حزب الله والشيعة في لبنان: ثنائية القوة والهلع

‘جمهور المقاومة’ فخور بفائض القوة الذي يوفره حزب الله في لبنان تحت مسوغ التصدي للخطر الإسرائيلي. وفي نفس الوقت فإن هذا الجمهور يشعر بقلق يلامس الهلع جراء أي تحولات في الشأن السوري وجراء الانقلاب الذي تقوم به واشنطن ضد إيران.

نجح حزب الله خلال العقود التي تلت ولادته في أوائل الثمانينات في ربط مصير الشيعة في لبنان بمصير النظام السياسي في إيران. تولّدت لدى الوعي الجمعي لشيعة البلد علاقة مصيرية تُدرج يوميات الطائفة بإيقاعات المزاج اليومي للحاكم في طهران.

وإذا ما كان أمر هذه العلاقة الجدلية ينسحب على شيعة المنطقة، إلا أن الخصوصية اللبنانية لجهة تواجد قوة نارية شيعية تتحرك وفق الأجندة الإيرانية من جانب، ولجهة الفسيفساء الطائفية التي يتّسم بها البلد من جانب آخر، تجعل مصير الشيعة ملتصقا بمآلات حزب الله في حال طرأ تحوّل إيراني أو دولي يتطلّب لجماً للحزب، أو تقليصا لدوره الإقليمي لحساب طهران.

واللافت أن الحركة الخضراء التي انفجرت في إيران في أعقاب الانتخابات الرئاسية عام 2009، شكّلت برهاناً على عدم تعويل المواطن الإيراني الشيعي على نظام الحكم في طهران، وعلى سعيه للخروج من براثن النموذج القائم في الدولة التي أرساها روح الله الخميني على أنقاض دولة الشاه. لكن هذه الحركة (الإيرانية المنتجة) أقلقت شيعة المنطقة، واللبنانيين خاصة على نحو يعكس حساسية الطائفة ليس حيال تغيير في نظام الحكم فقط، بل حيال أي جدل إيراني داخلي بين تيارات الحكم في طهران أيضا.

وفيما أن الإيرانيين منقسمون بين تيار محافظ يتزعمه الولي الفقيه وتيار معتدل أو إصلاحي، تتسع مروحة الأسماء القيادية داخله، داخل أو خارج السجون أو في الإقامة الجبرية، إلا أن “جمهور المقاومة” في لبنان يدين بالولاء لتيار المرشد فقط، ويتوجس من رموز الإصلاح وتياراته في إيران.

والمفارقة أن الضغوط التي مورست سابقا وتمارس اليوم ضد النظام السياسي الإيراني لا تقلق الإيرانيين أنفسهم، ذلك أنهم أبناء البلد ولا خطر على وجودهم وديمومة بقائهم وبقاء بلدهم مهما راجت التناقضات، وربما المواجهات، بين أولي الحكم في إيران والعالم.

والمفارقة أيضا أن نظام الجمهورية الإسلامية في إيران لا يشعر بقلق وجودي جراء المزاج الأميركي الجديد الذي يبثّه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فهو يدرك أن المطلوب من هذه الضغوط المحتملة تغيير موقع نقطة التوازن بين إيران والعالم، والتي نجحت طهران في جعلها متقدمة داخل دائرة استراتيجية واسعة تتجاوز مجالها الحيوي المقبول. وتلك لعبة كرّ وفر يجيد الإيرانيون ممارستها والخروج منها بأقل الخسائر الممكنة.

لا يواري حزب الله موالاته لنظام الولي الفقيه، ولا يخفي الحزب أن دعمه المالي والعسكري واللوجيستي مصدره طهران، على حد مجاهرة السيد حسن نصرالله، الأمين العام للحزب.

وعلى الرغم من أن الحزب يعتبر نفسه جزءا من المنظومة العسكرية الإيرانية، إلا أنه يعرف أيضاً أنه بالنهاية ليس إيرانيا ولا تعترف دول العالم به كجزء من تركيبة الدولة الإيرانية. فإذا ما قرر العالم البحث عن قواعد توازن جديدة مع إيران، فإن ذلك لا يشمل امتدادات إيران الميليشياوية في المنطقة التي سيتم التعامل معها بشروط مختلفة عن قواعد تعامل العالم مع طهران.

وقد استشعر حزب الله الفرق في تعامل الولايات المتحدة مع إيران، وتعاملها مع حاله في لبنان منذ عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. ذهب الأخير بعيدا للتوصل إلى الاتفاق النووي الشهير بين إيران ومجموعة الخمسة زائد واحد، وسعى لعدم استفزاز طهران في ميادين النفوذ الإقليمية في اليمن والعراق وسوريا، حتى أن لبّ انكفاء إدارته عن أي سلوك يقوّض النظام في دمشق سببه طمأنة طهران ومراعاة حساباتها في سوريا.

لكن الحزب لاحظ أيضا أن إدارة أوباما نفسها شنّت حصاراً ضده في المحافل الدولية من خلال ملاحقة شبكاته في العالم وتأكيد إدراجه على لائحة الإرهاب، وصولاً إلى فرض مراقبة على حركته وتحويلاته المصرفية والمالية على نحو أقلق النظام المصرفي اللبناني برمته. ثم إن الحزب لاحظ أيضا أن المعاملة “السيئة” التي تقاربه بها واشنطن بصفته نفوذاً تابعا لإيران في لبنان، لا تنطبق على الجماعات الشيعية المسلحة في العراق، والتي تعتبر أيضا تابعة للنفوذ الإيراني في هذا البلد.

