التيارات السياسية في إيران.. صورة من قريب

تسعى الباحثة الأردنية فاطمة الصمادي الأستاذة الجامعية المتخصصة في الشأن الإيراني، في كتابها: “التيارات السياسية في إيران”- إلى رسم خريطة تفصيلية للتيارات السياسية الإيرانية، وبيان مشاكله، يرافقه سرد تاريخي لنشأة تلك الأحزاب والمنظمات والجمعيات السياسية والدينية على اختلاف درجاتها الفكرية، ومواقفها، وتحليل خطاباتها المتنوعة، وبيان التشابهات والتباينات، وكذا التحولات التي تمخضت عنها.

إقرأ أيضا: كتابان من مذكرات اللواء قاسم سليماني

يضم كتاب الصمادي، الذي يقع في 392 صفحة من القطع المتوسط، خمسة فصول، اعتمدت فيها المنهج التحليلي والوصفي، وبيّنت العوامل المؤثرة في تشكيل التيارات السياسية وتكوينها منذ العهد البهلوي، ومروراً بالثورة الخمينية، والعبور من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث، ومعدلات التنمية والتحديث، ودرجة تسييس المجتمع وتحوّله إلى الديمقراطية، مع الأخذ في الاعتبار الشروط التاريخية والاجتماعية والثقافية المتحكمة في روابط المجتمع الإيراني، المقسّم إلى طوائف ومذاهب وأديان، وإلى أعراق وقوميات ولغات بلغت ست مجموعات؛ هي: الناطقون بالفارسية (50%)، الآذريون الأتراك (23%)، الأكراد (11%)، العرب (5%)، التركمان (3%)، البلوش (3%).
أفول الأحزاب الإيرانية
تناقش الباحثة معضلة رئيسة تواجهها التيارات السياسية في إيران، لخصتها ضمن عنوان “علل الأفول”، وهي أسباب تتقاسمها التجمعات السياسية، من أحزاب وحركات اجتماعية، فتخضع لمصير قريب ومتشابه من حيث النشأة والأفول.
وتسجل الباحثة ملاحظة إجرائية تتمثّل في أنه لا يوجد حزب سياسي في إيران استطاع أن يعمر أكثر من عشر سنوات؛ فيما يتضح من خلال السرد لنشاط هذه التكوينات السياسية في المجتمع الإيراني، وبخاصة ما بعد ثورة عام 1979، هذا الطابع النخبوي المتحكم في مفاصل دورها، وطبيعة احتكاكها، وانخراطها في المجتمع الذي ينشط في المواسم الانتخابية، ثم لا يلبث أن يخبو، بالإضافة إلى غياب البرامج، والاعتماد على الفرد، والترابط المذهبي، والدفاع عن قمع الحكومة والاستبداد، وهي عوامل أدت إلى تشكيل عوائق تحول دون تشكّل المراكز السياسية المستقلة.
وفي إطار هذا الانقسام والحل الذي ظل يرافق مسيرة كل الأحزاب تبرز عدة تفسيرات أخرى، من بينها التبعية، وارتباطها بالسلطة، ونشأتها بقرار حكومي مباشر، ومن خلال شخصيات نافذة في الحكم، ترتب عليها فقدان الصلة بالجماهير، لعدم تلبية مطالبهم، وأضحت فيما بعد مدخلًا لهجوم المعارضين.

الثورة الإسلامية في إيران
العقد الأول من الثورة.. وقلق من المستقبل
تناولت الباحثة في الفصل الأول من الكتاب، العقد الأول من عمر الجمهورية الإسلامية، والصراعات التي شهدتها، والمواجهات التي وقعت بين القوى الإسلامية المؤيدة للخميني وغيرها من القوى السياسية الماركسية والليبرالية والقومية، وركّزت على تحليل خطابات الثورة، وأزالت الكثير من الالتباس عن المفاهيم المؤسِّسة للجمهورية الإسلامية، مثل خطاب “الدفاع المقدس”، وخطاب “البناء”، وخطاب “الإصلاحات”، والخطاب “الأصولي”، رافق ذلك التركيز أيضًا على أحداث عالمية وإقليمية ووطنية أثرت بقوّة في كثير من خطوات الثورة الإسلامية الناشئة، كالحرب العراقية الإيرانية التي حكمت على الأحزاب السياسية بتراجع أدائها، وغياب قضية التنمية السياسية في سبيل “إعادة البناء”، والخروج من مخلّفات الحرب التي أوجدتها الصراع مع العراق، فضلًا عن حادث احتلال السفارة الأمريكية في طهران التي وصفها الإمام الخميني بـ”ثورة ثانية وأكبر من الثورة الأولى”.
