أنت في إيران كُنْ أنتَ حيث أنت

هناك أسباب عديدة، تسمح أو تستدعي، أن يخرج اللبناني خاصة وكثير من العرب ممن تحرروا من المسبقات في رأيهم ورؤيتهم وذوقهم الجمالي، معجبين بالشعب الإيراني، في حيوياته وطرق حياته وأنماط علائقه وانتظامه العام، وحتى ثنويته أو تركيبه الثنائي المحكم بين الظاهر والباطن، وما يحمل من موروث ثقافي، وبنية لغوية (فارسية) تترك ظلها على لغة الآذريين الأتراك (22% من الإيرانيين) والكردية في حدود، وتخترق عربية عرب خوزستان على غير استعداد أو عناية بحساسية العربية، وتكثر الكوارث في أساليب التعبير الفصحىوالعامية في خوزستان وتصاب اللغة اليومية بهجنة أصعب من العُجمة. هذا بسبب فقرها (الفارسية) النسبي بالمفردات، واضطرارها الذي يمنحها جمالية وصعوبة اضافية والتباسات محيرة للأجنبي الذي يقرر أن يستسهلها ويدعي العلم بها بسرعة.. على أن بعض النابهين في علم اللغة الفارسية والعربية، نبهوني إلى أن الفارسية، وعلى يد جهابذتها في أدب القول (الشعر خاصة) قرروا أن يكسروا عمود لغتهم الأم (الفهلوية، ونحن الآن في عصر الفارسية الدَّرية التي تعتبر لهجة الأفغان في الفارسية أقرب إليها)، كأنهم كانوا يريدون أن ينفوا عنها تهمة الفقر، فوسعوا حقولها الدلالية، من خلال اعتماد الأفعال المركبة المتباينة في مدلولاها ومعانيها والمتكثرة جداً على اشتراك في ألفاظها أو جذرها أو أصلها المصدري الذي يبنى عليه الفعل المركب.

