

جبشيت.. قرية.. بيئة من أرض وسماء وحجر وبشر وقمح وتبغ وشجر وأحلام وأهل وحب وفتية وفتيات وشهود وشهداء.. وحرب وبُعد وغربة واغتراب وحنين وعودة.. وكان كل شيء جميلاً.. كان فعل ماضٍ ناقص.. والنقص في القمر وعد بالاكتمال بشرط الصبر.. ونحن صابرون.. كلنا نستقبل روحاً من أيامنا التي سلفت.. وذهب معها الهناء والجمال والأنس والإيناس.
في صيف 1982 إلى خريف 1985 كنت غريباً بين اصدقاء ورفاق درس ونضال.. ولكن للوطن مكاناً لا يسد فراغه أحد أو شيء. وعلى وعد بالسفر إليها.. كتبت لها ما يقوله الشاعر بإيقاع أوقع، بقرية لا تفارق طفلها حتى لو جلّل الشيب رأسه وتأتيه في منامه ويقظته وتذكّره بأنه عشّب أرضها فعشبته وحرثها وزرعها وقطفها، فحرثته وزرعته ولم تقطفه لأن السفر أغراه.. فمرض بالغربة.. وعنّت.. حضرت بكل ألوان تربتها وحجارتها، جنادبها و(ضو الليل) وكل عصافيرها المواطنة والسائحة، وكل الذكريات الملونة بالشمس والقمر والتعب والسهر والحكايا والمخاوف، وعقد شالات الصبايا حول أعناقهن التي تنتظر القلادة.. وقال.. بعدما قرر شد الرحال إليها.. يعدها بالحب وكأنها يتوعدها، ليتلافى وعيدها له بالعقوبة جراء الغربة..
” نحّي ضفائر القرنفل والوزال والدحنون.. افتحي مخازن غلالك.. افتحي بوابة صدرك الذهبي، نادي كي يضوع البابونج.. وإذا أراد الياسمين المولع بالسهر وتوزيع العطر ليلاً على الجيران، أن ينام فلينم.. وليذهب هذا الحارس الليلي، البوم، ومعه الخفاش إلى فراشه.. ليذهب هؤلاء الأطفال إلى فراشاتهم، ليسرع هذا القمر خطاه إلى البحر، لترتدِ هذه السماء عباءتها الزرقاء وليلملم هذا الليل ما تبقى لديه من نجوم وستائر، واعديه على ليلة أخرى.. ولتكف هذه الحمامة عن الهديل لأن فرخها جائع.. ولينتظر الشعر تحت النافذة أو (باب السر).
إني آت.. هذا أوان عطرك.. قالت لي القبّرة التي نسيت مكان عشها لطول ما غنت ( أتتو يتتي أتتا ) وحطت على نياط القلب ونقرت على أرنبة الأنف وباب الذاكرة.