بدأب شديد، رصدت الصمادي الفضاء السياسي الإيراني في عقد الثمانينيات، وتعقبت فصول انهيار التحالف الذي أسقط الشاه، بتَجمُّعِ عدة قوى متخاصمة أيديولوجيّاً: دينية، وعلمانية متألفة من أحزاب يسارية، مثل حزب توده “الجماهير”، وليبرالية كـ”الجبهة الوطنية”، وحزب “الجمهورية الإسلامية”، ومنظمة “فدائيي الشعب”، حتى بلوغها مرحلة استتباب الأمر لـ”رجال الدين المقاتلين”، وتصفية القوى غير الدينية.
الإمام الخميني… الحجة الباقية
اعتمدت الباحثة سرداً تحليليّاً للخطاب السياسي، ارتكز على الدور التكتيكي الذي أدّاه الإمام الخميني تجاه بناء ثورته، وجذب القوى المضادة وتوحيدها، ببناء عقيدة ضد الشاه، وتركيز الشعارات كافة في أولوية مواجهته من دون التطرق لأسلمة الثورة، أو تكوين حكومة ذات صبغة دينية. وقد استُغلّت التيارات السياسية اليسارية في البداية، مثل التيار الماركسي المتمثل في حزب “الجماهير”، والتيار اليساري الإسلامي “مجاهدو خلق”، على أن خطابها مناسب لمواجهة الغرب والولايات المتحدة باعتبارهما حلفين لآخر حاكم من أسرة بهلوي.
الأحزاب الفارسية… المسار والمصير
خصّصت الباحثة جانباً رئيساً للإجابة عن سؤال عن كيفية نشأة اليمين واليسار في إيران الإسلامية، ويبدو في المقابل أنها تخالف التقسيم المعتاد للتيارات السياسية إلى يمين ووسط ويسار، وتضطلع إلى رؤية مغايرة تحتاج إلى ضبط للمصطلحات وتقييم مغاير، فهناك أربع كتل سياسية وحزبية، إحداها أصولية ينتمي إليها رجال الدين السياسيون، ومنها القوى الإسلامية المؤيدة للإمام الخميني، والجماعات الإسلامية الراديكالية، ويضمّ التيار الأصولي المقرب من المرشد الأعلى للثورة الإيرانية “علي خامنئي”، وسبعة أحزاب سياسية، مثل “حزب مؤتلفة الإسلامي”.
وتكشف الباحثة في سياق الأحداث، وسرد تطوراتها على الساحة الإيرانية خلال هذه الفترة أنه لولا شخصية الإمام الخميني ذات الكاريزما العالية ما استطاعت القوى الإسلامية أن تحسم الصراع مع القوى غير الإسلامية: الليبرالية واليسارية، وحتى القوى الإسلامية ذات المرجعيات الماركسية في إيران، مثل مجاهدي خلق أو ما يمكن تسميته بـ”اليسار الإسلامي”، الذي مزج بين الثورة والعدالة الاجتماعية وتأييد ذلك بالنصوص الدينية الإسلامية. وفي خضم هذا الحضور الطاغي لشخصية المؤسس ومن خلال مواجهة دموية أمسك تيار القوى الإسلامية الخمينية بزمام السلطة السياسية، وأقصى التوجهات السياسية الأخرى.
تقدم الباحثة صورة كليّة في الفصل الثاني، تفصّل فيها الحديث عن التيار الأصولي، من حيث النشأة والمبادئ والمواقف والاتجاهات، وفي مقدمتها الجدل حول ولاية الفقيه، ودور رجال الدين في الحياة السياسية، والعلاقة مع الغرب وأمريكا. بدايةً تكوّن الجناح اليميني من طبقتين تشكلتا من رجال الدين التقليديين، والمنظمات المدنية المرتبطة بقوى السوق التقليدية، وهو ما تسبب في الخلاف مع حكومة مير موسوي في سياساته الاقتصادية خلال الحرب، وكان مفتاحًا للانقسام بين القوى الثورية. ويُعَدّ حزب “مؤتلفة” الإسلامي الهيئة الرئيسة لجناح اليمين، ومن أبرز حاملي خطاب اليمين حزب الجمهورية الإسلامية، ومجتمع رجال الدين المقاتلين، ومجتمع مدرّسي حوزة قم العلمية.