اقرأ أيضاً: الكتابة والحب والوطن والدولة

إضافة إلى ذلك فإن هذه الأنسنة للغة، والسعي الدائم لجعلها مماهية لأهلها أي ذات ظاهر وباطن أو بواطن في منطوقها ومفهوماتها المخالفة والموافقة، المتحققة أو المفترضة، الحقيقية أو المجازية، أي التي تجعل المجاز على مسافة متساوية بين معنيين أو أكثر بفضائها التأويلي الذي تفتحه على مديات مفاجئة أحياناً كثيرة.. ذلك جعل هذه اللغة تبدو وكأنهاشديدة الفقر ولكنها بحسن إدارة علمائها ومثقفيها للمتيسر من مفرداتها الأصلية والمقترضة من العربية خصوصاً –فوق 40% ومن التركية والسلافية واللغات الغربية عموماً تعيش عيشة الأثرياء إلى حد البذخ وتعتمد على جمالية الصورة تعويضاً عن نقص المفردات.
عوداً على بدء مع الاعتذار عن ضعفي أمام جاذبية المدخل اللغوي إلى فهم الاجتماع الإنساني، أقول، بأن مدة إقامتي غير القصيرة، وغير الطويلة، في إيران عاملاً في الحقل الثقافي والسياسي، متواصلاً مع الفضاءات الاجتماعية المتنوعة بين المدن والأرياف، استدعتني أن أتحرك أو ألعب بالمعنى المسرحي، على المسافة الإلزامية الواصلة بين اللغة والناس، أراها فيهم وأسمعها وأراهم فيها وأسمعهم، وخرجت من سياحتي المعرفية في هذا الصِّقْع هناك لسنوات، بإعجاب ومحبة للاجتماع بشرط عدم الغوص في تفاصيل التفاصيل لئلا أضيع، وللغة الفارسية بشرط العناية بتفاصيل التفاصيل لكي أستمتع بما أكشتف، لأن المعنى في تفاصيل اللغة أثناء تبادلها وتداولها، يبدو أغنى وأعقد وأجمل وأصفى ماء وأنقى هواء وأطيب.. ثم إن التفاصيل تغريك، في لحظات متكررة، من دون أن تتعلم أو تعتبر أو تكف عن الوقوع في هواها أو حبائلها، تغريك بشعور خلّبي ساحر، بأنك أصبحت إيرانياً، أصلاً وفصلاً، ولم يبقَ عليك إلا تغيير اسمك من هاني إلى ماني.. أو أن تحرّفه فتصبح الهاء أقرب إلى الحاءالتي تسمى في ألفباء الفارسية (هاء جيمي).. فتصبح حاني القلب جنوناً أو الرأس حزيناً أو من رواد الحانة (خانه أو خونه) بالفارسي، تشرب ماء وتطير في هواء العشق المولوي بلا أجنحة، والخمارة في الفارسية (ميخانه أو ميخونه بالإمالة) أي منزل الماء أو الشراب، ويعرِّقها العراقيون فيقولون ويغني ناظم الغزالي (ميحانه ميحانه)
وللذكرى أذكر أني بقيت لمدة سنة ونصف عاملاً ثقافياً في مكتب في مبنى رئاسة الجمهورية، أيام رئاسة السيد علي خامنئي، وكان للمبنى مدخلان، مدخل يمر على مقر مجلس الوزراء، والأوامر فيه بتفتيش الجميع دائماً وبدقة، بسبب الأوضاع الأمنية (تفجيرات واغتيالات كان يقوم بها –أواسط الثمانينات- مجاهدو خلق الذين تغيرت تسميتهم الرسمية والشعبية بعد انكشافهمإلى منافقي خلق) وكان التدقيق أحياناً يعرقل العمل.. أو يأكل جزءاً من الوقت فيؤدي إلى التأخير عن الدوام المقدس لدى الإيراني على عكس المواعيد التي يقل من يلتزم بها..فيلجأ من يكون بإمكانه إلى المدخل الآخر، مدخل رئاسة الجمهورية، حيث يكتفي الحرس هناك بكتابة لائحة بأسماء العاملين والموظفين الدائمين فلا يخضعون للتفتيش، ويخضع الطارئون له، وكانت مجموعة الحراسة تتغير كل أسبوع لأسباب أمنية بعد أن ظهر أن أكثر عمليات الاغتيال والتفجير في مراكز القيادة يقوم بها الجهاز الأمني المولج بالحماية.. كما في المجزرة التي حدثت للحزب الجمهوري الاسلامي والتي استشهد فيها اثنان وسبعون من القيادات العليا والكوادر من بينهم السيد محمد حسين بهشتي رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس الحزب الحاكم وقتها. وكان مدبر المجزرة والداعي إلى اجتماع غير مقرر، مسؤول أمن المقر مسعود كشميري. وحادثة تفجير مكتب رئيس الجمهورية محمد علي رجائي أثناء اجتماعه مع رئيس وزرائه الشيخ محمد جواد باهنر، حيث كان مدبر العملية مسؤول أمن الرئاسة مسعود كُلاهي، وقد شيع المسعودان مع ضحاياهما بالورد والدمع، ليتبين لاحقاً أنهما قد وصلا سالمين إلى باريس وضيافة مسعود رجوي.. كل منهما في موعده.
كل هذا كان يقتضي إعادة كتابة الأسماء للتفريق بين المقيم والعابر .. وفي كل مرة كنت أملي عليهم اسمي وأمضي مطمئناً إلى أن تمت المحافظة على الأحرف ونقاطها “هاني فحص”.. ومرة سبقتني عيني إلى حركة قلم الحارس على الدفتر فتبين لي أن هناك مفارقة، فرجوت المسؤول الأعلى في أمن الرئاسة، أن يريني دفتر التسجيل بمفعول رجعي لمدة أشهر.. وجلست معه فقرأنا مفارقات كتابة اسمي (هاني، جاني، ساني، ماني، جالي، حالي، خالي، تالي، خاني، حاني، حامي، هامي، سامي، هايل، فهس، فص، حمص، فس، مهس، محص، حص، صحف، فصح، حفص، فهد، فحل الخ) وضحكنا كثيراً بالعربي والفارسي.
وهكذا كنت بحاجة إلى سنوات، ولولا عودتي إلى لبنان، لاحتجت إلى عشرات السنوات، لكي أقتنع، ولا أقتنع، بأن المغايرة ليست عيباً ولا نقصاً لا فيك ولا في غيرك بل هي إذا ما رافقها وعي وعلم وذوق أصبحت مصدر إبداع وحيوية متبادلة، فلا داعي لأن تتعسف فتتماهى معه أو تماهيه معك، لأن ذلك شاق وغير مضمون العواقب، إن لم يكن مستحيلاً، بل هو مستحيل، ولماذا لا يشكو كثيب الرمل والتراب من أنه ولا ذرة فيه تطابق الأخرى وإن أشبهتها، ولماذا يكون هذا التراب مختلفاً كلياً تقريباً عن التراب الآخر لوناً واحتمالات خصب.. وقبولاً لنوع من البذور دون غيرها ؟ أليس هذا مناط جمال أرضنا الخصبة وصحارانا الذهبية الغنية ونحن الفقراء؟ بل هو المساواة أو المماهاة المتعسفة لأنه تجرؤ على خلق الله، وفعل الطبيعة والاجتماع والتاريخ.
ولا يكفي أن تكون رخواً لأسباب ريفية أو مذهبية أو ثورية أو انتهازية أو ميل مبالغ فيه إلى الاندماج السريع أو الانصهار التام أي التلاشي !!! في المحيط الذي تفد اليه من الخارج مهما يكن مغرياً ومهما تكن مثقلاً بالغربة عن الوطن ومحبطاً أو حالماً أممياً وكأنك محموم بوطن خرافي جميل عابر للحدود بسبب غياب دولتك وقلق وطنك وكيانك بفعل طوائفك وأحزابها، لأن الذين أنت فيهم لعام أو عشرة أعوام أو أكثر، لا يروق لهم، ولأسباب منطقية جداً، أن تقحم حالك في حالهم، لأن رغبتك المحال في نقل مورثاتهم إلى جيناتك، نوع من السرقة، لا ترضيهم ولا تفيدك، بل تنفرهم منك، وتفقدك إنيتك التي لا سبيل إلى الحفاظ عليهاوتنميتها والرضى والابتهاج بها والدأب على تمرينها على السعي لتحقيق شرطها في الآخر أو المختلف، إلا بالقبول العميق بها، وتعريضها الدائم لفضاءات أخرى، لهواء وماء وشمس وقمر آخر، فتكتسب ألواناً ونكهات إضافية، وتبقى على طعمها وطعامها.. المختلف كما يختلف طعم العدس المزروع في تربة بيضاء عن طعم العدس المزروع في تربة حمراء، في قرية واحدة.
وتذكر، أنت أيها الكائن المفتون بإضافة الأبعاد المكتسبة إلى هويتك المركبة والمحسود على ذلك، أنت يا أنا.. أنك، همست في آذان أصدقائك الإيرانيين، أكثر من مرة، مبدياً فرحك بحالة تحصلت فيك أو تحصلت عليها، كما تتحصل النحلة على الرحيق، أو زهر اللوز على اللقاح أو قرية النمل على سبلة حنطة أو بلبل النخل على لحن جديد أو الوردة على حفنة من ندى ، أو العروس على جنين، وتشرع في الوحام الصعب والعذب.. وتتسع حدقتا عين صديقك عندما تخبره أنك أصبحت إيرانياً، وهو يحبك كما أنت، فلو أصبحت إيرانياً حقاً ربما شعر بالخسارة والخيبة، لأنك تتحول إلى رقم بلا إضافة، والمطلوب أن تبقى عربياً لبنانياً عاملياً لتكون معنى إضافياً ممتعاً، ولأن لديه (وقتها) سبعين مليون إيراني، وليس لديه إلا عربي أو لبنانيواحد موصول به، ويذكره بأيامه في النجف قبل طرده منها على يد الأجهزة البعثية الصدّامية، بعدما طرده سافاك الشاه وحزبه.. حزب البعث ايضاً (راستاخيز).. وبقي متردداً بين هامبورغ وبيروت معنياً بفلسطين ومقاومتها منحازاً أكثر إلى الحركة الإصلاحية مبكراً بعد انتصار الثورة وحتى الآن ودخول سجن إيوين مع كريمته، فما حاجته إلى إيراني ملفق، لن يكون إلا مشوهاً ومشوِّها وعبئاً، لا مصدراً للشعور بالمغايرة التي تغري بالمقايسة والمقابسة. ويعمد صاحبك في ذات الجلسة أو السهرة إلى محادثة جلسائه بلغة إيرانية معقدة تستعصي على فهمك، وفي موضوع ذي خصوصية إيرانية مكثفة.. يبتسم جلساؤه الإيرانيون مندهشين من تحويلته في الحديث، ولكنه يجبرهم على كلام طويل، فتلجأ إلى خيبتك وصمتك عن عجز لا على الفهم فقط، بل على سماع الكلمات وتمييز الأحرف.. وبعد ساعة أو أكثر.. يلتفت صديقك اليك بحنان المنتصر على حبيبه أو حبيبته و يطلب منك أن تتحف السهرة بقصيدة للسياب أو أدونيس أو نزار أو الجواهري أو قصيدة عامية لمظفر النواب من ديوان (للريل وحمد) أو قصيدة عامية أو فصحى من سعيد عقل أو عاصي أو ميشال طراد أو طلال حيدر أو جوزف حرب.. بصرف النظر عن الشجار السياسي.. ومن دون مبالغة.. لأن أصدقاءك المواظبين على عباداتهم يبتسمون بخبث لطيف ويسألونك عن مطربات لبنانيات لم تعلق أسماؤهن في ذاكرتك التي تلمهن صدفة من الإذاعة بين إعلان تجاري وآخر، لأنها موصولة بما قبل هذه الحداثة المقطوعة.. من سيد درويش إلى القصبجي إلى بليغ حمدي.


