العلويون في وضعهم الجديد بعد الثورة وسقوط النظام الاسدي

في دراسة للباحث جمال منصور حول العلويين في سوريا، كتب على موقع “الجمهورية” :”لم تمر حقبة زمنية لم يكن المسلمون فيها على صلة بالمسيحيين واليهود، لكن هذه العلاقة كانت عدائيّة. رغم ان الإسلام ينطوي على تنوع هائل، بل وخلافات هائلة ومتعددة. ويمثّل الشرخ الكبير الذي قسم الإسلام إلى مذهبين كبيرين: السنة والشيعة.

إقرأ أيضا: الشيخ علي قدور والمسلمون العلويون في المجمع الثقافي الجعفري

وقد أدى هذا الشرخ إلى مزيد من الإنشقاقات، التي لعبت دورا متزايد الأهمية منذ العصر العثماني. فقد قام العثمانيون بتنظيم الطوائف الدينية، رغم اتسام سياستهم بالتمييز، حيث تشكّل الطائفة العلوية في سوريا أحد هذه السياسات التمييزية.

فالعلاقة بين الأغلبية السنيّة والأقلية العلوية في سوريا، تقوم على نقاط الاختلاف الرئيسة بين معتقدات العلويين ومعتقدات السنّة. واليوم سيكون وضع الطائفة العلوية  على المحك كنتيجة لآثار الثورة السورية الحالية في وضع الطائفة العلوية التي “الآخَر” في نظرة الأغلبية السنية في سوريا.

أن هذه العلاقة ما بين أكثرية وأقلية طائفية، تطورت تاريخيا من علاقة كانت كامنة وغير نشطة في الغالب، إلى علاقة عدائية بصورةٍ علنية، نشطة، وإقصائية، لتصبح ما أسميناه “الآخر المعادي” بالغالب.

هذه العلاقة بدأت تحل محل العلاقة التقليدية مع “الآخَر” الخارجي أي الغرب وإسرائيل باعتباره خصما في تصورات غالبية من السوريين السنة في أعقاب ثورة2011، والصراع الحاضر الذي نشأ عنها في سوريا. وهي علاقة باتت متوترة ويبدو أنها ستستمر في المستقبل القريب.

تاريخيا، يقوم المجتمع السوري على ديانتين كبيرتين هما السنّة والمسيحيين وأقلياتٍ دينية إسلامية. فـ80 % من السوريين هم من أهل السنّة في حين يشكّل العلويون ما يقرب من 7 % فقط.

وبحسب تقديرات حنا بطاطو إن 68.9٪ من عدد السكّان هم من السنّة بينما 11.4٪ منهم من العلويين؛ وأهمية النسب التي يوردها بطاطو تكمن في أنها تميّز بين السنّة من العرب مقابل السنّة من الأكراد.

ويتركّز أكبر تجمّعٍ للعلويين في الجبال الساحلية والمنطقة الوسطى من سوريا، أما خارج سوريا فيتجمّعون في جنوب غرب تركيا، وشمال لبنان.العلويون

والعلويون، أو النصيريّون كما يطلق عليهم السنّة هم بالأساس فئة دينيةٌ منشقّةٌ عن التيار الشيعي الأوسع في نهاية القرن التاسع الميلادي، وتمثّل عقيدتهم مرحلة متقدّمة من التوفيقية الدينية، ويمكن إرجاع أصل عقيدة العلويين الباطنية إلى حركات الغلاة التي ازدهرت في العراق خلال تلك الفترة.

فالاسم الأصلي للطائفة النصيرية يشير إلى تبعيتهم إلى واحد من أهم الدعاة الأوائل إلى هذه العقيدة، هو محمد بن نصير، ولم يتم تعديل هذه التسمية إلا على أيدي الفرنسيين في عشرينيات القرن الماضي إبان الانتداب، حيث استخدم الفرنسيون لقب “العلويين” للدلالة عليهم، وهي تسمية توحي بانتساب الطائفة الى الامام علي بن أبي طالب.

وقد أدت الفلسفة الباطنية لدى العلويين خوفا من الاضطهاد إلى اعتماد مبدأ التقيّة. وتأتي المعلومات القليلة المتوافرة والمعروفة عن معتقداتهم بصورة رئيسية مما كتبه المبشّرون الأوروبيون. ومن المؤكد ان العلويين يرون أن علياً بن أبي طالب ليس بوصفه إنسانا فحسب، بل كهيئة بشرية تجسّدت عبرها الذات الإلهية، من هنا يسمّون أنفسهم بأنهم “شيعة علي”. رغم رفض معظم أئمة الشيعة التقليدية، مثل محمد باقر المجلسي فكرة “تأليه” الإمام علي. وقد وصل هذا الرفض بباقر مجلسي إلى حدّ وصفهم بأنهم كفّار وخاطئون ومشركون. من هنا يعتبر مذهب العلويين مذهبا مكروها للغاية من قبل جمهور السنّة وعموم الناس من المسلمين.