وإذا ما اعتبرت واشنطن، آنذاك، أن لتوابع إيران في العراق وظيفة في الحرب ضد إرهاب تنظيم داعش تعفيها من “المساءلة” الأميركية، فإن واشنطن تُخرج حزب الله من فئة المقاتلين ضد تنظيم البغدادي، على الرغم من أن زعيم الحزب ما برح يردد أن أهداف الحزب في سوريا هي مقاتلة هذا الإرهاب وأخواته.

على أن ما يرشح عن إدارة الرئيس ترامب يوحي بأن واشنطن لن تفرّق في نزالها مع إيران بين ميليشياتها في لبنان أو العراق أو اليمن، وأن أمر وقف النفوذ الإيراني في المنطقة برمتها بات هدفاً أميركياً بعد أن كان لسنوات مطلباً عربياً، خليجياً خاصة.

وفيما يتحضّر العراقيون لعهد أميركي جديد في العراق، وفق رؤى ترامب، فإن خطط واشنطن العسكرية في شمال سوريا معطوفة على ورشة الترويج لإقامة المناطق الآمنة، توحي بأن وجود الميليشيات التابعة لإيران، بما في ذلك حزب الله، بات مهددا، وأن التوافق الأميركي الروسي المحتمل في الميدان السوري على الأقل، لن يسمح باستمرار حركة الحزب وأخواته في هذا البلد.

يستدعي نصرالله الوظيفة الأصلية لحزب الله والتي ذاع صيته في شأنها، وهي مقارعة إسرائيل. يعيد الرجل اكتشاف الخطر الإسرائيلي بعد احترام الحزب، شبه الكامل، للهدنة على الحدود الجنوبية منذ حرب عام 2006، وبعد سنوات بات فيها العدو الحقيقي متواجدا في القصير والغوطة وحمص وحلب… إلخ. يعيد زعيم الحزب إخراج “العدو” من الخزائن العتيقة ساعيا لشغر وظيفته القديمة في تأمين إطلالة إيرانية، وليس لبنانية، على شمال إسرائيل.

إقرأ ايضًا: الغارات الاسرائيلية برسم التفاهم الروسي السوري

على أن اللافت في تأمل النقاشات التي يخوضها شيعة لبنان هي أنها محشوة بمفارقة سوريالية عجيبة. فـ”جمهور المقاومة” فخور بفائض القوة الذي يوفّره حزب الله في لبنان تحت مسوغ التصدي للخطر الإسرائيلي (حجة الرئيس اللبناني ميشال عون أيضا)، حتى لو انتهت هذه القوة إلى أن تكون جزءا من القوة النارية لنظام دمشق. وفي نفس الوقت فإن هذا الجمهور يشعر بقلق يلامس الهلع جراء أي تحوّلات في الشأن السوري (رغم الاستثمار الإيراني المكلف في المال والرجال)، وجراء “الانقلاب” الذي تقوم به واشنطن ضد إيران، والذي يبدو أنه الأمر الوحيد الذي يحظى بإجماع المؤسسات العسكرية والأمنية والسياسية الأميركية.

يبدو تصعيد نصرالله ضد إسرائيل لفظيا لا يرقى إلى أن يكون رادعاً بالمعنى الاستراتيجي العسكري. وهو ما يجعل من وظيفة هذا الخطاب داخلية تستهدف شدّ عصب جمهور الحزب والبيئة الشيعية حول العقيدة الأساسية ضد الخطر الإسرائيلي بصفته خطراً مباشراً على الجغرافيا الشيعية في لبنان.

لكن التصعيد هدفه أيضا هو ربط مصير الحزب بمسألة الدفاع عن لبنان بلدا ودولة تفادياً لأن يتحول كبش فداء لأي مواجهة بين الولايات المتحدة وإيران. بمعنى آخر يسعى الحزب لاستدراج العالم إلى مقاربته في سياق حسابات الأمن الإسرائيلي، وليس في سياق المنازلة الجارية تحت عنوان محاربة النفوذ الإيراني في الخارج.

لكن أياً كانت طبيعة التحولات التي ستطرأ على المنطقة، فإن حزب الله يتصرّف بصفته خاسراً، على الرغم من خطب النصر التي يروّجها في الملف السوري.

يكفي تأمل مناورة الحزب لفرض قانون انتخابي يناسبه، بغض النظر عما إذا كان يناسب التيارات السياسية الأخرى، ويكفي تأمل الحرج جراء مغامرته الدموية في سوريا والتي تصبّ نتائجها في حسابات روسيا، ويكفي تأمل العزلة التي يعاني منها الحزب داخل الطوائف غير الشيعية في لبنان كما داخل بقية بلدان المنطقة، لتخيّل ركاكة البنية الاجتماعية ووهن الخلفية الشعبية اللبنانية والإقليمية التي لن تؤمّن للحزب أي سند أو دعم يمنح حربه الموعودة ضد إسرائيل شرعية أخلاقية وسياسية على السواء.

السابق
هل يُحسم الوضع في مخيم عين الحلوة عسكرياً؟
التالي
موسم الصفقات بين واشنطن وموسكو من سورية إلى أوكرانيا