ومرة عدت من سهرة كررت فيها خطئي وكرر فيها صاحبي موعظته العملية فاتعظت.. ولكن الحب أحياناً يختلط برغبات جامحة تجعله أقرب إلى الغباء، بما هو الغباء تكرار للخطأ عينه مرات ومرات أو كما يقول آينشتاين (فعل الشيء نفسه مرتين بالأسلوب نفسه والخطوات نفسها وانتظار نتائج مختلفة).. وكتبت في دفتري: عزيزي هاني، أرجو أن ترضى بعروبتك ولبنانيتك وجنوبيتك وريفيتك وسمرة وجهك ولثغتك الخفيفة وبحة صوتك التي تشبه الدمعة أو تستنزلها عندما تحب أو تفارق أو تحزن أو تخسر في سوق المعنى.. وبعدما تكره وتندم على الكره، ولا تقبلها على مضض، بل قناعة، لأن الإيراني والمصري والفلسطيني والأميركي والبنغالي والصيني، كلهم يريدونك كما أنت، لأن الفائدة المعقولة أو المشروعة منك لا تتحقق لهم إلا إذا كنت كما أنت وكانوا هم كما هم، ولا تعر سمعك أبداً، لأرباب السياسةومحترفيها، عندما يدعونك إلى قوالب هم صنعوها لدنياهم ولهوهم بالجمهور لا لآخرتك أو دنياك، ولمصالحهم الخاصة، لا لمصلحة أوطانهم ومواطنيهم ووطنك ومواطنيك.
عزيزي.. كن أنت، وعندما تكون أنت تكون الآخر على أن يبقى الكون كونين، لا أن يتوهم الواحد أنه يمكن أن يكون اثنين، كن أنت.. كن واحداً لتستطيع أن تتجلى في المتعدد أو الكثير.. كن كثيراً عندما تكون أحداً، وكن أحداً فرداً على فرادة لتكون كثيراً.. وهنا، في هذه الكينونة المترادفة أو المتعاقبةتكمن أسرار السيرورة، أي الهوية، التي تأتي فيما تأتي من الجدل الجميل بين الذات والآخر.

