قانون إنتخاب يعيد الجمهوريّة إلى المتصرفيّة

مشكلة لبنان ليست في موقعه بالتّأكيد، ولا هي في مناخه أو تربته، وما كانت في سهوله ولا حتّى في جباله، مشكلة لبنان تكمن في الوافدين الذين لم يرضهم أن تتحوّل المتصرفيّة إلى جمهوريّة..

نراها تعود وإن ببطءٍ إلى ما كانت عليه، تعود إلى ما قبل العام ألفٍ وتسعمائة وعشرون بعد الميلاد، إلى عهد المتصرفيّة بالتّحديد أو ماعُرف حينها بـ”لبنان الصّغير”. ذاك التّدبير الذي أقرّته حينها السّلطات العثمانية، وتقترب من إقراره أمبراطوريّات القرن الواحد والعشرين. الكل محكوم بالقبول أو في الحد الأدنى هم قاب قوسيْن أو أدنى من القبول بالخارطة المصغّرة للبنان الجديد، تلك التي ستمتدّ جنوباً من جزين شرقاً إلى الحدود الشّمالية لصيدا عند نهر الأولي غرباً، ومنها إلى دير القمر والشّوف، إلى المتن ومنه صعوداً إلى زحلة، إلى  كسروان والبترون، إلى الكورة وبشري وزغرتا بموازاة الهرمل وعكار نزولاً إلى القلمون شمالاً، متصرفيّة ستُستثنى منها بعلبك ووادي البقاع، قرىً من الجنوب والشّمال، سيغيب عنها معبد الشّمس وإله الخصوبة بعل، ستخسر شفاعة إله الشّفاء ومعبده أشمون، ستفصل عنها مدن السّاحل الفينيقي، لكنّ بيروت على ما يبدو ستنافس دير القمر هذه المرّة وتبقى عاصمة المتصرفيّة كما في الجمهوريّة.

إقرأ أيضا: فلوكلور التنديد بالفراغ ورفض التمديد من أدوات تعطيل إنتخاب رئيس

مئة سنة هو العمر الإفتراضي لوطنٍ مجموعٍ من عدّة أوطان. وطن الأسطورة والحكايات كوّنته كما غيره الهجرات، البريّة منها والبحريّة على حدٍ سواء. وهي نفسها ستغيّر وجهه طالما بقيت وطُورت وتطوَّرت وسخّرت لها تكنولوجيا تختصر الزّمان والمكان والمسافات. ومن يقرأ التّاريخ في المستقبل سيدرك مدى تأثير الهجرات على تشكّل الأوطان.

فكرة لبنان الكبير لم تأصل، إنّما الذي تأصل بدلاً عنها هي فكرة المتصرفيّة وفكرة الوصاية والرضى بسلطة الإنتداب. وما أورّخ و صُدّر للنّاس لم يكن أكثر من نص شبيه بسيناريوهات المسرحيات كتبته حينها سلطات الإحتلال لإنجاح فكرة الإستقلال السّائدة حينها في كافة الأقطار العربيّة التي أُخضِعت لتقسيمات المنتصرين في الحرب من الكبار. أولئك الذين تقاسموا الغنائم وقدّموا المكرمات فكان نصيب أهل جبل لبنان توسعة أضافت إلى جغرافيّته سهول وسهوب ومدن شاطئية تراخت على أطرافها مرافئ بحريّة كان منها طرابلس وبيروت وصيدا وصور .

من يأتي براً يصل متأخّراً، ومن يأتي على الطّريقة الكولمبوسيّة يأتي ثانياً، أمّا المنتقّل محمولاً على أجنحة طائر الحديد فيأتي أولاً وأسرع. لكنّ المسألة هنا ليست في من يسبق من في الإستيطان، بل الأمر مرتبطاً إرتباطاً وثيقاً بحجم الحوافز المقدّمة والفرص الممكنة لتحقيق هذا التبدّل الديمغرافيا وإتمام عمليّة الإستيطان الجديد. فالإنسان كما الحيوان ليس ملتصقاً بالأرض على نحو ما تلتصق بها أكثر النّبات، حتّى وإن غرس مضطراً فيها أموته، فشرط الرّحيل أو البقاء كما هو مثبت مرتبطٌ حدوثه بالمتحرّك من الأحياء. أمّا من ارتضى لنفسه عكس ما كان له إعتمد في ترحاله على غيره كما هي الرّياح والحشرات بالنّسبة للنّباتات.

غريب أمر اللّبنانيين، المقيمين منهم والمتلبنينين، تراهم يفقدون وطناً طبيعيّاً بات بالتّراكم وبالتّأريخ لهم. يرضون ببعضٍ منه ويتركون الكل. في وقتٍ ترى أعداداً هائلةً من البشر تبحث غرائزيّاً عن وطنٍ لها ولو إصطناعيّاً لتتمكّن من العيش فيه بإنتظار أن  تبني مع الزّمان مكاناً تورثه من بعدها للأجيال. وهو أمر ليس بصعبٍ طالما سبقهم إليه أهل القطبيْن والصّحراء، فما بالك ولبنان قطعة من جنةٍ سكنها أب البشر آدم مع زوجه وهبطت معه من السّماء؟!

مشكلة لبنان ليست في موقعه بالتّأكيد، ولا هي في مناخه أو تربته، وما كانت في سهوله ولا حتّى في جباله، مشكلة لبنان تكمن في الوافدين الذين لم يرضهم أن تتحوّل المتصرفيّة إلى جمهوريّة، فبغضوا الإستقلال وارتضوا أن يكونوا من الأتباع.

السابق
ترامب قلق من «النفوذ الايراني» في العراق!
التالي
اهالي مخيم عين الحلوة اغلقوا الطريق الرئيس احتجاجا على انقطاع الكهرباء