وتخصص الكاتبة القسم الثاني من هذا الفصل لبحث مواقف هذا التيار من عدة قضايا فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية؛ فعلى سبيل المثال يعتقد هذا التيار أن ولاية الفقيه ليست قضية انتخابية، ولا دور للناس فيها، لأنه قائد الثورة، و”ظاهر بالمدد الإلهي”. ويدعم هذا التيار أيَضًا فكرة معاداة الغرب، واعتماد مقولة الشيطان الأكبر في توصيف أمريكا عدو الثورة الإسلامية، كما يدعم القطاع الخاص في مقابل اقتصاد الدولة.

اليسار الفارسي… الابن الضال
توضح الباحثة مواقف التيار اليساري في إيران، والتحولات التي شهدتها، حيث إن اليسار الفارسي لا يشبه غيره، فهو ذو خصوصية شديدة من حيث تبنيه للفكر الماركسي والمادية الجدلية، لكن بتأويل لا يخرج عن ثوابت الرؤية السياسية الإيرانية والنظرية الشيعية في الحكم؛ بحسب ما تراه الكاتبة في الفصل الثالث… وهذا التيار الذي يسمَّى التيار الإصلاحي يضم في عضويته أحزابًا ومنظمات، أهمها: “مجمع رجال الدين المقاتلين”، ومنظمة “مجاهدي الثورة الإسلامية”، و”مكتب تحكيم الوحدة”… وكان في زمن الخميني مدافعًا عنيدًا عن ولاية الفقيه المطلقة بـ”التعيين”، وبدون تقييد، ثم ما لبث أن تبدل إلى “انتخاب” ولاية الفقيه، وتحديد صلاحياته.
وترى المؤلفة أنه إذا كان من المنطقي على المستوى الاقتصادي أن يروج اليسار لمركزية دور الدولة في التوجه الاقتصادي، ومواجهة تجميع الثروة، واحتكار أدوات الإنتاج، وتبني سياسة راديكالية ضد الفكر الاقتصادي الرأسمالي، فإنه ليس من المنطقي انتقال خط الحزب الطبقي إلى النقيض، بحيث أصبح من مؤيدي فكر السوق الحر، والاستثمارات الأجنبية. ويبقى الموقف من الإمبريالية وأمريكا متسقًا مع التحولات التي جرت لليسار الذي كان يصفها بـ”أم الشر، والشيطان الأكبر”؛ بل كان صاحب الدور الأبرز في اقتحام السفارة الأمريكية في طهران، إلا أنه نادى لاحقًا وحتى اليوم بحوار الحضارات، وبضرورة التفاوض والحوار مع الولايات المتحدة.
الحركة الخضراء والتيار النجادي… مغردون خارج السرب
تحاول الباحثة في هذا الفصل وفي مجهود بحثي شاق وضع تعريف وتوصيف لهذه الحركة التي نشأت في مخاض احتجاجي، وخارج أي جذور أيديولوجية سابقة، وبيان علاقتها بالدين، وبدور رجال الدين في الحكم، وكشف موقفها من النظام الحاك. وترصد الباحثة كذلك مسألة اختلاف الخطاب بين الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي، وخطاب زعيم الحركة الخضراء مير حسين موسوي، وتحليل الشعارات التي رفعتها الحركة؛ فهي بحسب الكاتبة “مزيج غير متجانس، عبّر عن نفسه بشعارات متناقضة”، ويغلب عليها العنصر الشبابي، ولا توجد لها أدبيات، ولا منظِّرون محدّدون، وإن كانت عناصر خطابها تتفق غالبًا على رفض ولاية الفقيه، وتنادي بالجمهورية، ولكن في الوقت نفسه لا تسقط عنها الإسلامية.
وفي الفصل الخامس (الأخير) الذي تضع له عنوان: “التيار النجادي قريب جدًّا من الأصوليين بعيد جدًّا عنهم”- يتضح أحد التيارات المستقلة عن التيار الأصولي في إيران بصورة أعمق، من خلال سعيِ الباحثة إلى فهم عوامل نشأته، وملامحه، وطريقة مجيئه إلى السلطة، والتركيز على خطابه؛ لكونه مزيجًا انتقائيًّا أو بالأحرى براغماتيًّا من الخطابين الأصولي والإصلاحي؛ فهو يلتقي مع الأصوليين في الإيمان بولاية الفقيه المطلقة القائمة على التعيين لا الانتخاب، لكنه يسعى إلى حكومة خالية من رجال الدين من خلال تقييد تدخلهم، وتأثيراتهم في إدارة الدولة. واستنادًا إلى الرؤية النفعية يمكن تفسير تبدُّلِ وجهة خطاب أحمدي نجاد، وتغيّر صيغة لغته: من التركيز في الفترة الأولى لرئاسته (2005-2009) على أن وظيفته تتلخص في تهيئة الأوضاع لظهور الإمام الغائب، والتماهي مع النظرية السياسية الشيعية، والإعلاء من شأن ولي الفقيه- إلى الحديث في فترته الرئاسية الثانية عن “المدرسة الإيرانية”، وما تؤديه من خدمة للعالم الإسلامي، وتوظيف الحضارة الفارسية، وتاريخ إيران ما قبل الإسلام، مما أغضب رجال الدين.