جبشيت
ضعي هذه الزيتونة عن رأسك.. يكاد زيتها يضيء ويُعشينا.. وليأت الوَسَنُ ليأخذ هذه الملائكة عن ساعديكِ، ويجمع هذه الأعراس والأعياد والمواويل عن ذيل فستانك، أضيئي البرتقال وأكواز الذرة وعناقيد الحصرم والعليق، وانشري مناديلك لنجفف ماء الوضوء عن العيون.أحكمي أغطية جرار السمن والدبس والخل والزيت والدمع والدم والعرق والماء والمخيض.. أيقظي قفير النحل.. شاع الأريج واشتاق العسل.. هذا أوان عطرك.. ولتسترح شتلة التبغ.. أما كفاها سهراً على درب العين ! افتحي الياقة الوردية عن العنق الفضي.. جرّحتني الفضة.. افتحي هذا الدفتر من ورق التين والتوت والعنب والخباز والهندباء والحمّيض وقرص عنّة.. وطرابين الحبق.. فقد اكتملت في دمي القصيدة.. ها هي تتقاطر من عيني مثل حبيبات العسل.. تخرج كقافلة نمل من أناملي.. اشتعلت أصابعي، ناوليني عوداً من البيلسان ومحبرة من نداك.. لأكتبك.. لأكتبني.. اكتحلي.. انهضي، لأستريح وأنام.. وأصحو على صوت الحسون مذعوراً.. فالعيارون يرصدون مفارق شعرك، ومراياك وقوارير عطرك وأساورك.. وأغاني العصافير مع نسمة الفجر الأولى.. ومواعيد نومك، وصرة كحلك.. والكيس الذي خبأت فيه قروشاً من ثمن الحليب واللبن والبيض، ثمناً لمراييل أطفالك المدرسية وكتبهم ودفاترهم وأقلام رصاصهم والمسطرة الخشبية التي أدهشتهم والبيكار الذي حيرهم.. لا تنسي أربطة جدائلك.. وخبئيني تحت الغلالة، في ساقية الحزن، في ملتقى الألوان، في مشاتل الفرح.. في مقاتل المحتلين في عينيك.
.. يا فاتنتي بالبور من أرضك، تعالي نشتبك ونتصارع بمودة ورفق ونعومة، هنا.. على حافة هذا البيدر.. تعالي وأنا المغلوب مع إصراري على أن الجائزة تليق بي.. لأنني مغلوبك..
افتحي شبابيك ليلك على الأحلام والآلام والخبز والحرية والجنة.. مدي يدك، سرّحي هذه الذؤابة الشعثاء لهذا الغجري الطاعن في الترحال والأشواق.. تأتيه الحال من حالك، تسبيه ويرضى ويفرح لأنه من سباياكِ.. افتحي خاصرتك المعشبة، واحسري أردانك عن ذراعيك الأخضرين.. نبهي تيجان الزهر وأكؤسه، فقد هبت الرياح اللواقح، رخاءً خصبة ومخصبة.. طوقيني أو أطوقك بعيني أو شفتي أو حبة قلبي.. أو زهرة دفلى.. ودعي الزهور تنعقد وتعد.. وانتظري مواعيد الوحام.. افتحي طفولتي.. ها أنت تتفرع منك المنحنيات الذاتية والأسرار الحميمة والأليمة الوجيعة الموجعة.. وجع الحرف.. وجع الجوري بحمرته ورائحته.. ها أنت لا تنسين ذلك الصبي، أنا.. وهو عندما صبت أمه الماء البارد على جسمه العاري الطري أمام عيون الغاسلات، على عين “القاعور” البعيدة، المخصصة للغسل والغسيل أما القريبة فهي للشرب، لأنها تنبع في أرض بيضاء (فِرسية) فماؤها أنقى وألذّ.. وارتجف الصبي مثل سنبلة في مهب الريح.. وقرر أن يبدأ الحياة، لعل الصبايا يدركن أنه أدرك.
وتلك سنونوة هدّمت عشها في سقف المنزل، فعشعشت وشعشعت في جفوني، وتلك عليقة واعدت (أبا الحن) في ظلها وبين أشواكها، فجاء صياد طويل القامة والبندقية، واصطاد الشحرور فخاف أبو الحن وهرب بعيداً فوقع في فخ منصوب له.
وهذه الفلاحة التي نذرت هريسة على ديك دجاج هندي وكعك العباس إذا نجحت في الابتدائية، لأني كتبت لها رسالة إلى زوجها الغائب في الكويت، أثرت فيه فعاد.. وزرع حقله معها وأنعم الله عليهم بغلّة وولد..
وتلك صبية أعدت شاياً لي ولأترابي عندما نجحت في المتوسطة، فاتهمتها صبية أخرى بأنها تفكر في أمر ما.. ضحكن وقالت : يا ريت.. إنه عما قريب يسافر إلى الحوزة الدينية في النجف، ويصبح بيننا حيطان عالية.

اقرأ أيضاً: ذاكرة الحرب اللبنانية واحتمالاتها «الآتية»

وهذا علي فحص ابن أبي حمزة الذي كان قليلاً ما يمشّط شعره.. وقال لي: لا تسافر، وابق هنا، أهنا لنا، نزرع تبغاً وورداً ونعلم الأولاد القراءة والحساب ونقرأ شعراً ونندهش، إذا سافرت فقدت القدرة على مشاركتنا دهشاتنا.. وتأخذ تندهش بأمور لا تدهشنا.. فتضع حداً لشراكتنا.
وهذه فاطمة التي فركت كفيها من مرّ التبغ بعد ليلة قطاف، ونظرت الي فأعشتها الشمس الطالعة لتوها كاملة الضوء والحرارة، فوضعت راحتها على عينيها وقالت: خسرناك.. غلابة.. غلبتني.. سآوي إلى الصمت، لأنه أبلغ.. وأجدى وأجمل.. إني أسمع صوت نومك وفوحك.. فهل تسمعين صوت صمتي وشوقي ؟ حضري زغاريدك.. فقد هيأت أذني وعيني وقلبي وشفتي للحظة لقياك والعودة إلى ذاتي.

(من كتاب في وصف الحب والحرب)

السابق
نادين الراسي: لست المجدلية.. يا ريت كلنا منخطئ باسم الحب
التالي
الصيغة الأحدث: الأسد يرحل والنظام يبقى… لكن متى وكيف؟