ما هي «حقيقة» سائق التاكسي؟

منذ إقامتي الجديدة في الأشرفية، وأنا أتفادى استخدام سيارتي للتنقل، إلاّ عند الضرورة القصوى. فإما أن أمشي، وإما أن أستقلّ السرفيس والتاكسي.

أمس، سألتُ سائق سيارة عمومية أن ينقلني إلى الجامعة اللبنانية الاميركية LAU في قريطم قاصداً إياها لتقديم طلب مساعدة مالية بهدف خفض القسط المترتّب على “وليّ العهد” في سنته الجامعية الأولى المرتقبة.

جلستُ إلى جانب هذا السائق، ليبادرني، بعد صمتٍ مسرحيّ مذهل، متسائلاً: النوّاب كيف ممكن يعملوا قانون انتخاب ضد مصلحتهن؟! مستحيل!

ردّدتُ سؤاله في قلبي قائلاً: فعلاً. كيف ممكن؟!

اقرأ أيضاً: الرياض ما لها على الفرح اعتراض

كان السائق يسمّي “النوّاب”، وهو يقصد الطبقة السياسية “الأبدية”، بأحزابها وتيّاراتها ومكوّناتها، وبزعماء طوائفها ومذاهبها، وبناهبي خيرات البلاد، وسارقي أموالها.

تعني جملته، أن من المستحيل في رأيه أن يشارك هؤلاء في إنتاج قانونٍ ضدّ وجودهم، وفي نسج “مؤامرة” كهذه، من شأنها أن تفضي إلى تداولٍ جوهري في السلطة، أو تفسح في المجال أمام القوى المدنية والأجيال الشابة للمشاركة الفاعلة في العملية السياسية.

لا بدّ، والحال هذه، من أن يظلّ قادة هذه الطبقة السياسية يديرون الحلقة المفرغة نفسها: إما قانون الستّين، وإما التمديد، وإما الفراغ، وإما قانون هجين مفخّخ يضمن عودتهم الأكيدة، من دون أيّ تغييرٍ دراماتيكي محتمل في التوازنات القائمة.

أذهلتني بساطة السائق، وعفويته، وأحرجني ذكاؤه الفطري.

بجملةٍ واحدة، استطاع هذا الرجل أن يختصر القضية الماثلة أمامنا، التي لا تحتاج في رأيه إلى اجتماعات ومناقشات وكواليس وأروقة وتبادل مصالح ومنافع، ولا إلى ضغوط أو تبويس لحى.

جملةٌ واحدة قالها هذا السائق، لا غير، ثمّ استغرق في الصمت الدراميّ نفسه، تاركاً الجواب في عهدة الغيب:

كيف ممكن يكونوا ضدّ حالهن؟!

هذه الجملة كانت بمثابة صفعةٍ لي، أنا الذي يكتب باستمرار، محرّضاً الجماعات المدنية والمستقلين والديموقراطيين عموماً على إيجاد أرضٍ مشتركة، يتحرّكون فوقها معاً، ضمن رؤيةٍ خلاّقة، ووفق منهجيةٍ عملانيةٍ مفتوحة، من شأنها أن تُحدِث زلزالاً في الحياة الوطنية العامة، وتجرف الناس جرفاً إلى الرفض والتمرد والتغيير.

سيارة تاكسي

جملة السائق هذه، جعلتني “أيأس” حقاً من احتمال التوصل إلى قانونٍ انتخابي يلامس الهواجس والأحلام والتطلعات التي تعصف بالوجدان المجتمعي العام، وتعكس حقيقة ما يريده الناس. لكنها جعلتني واثقاً – بلا تفسيرٍ منطقي – من لزوم حصول “معجزة” عارمة في توجّهات الرأي العام وخياراته وقراراته المصيرية.

لزوم حصول “المعجزة”، ليس محض كلامٍ اعتباطي أو عاطفي. أنا واثقٌ تماماً، بـ”القوة الفلسفية” التي ينطوي عليها هذا الوثوق، من أن العنف “القانوني” الاستبدادي المتمادي الذي تمارسه الطبقة السياسية، وتلغي بواسطته أيّ احتمالاتٍ ديموقراطية مضادة، لن يستطيع أن يظلّ “على حلّ شعره”.

هذه الطبقة السياسية، قد تدمّر نفسها بنفسها، وهي تمعن في هذا “العنف” القانوني الدستوري التشريعي الميثاقي الإلغائي، وقد تدمّر لبنان في الآن نفسه، لكنها لن تستطيع أن تظلّ ممسكةً بقوانين هذه اللعبة الجهنمية.

لم أقل للسائق شيئاً كهذا، بل اكتفيتُ بهزّ الرأس، علامة الموافقة على كلامه، لأني في قرارتي لا أحبّ الدخول في مناقشات عابرة كهذه، لن تفضي إلى نتيجة.

الآن في وسعي أن أقول لهذا السائق الذي لا أعرفه، وأن أقول للقرّاء، كلّ القرّاء – وأقصد المواطنين – ما يأتي: إذا كانت الحقيقة التي تفوّه بها هذا السائق هي فعلاً الحقيقة اللبنانية المأزومة – وأنا متأكدٌ من ذلك – فهذا يتطلّب أحد موقفين: إما القبول بهذه الحقيقة، أياً تكن النتائج المترتّبة عليها، وإما رفض هذه الحقيقة، باستخدام كلّ وسائل الضغط الديموقراطي المنظّم، من أجل تغييرها.

هذان الموقفان هما برسم المواطنين، وخصوصاً قوى التغيير المدني الديموقراطي.

سائق التاكسي، خذوا الحقيقة من فمه، أيها المواطنون… وافعلوا شيئاً ما: إما أن تقبلوا بهذه الحقيقة الشنيعة، وإما أن ترفضوها.

إذا أردتم رأيي المتواضع، فأنا أدعوكم إلى التمرد عليها، واجتراح الحقيقة الديموقراطية المدنية المضادة.

… فارفضوها، أياً تكن النتائج المترتّبة عليها!

السابق
المساجد للسعودية وايران… والفتن المذهبية في جميع البلدان!
التالي
سوريا والرئيس الكيميائي الضاحك!