كان العلويون عبر التاريخ، أقلية مضطهدة ومظلومة في سوريا. خلال حكم العثماني، فلم تحظَ الطائفة العلوية بأي اعتراف بها في نظام الملل الإمبراطوري العثماني. ولم يكن يجرؤ أي رجل دين علوي، على مغادرة قريته يوم الجمعة حتى لا يتعرض للأذى من قبل جمهور السنة.

وكانت تصورات العلويين عن السنّة سلبية للغاية. فأهل السنّة، بالنسبة لهم الظالمين. اذ دأب أهل السنة على نبذ العلويين واحتقارهم، وكمثال على ذلك قام السلطان المملوكي الظاهر بيبرس بتشييد المساجد بالإكراه في قراهم بحسب ابن بطوطة الذي جال في مناطق العلويين إبان رحلته في بلاد الشام، فهذه المحاولات لم تنجح في تقريب العلويين من عقائد السنّة. وبقيت هذه المساجد مهجورة ومهملة، بل استخدموها “لرعاية مواشيهم”، بحسب ابن بطوطة.

وقد اضطر بعض العلويين، بحكم االفقر إلى اتخاذ تدابير شديدة ليتمكنوا من تأمين ما يكفي من الدخل ليبقوا على قيد الحياة.

فقد كان العلويون يلعنون الإسلام ويصلّون لدمار الإمبراطورية العثمانية السنّية. وبقيت هذه الضغائن موجودة ومتوارثة، إلى أن أصبحت ذات دور حاسم في هيكلة العلاقة بين العلويين والسنّة.

ولم تكن وجهات نظر أهل السنّة عن العلويين، أقل سلبية حيث ساد الاعتقاد بأنهم ذوو أصول فارسية وليسوا عربا، وهي وصمةٌ ستلاحق الطائفة العلوية طويلا.

وكانت الخرافات تلاحق العلويين في عقيدتهم نظرا لباطنيتهم، حيث قال ابن تيمية أن العلويين “ليسوا بمسلمين، ويجب إبادتهم جميعاً”. وليس مستغربا هذا الحديث الذي من شأن الآراء الغريبة عنهم ان تتصلب التصورات السنيّة عن العلويين، التي حملت الازدراء والعداء في آن واحد. وهو اتجاه سيستمر، بل ويزداد في العصر الحديث.

ومنذ تأسيس الكيان السوري على يدي الإنتداب الفرنسي في العام 1920، نشأت الدولة السورية كخليط غير منسجم من الانتماءات الدينية والطائفية والعرقية والإقليمية المختلفة والمتصارعة، وبدأ الغموض يعصف بكيانها، ويلقي بالشك على إمكانية استمرارها ككيان سياسي مستقل.

حتى فرنسا، التي أنشأت هذا الكيان، اعتبرت هذه الدولة، منذ نشأتها، وصمة مُهينة بالنسبة إلى السوريين السنّة. ولم ينسَ العرب السنّة، الحادثة المشهورة حينما قام عدد كبير من وجهاء العلويين بالكتابة إلى رئيس الوزراء الفرنسي، ليون بلوم، عام 1936 ليعترضوا بأشد العبارات على إعادة الدمج المحتملة للدويلة العلوية إلى الكيان السوري.

وفي رسالتهم هذه التمس الوجهاء من فرنسا أن تعيد النظر في هذه الخطوة الخطيرة بالنظر إلى عمق الهوّة التي تفصل بين العلويين وبين السنّة، طالبين من رئيس الوزراء الفرنسي تخيّل الفاجعة الكارثية التي ستتبع عملية إعادة الدمج هذه.

وبكل بساطة، لم يكن ثمة هوية وطنية سورية بالمعنى الحديث قبل إنشاء الدولة، بينما كانت تقدّمت على حساب الولاء للدولة القومية الحديثة. ربما بسبب الطابع متعدّد الأعراق والأديان الذي اتّسمت به الدولة السورية كما تشكلت.

خلال مرحلة العروبة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وصعود نجم الأحزاب القومية العلمانية كالبعث، استطاعت أن تجتذب نسبة كبيرة من عضويتها من بين صفوف الأقليات. وقد كان لإيديولوجيا البعث العلمانية جاذبية خاصة حيث مثّلت فرصة انعتاقٍ لهذه المجتمعات المهمّشة والمنبوذة تقليديا كالعلويين.