ولاية الفقيه… مرجعية الكل… وجدل لاينتهي
ترى الكاتبة أن ثمة علاقة مضطربة، وجدلًا لا تستقيم خيوطه ومنحنياته بشأن ولاية الفقيه التي تُعَدّ المفهوم المركزي للسياسة الشيعية في كل مراحل الجمهورية الإسلامية، لكن هناك ملاحظة لا يمكن تجاهلها، وهي أنّ التيار اليساري وفصائله التي لا تؤمن بـ”ولاية الفقيه” رأت في الإمام الخميني تحت تأثير سطوة شخصيته وقوة حضوره وليًّا فقيهًا مطلقًا، من دون أن يشق هذا التأييد فرد أو جماعة، ولكن لم يحظَ خَلَفُهُ بهذا التأييد أو الاعتراف بالمفهوم أو المسمّى والوظيفة.
وبرز من المفكريين الإيرانيين عبد الكريم سروش أحد ممثلي التيار اليساري، الذي أعاد ترتيب صفوفه، مع مراجعة نقدية لكثير من مفاهيمه السياسية، وهو مؤلف كتاب: “الدين العلماني”، الذي صرح فيه بأن ولاية الفقيه “ليست أصلًا من أصول الدين، ولا يُعَدّ إنكاره كفرًا أو فسوقًا، والعالِم الذي يقول بذلك فاقد للعدالة، ولا يجوز الصلاة خلفه”.
وقد رصدت الباحثة ثلاث وجهات نظر بشأن مسألة “ولاية الفقيه”: تعتقد الأولى أن ولاية الفقيه مطلقة، وقائمة على التعيين، وهذا الشكل هو المعتمد للحكومة الإسلامية في عصر غياب الأولياء المعصومين، ومِن هنا يخرج الأمر من دائرة السياسة وتداول السلطة وحكم الشعب إلى الأحكام الشرعية، التي لا يصحّ معها سوى التسليم والقبول، وهذه وجهة النظر الرسمية بالجمهورية الإسلامية، ويمكن من خلالها استنتاج أسباب هشاشة الأداء الحزبي وضعفه، وعلة الأفول السريع الذي تتعرض له التجارب الحزبية التي تجد بيئة قائمة على التبعية، وترى أن الرجوع إلى الشعب هو من باب المجاز عند الضرورة، وفي الحالات الاضطرارية والاستثنائية.
أما وجهة النظر الثانية فتؤمن بولاية محدودة للفقيه، قائمة على الانتخاب، فهي تمزج بين الديمقراطية التي تعني حكم الشعب، وحكمِ ولاية الفقيه المقيدة، من خلال تأسيس قانون لحكم البلاد وإدارة شؤون المجتمع يحظى بتأييد الفقهاء والناس.
وتبقى وجهة النظر الأخيرة التي تمثّلها جماعة المستنيرين الإسلاميين الإيرانيين- راديكالية في طرحها، وتخرج عن الحالة التوفيقية التي تطرحها الرؤية الثانية، وتصطدم بشكل جذري مع وجهة النظر الرسمية؛ فهي لا تعتقد بأيّ مرجعية إسلامية ودينية منتخبة أو معينة، محدودة أو مطلقة، وترى أن ولاية الفقيه تفتقد الدليل الشرعي المعتبر في المسائل السياسية، وتتعارض مع تاريخية الممارسة السياسية للإسلام، التي لم تطرح شكلًا حصريًّا للحكومة الدينية ومعالجة القضايا السياسية… وتنتهي إلى أن المسلم في أي مجتمع يستطيع الحفاظ على إيمانه الديني والقيمي والأخلاقي، وتكون الديمقراطية وسيلة وأسلوبًا للحياة السياسية المعاصرة، بمبانيها وأصولها القائمة على حكم الشعب، والمساواة الإنسانية، وحقوق الإنسان، واحترام القانون.

السابق
روسيا تعتبر أن إيران أهم من الأمن القومي الإسرائيلي
التالي
محمد اسكندر يطلق قانون انتخابي جديد