اقرأ أيضاً: الحياة الزوجية وأحلام الكتاب

أنا أعترف بأني سلكت في إيران إلى التعارف والتثاقف المرغوب والمحبوب والمشروع والممكن، طريقاً مسدوداً، لا يصل، ولكني تلذذت بإحباطاتي وخيباتي المتكررة وما زلت حتى الآن، ليس في إيران وحدها بل في مصر والعراق حتى كردستان ومساكن المندائيين والأيزديين والكلدانيين.. وفي مدغشقر التي زرتها وأحنّ إليها دائماً وفي سراييفو الآسرة بجمالها الذي لم يتشوه بالحرب لأن أهلها مدمنون عليه.. ما زادني حباً للمجتمع والفرد الإيراني المؤذي إن لم تفهمه والمتمم لمعناك إن استوعبته ومكنته من أن يستوعبك.. أما الكثرة الكاثرة من اللبنانيين المهاجرين إلى قم المقيمين طويلاً بين الدرس والسوق والحضرة والمحاضرة السياسية في اجتماعات الكوادر، فإن لذاذتهم بالعلاقة مع الإيراني أقل، فقد تحول لدى كثيرين منهم، شعورهم بالمغايرة، إلى شعور بالغربة واللجوء، لأنهم أصروا أن يكونوا جالية محايدة باردة مذعنة وموالية، من دون أسئلة. ونادراً ما يستحضرون شأناً ثقافياً إيرانياً لدى عودتهم إلى الوطن، وما أظن أن أكثر من أفراد معدودين قرأوا حافظ أو سعدي ولا واحد قرأ الروائي المعاصر (دولت آبادي).. بل يبدو بعضهم وكأنه عضو في جالية إيرانية في الشكل فقط.. لا في الثنائية المثيرة ولا في أسلوب العيش المنظم والمتلاعب على اللغة المحتمي بها من تكاليف لا يود الالتزام بها.. كأن يقال إن فلاناً الذي دعاك إلى جلسة في منزله لم يذكر الغداء، وتركك تعود إلى منزلك البعيد ظهراً لتناول غدائك، وقلت عنه إنه بخيل أو (خسيس) كما يقول الإيرانيون إمعاناً في القسوة التي تجبرهم على تخفيفها بالحيلة اللغوية، فيقولون للبخيل (قليل السخاء) فهو قد سخا عليك عندما قدم لك كأساً من الشاي وشربة ماء وخيارة كبيرة يعتبرها الإيراني فاكهة.

(من كتاب في وصف الحب والحرب)

السابق
بين الراعي وفضل الله جمهور تربى على الحقد…
التالي
إطلاق سراح قاتل الطالبات الإسرائيليات السبعة