العلويون في سوريا

وفي العام 1963 قامت مجموعة من الضباط البعثيين بالاستيلاء على السلطة في سوريا، لكن حزب البعث بقيّ يعاني صراعات داخلية في صفوفه. فبمجرد وصول البعث إلى السلطة، سرعان ما نشأت وظهرت على السطح مجموعة من الكتل الإيديولوجية والسلطوية المتصارعة والمصطفة على أسس مناطقية وعلى أسس طائفية.

وقد كانت الاصطدامات فيما بين الكتل تتوالى بعنف وإقصائية متصاعدين، كما تكشّف عبر سلسلة من عمليات التطهير والانقلابات الداخلية داخل الحزب. وقد انتهت هذه السلسلة من الاضطرابات الداخلية، مع انتصار إحدى تلك الكتل، ذات الغالبية العلوية في صفوف قياداتها الأمنية الفاعلة، تحت قيادة اللواء حافظ الأسد، في انقلاب 16 تشرين الثاني 1970، الذي كان نهاية لمرحلة الانقسامات الداخلية.

وقد شكّل وصول الأسد إلى قمة هرم السلطة في سوريا علامة فارقة للسوريين العرب السنّة، كما للعلويين، على حد سواء. فقد مثل بالنسبة للسوريين السنّة، نقطة مؤلمة في تاريخهم حيث شعروا بإقصائهم لأول مرة عنها مع مجيء حافظ الأسد كأول حاكم غير سني لسوريا. فقد ترأست مجموعة ضيّقة تنحدر من طائفة كانوا تاريخيا ينظرون إليها بتعال واحتقار، طائفة ذات معتقدات مبهمة للغاية، بالنسبة إليهم.

أما بالنسبة إلى العلويين، فقد مثّل لحظة ذروة ذات دلالة على مدى انعتاقهم من إرثهم التاريخي السلبي، ومؤشراً على مدى ما حققوه من صعود سياسي واجتماعي.

لقد شعر أغلب العلويين أنهم كسروا أغلال الاضطهاد، لذا تمسّكوا بمفاصل السلطة. وقد أثارت النسبة المرتفعة من الضباط العلويين في الدائرة الضيقة لحافظ الأسد الذين أمسكوا بمفاصل الدولة وأجهزتها شكوك وحفيظة جمهور واسع من السنة، وزادت من مخاوفهم الكامنة.

العلويون

ومن الأمثلة، قصة لا يمكن التأكد من صحتها أو مصدرها، ومفادها أن ثمة اجتماعا سرّيا جرى في العام 1960 بين رجال دين قياديين وبين ضباط علويين من ضمنهم حافظ الأسد، يُقال إنه جرى في القرداحة، مسقط رأس الأسد. لقد اكتسبت هذه الشائعة مصداقية لدى جمهور السوريين السنّة، الذين رأوا فيها دلائل تثبت شكوكهم بوجود مؤامرة علوية منذ الاستيلاء على السلطة.

ونتيجة لمزيج من سياسات نظام حافظ الأسد التي أدّت إلى تهميش وإفقار السوريين والتي طالت نسبة كبيرة من السنّة من بينهم، على وجه التحديد فقد بلغ غضبهم حداً دفعهم إلى التمرد العلني على النظام، بلغ ذروته في حماة في العام 1982، سرعان ما قام الأسد بسحقه بلا رحمة.

ومن تمرد، إعتمد الاسد بشكل شبه كليّ على أجهزة الأمن والوحداتٍ العسكرية بهدف حماية النظام من خطر التمرد.

وبعد وفاة الأسد الأب عام 2000، خلفه بشار حيث تراكم إرث المظالم والأحقاد التاريخية فوق واقع الاستبداد الثقيل وتفاقم الفوارق الاقتصادية ومعدّلات الفقر والبطالة، لتشكل الانفجار الذي أشعل الربيع العربي في آذار2011.

فقد مستوى الصراع الناشئ عن ثورة السوريين التي تفجّرت عام 2011، اضافة الى مستوى العنف والتوتّر الديني والطائفي مستويات لم يسبق لها مثيل في تاريخ البلاد الحديث.

ومن الجدير ذكره ملاحظة الصراع السنّي- الشيعي الذي فرض فرضا ثورة مدنية ذات أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية كما تراكب كطبقة مضافة من التوتّر فوق إرث الصراع الطويل بين السنّة والعلويين في سوريا. وقد تجلّى هذا الصراع السنّي- الشيعي بصورة خاصة عبر التورط الإيراني سواء بالمشاركة المباشرة أو عن طريق الميليشيات الشيعية الخاضعة للنفوذ الإيراني. ودفاع إيران عن نظام الأسد غير مبررالا بلغة طائفية صريحة، باعتبارها دفاعاً عن أقلية شيعية “شقيقة” مظلومة؛ ويتمّ تقديم الصراع على أساس “إنموذج كربلاء” بوضوح وعلنية.

اما على الجانب الآخر، فقد تدفقت الأموال والإيديولوجية الوهابية لخلق ودعم عددٍ كبير من الجماعات الجهادية السنّية التي أعلنت القتال ضد النظام وحلفائه على خلفية طائفية فاقعة. وقد تراكبت اللغة الطائفية المستوحاة من الفكر الوهابي والمعادية للشيعة عموماً، وللعلويين على وجه الخصوص، مع مجموعة من التصريحات والخطاب العام السائد في المنطقة، حتى قبل الثورة السورية. ومن أمثلة هذا الخطاب تنبيهات ملك الأردن عبد الله الثاني في تحذيره عام 2004 من نيّات إيرانية بقيام “هلال شيعي” يضمّ نظام الأسد في سوريا؛ إضافة إلى “اتهامات بمحاولات التشييع وحملة شيعية تهدف إلى تدمير السنّة” في العراق وسوريا، وكان من أبرز الذين أثاروا الحديث عنها الشيخ يوسف القرضاوي.

وشكَّلَت الفتوى الشهيرة للسيد موسى الصدر أوائل سبعينيات القرن الماضي، التي أكّد فيها وحدة العلويين مع المذهب الشيعي، نعمة ونقمة معا. فمن جهة، أكدت هذه الفتوى صحة إسلام الأسد الأب. ومن جهة أخرى وضعت العلويين بصورةٍ مباشرة في نطاق السياسات التي شكّلت أسس الحملة الإيرانية، ذات الصيغة المذهبية، للوصول إلى الهيمنة، بحسب السنّة. وما كان من شأن التحالف السياسي والعسكري العلني مع الجمهورية الإسلامية منذ عام 1979 حتى الآن، لكي يبقى الاسد واقفاً على قدميه منذ العام 2011.

العلويون في لبنان

ومع قيام الثورة السورية، تحوّلَت العداوة والخصومة الكامنة الى اعتبار العلويين، في نظر السنّة طابوراً خامسا لا يقلّ خطرهم بحسب وجهة النظر هذه عن خطر اليهود والنصارى إن لم يكن أكبر.

وتتم الإشارة وبصورة متزايدة إلى علوية أو نصيرية النظام في سوريا في كثير من أدبيات الحركات الجهادية السنّية المناهضة للنظام، باعتبارها واحدة من أكثر جوانبه سوءً. ويتم تداول ألفاظ من قبيل وصفهم بيهود الداخل بقصد الإساءة اللاذعة، وكمؤشّر لفظي على الخطورة الأكبر.

فالتورّط الإيراني المكشوف المباشر، والممارسات الطائفية، كلها علامات ودلائل على عداء طائفي شديد، غير قابل للتغيير. فاليوم، باتت الشعارات نفسها التي كانت تستخدم بصورة حصرية لوصف “الآخَر” الخارجي (إسرائيل والغرب) وإن وبدرجة أقل وبالمستوى نفسه من العداء والكراهية الشديدين، تستعمل في وصف “الآخَر” الداخلي العدو، (العلويين وحلفائهم الإيرانيين الشيعة).

ختاما، تشكل هذه الظاهرة واحدة من النتائج المأساوية لخيار العنف المفرط الذي انتهجه النظام، ولجهوده الحثيثة في حشد التضامن والتعاضد الطائفي للدفاع عن سيطرته الهشّة والمقلقلة على السلطة. لقد قام النظام بغير قصد باستبدال إسرائيل بالعلويين اليوم في تصورات جمهور واسع من السنة، باعتبارهم الخطر القاتل والداهم، والعدو اللدود لهم. ومن شأن هذا التطور أن يؤدي إلى تصلب المواقف لدى طرفي النزاع، وأن يبشّر بمستقبلٍ سيء للغاية فيما يخص مستقبل العلاقات بين السنة والعلويين في سوريا. ومن المرجّح من فاتورة الدم المرتفعة ان يأتي سقوط العلويين شبيها بصعودهم في دمويته، وما سينتجه على جميع الجهات والصعُد في سوريا.

 

السابق
غليان صامت بمواجهة اللعب على حافة الهاوية!
التالي
على تماس مع مواقع حزب الله.. منطقة امنة لأميركا في سوريا