«أورويل في الضاحية»: مدخّنو الأركيلة يقررون مصير البلاد

لدينا هنا وقبل كل شيء، متعة في القراءة. سلاسة بالغة في الإيقاع والمسار. كتابة بلا زوائد. نص روائي محموم، مباشر وحيّ. قسوة في الفضح وسخاء في التعاطف والدراية. ببساطة، “أورويل في الضاحية الجنوبية”(*) عمل واجب القراءة.
تنتهي الرواية عند الساعة الخامسة من فجر 7 أيار 2008. وهو اليوم المشؤوم الذي يعرفه اللبنانيون جيداً، حين اندفعت جحافل الزعران والمسلحين، التي نظّمها “حزب الله” وعبأها في الضاحية الجنوبية، مقتحمة بيروت الغربية وبعض المناطق الجبلية.

إذاً، ينتهي الأدب والتخييل الروائي عند لحظة انفجار الواقع، حين لا يعود ممكناً استيعاب الفوضى ولا ضبط الحقائق، وحين تذهب الوقائع إلى عبث أقصى، وتقع اللغة في العجز. هنا، يسكت فوزي ذبيان عن الكلام المباح وينتهي السرد.

توقيت نهاية الرواية يتناسب مع الاقتباس الذي وضعه الروائي قبل بداية الرواية. عبارة جورج أورويل في روايته “1984”: إذا أردت أن ترى صورة المستقبل، تخيّل صورة حذاء ضخم يسحق رأس رجل.. وإلى الأبد”.

كان هذا الاقتباس هو الإشارة الوحيدة إلى الروائي البريطاني في كل الرواية. مع ذلك، كان كافياً لأن يكون حاضراً في العنوان “أورويل في الضاحية الجنوبية”، طالما أن ذكر اسمه يحيلنا تلقائياً إلى “الأخ الأكبر” وإلى عوالم الطغيان والتسلط وشرور فكرة القائد المخلّص.

بالطبع لا يغيب عن انتباهنا أن المشهد الافتتاحي للرواية، حين تقتحم مجموعة من الأوغاد التابعين للجهاز الحزبي المهيمن على ضاحية بيروت الجنوبية منزل بطل الرواية لتصادر منه زجاجات الكحول، هو أيضاً تحية لرواية “1948” وجورج أورويل.

يتعمد فوزي ذبيان التأخر في تسمية بطل روايته: “لضآلة شأنه، ربما لن آتي على ذكر اسمه البتة” (ص9). ولن نعرف أن اسمه “حمّودي” حتى نهاية الصفحة 37، بعد أن انتهت محنته الأولى، عائداً من المعتقل الحزبي السري، متعهداً لهم بعدم تعاطي الكحول مجدداً.

حمودي، الضئيل الشأن، شاب في مطلع العشرينات من عمره، توفيت شقيقته الشابة (الشاعرة الرومانسية) “آلاء” بمرض السرطان قبل شهر من بداية زمن الرواية. حزنه عليها لا ينتهي أبداً وهي حاضرة في وجدانه باستمرار، ودوماً يستعيد على امتداد الرواية مقاطع من كتاباتها الرومانسية الفصيحة والمترعة بالمجاز والرمزية. نصوص “آلاء” وشذراتها، التي تشكل عالماً حلمياً لحمودي، تبدو وكأنها حيلة روائية بارعة، طالما أنها من جهة تمنح البطل حياة متخيلة شاعرية شديدة السذاجة على نقيض حياته اليومية المدقعة والقاسية والخاوية في الضاحية الجنوبية، وهي من جهة أخرى تشكل ذريعة لفوزي ذبيان لـ”نقد” اللغة الأدبية الشاعرية والهزء منها وتهفيت مرجعيتها الثقافية، مقابل انحيازه في سرده وروايته للغة مسرفة بالعامية ولا تتورع عن البذاءة والسوقية، لغة الرعاع ولغة الشارع ولغة الزعران والأغاني المبتذلة و”الهابطة”..إلخ.

ليست صدفة، أن الشقيقة التي “تكتب” وتبوح وتفكر ميتة، فيما الأنثى الثانية في حياة حمّودي، هي البنت المعتوهة “بتول”، ابنة الجيران (19 عاماً) “لا يهمها من الكون سوى الكعب العالي والهاتف الخليوي وأحمر الشفاه.. إذا كان المجال متوافراً” (ص 24). وبتول سقطت وهي في الثالثة من عمرها من الطابق الأول، ومع تقدمها بالعمر ظهرت عليها علامات الهبل والعرج و”النصف لسان”، فلا تلفظ حرفاً إلا ملدوغاً وغير مفهوم تقريباً. الأنثى الثالثة هي الأم المقعدة والمريضة دوماً وبالكاد تقول شيئاً في كل الرواية. هكذا، يكون حضور المرأة في الرواية متراوحاً بين الموت والخبل والعجز.. وفي كل الأحوال تكون اللغة معهن ممتنعة. فهي مع الأخت كتابة سرية خارج الحياة، ومع الأم صمت مطبق، ومع ابنة الجيران لعثمة بلهاء. هكذا لا يبقى في فضاء الواقع سوى لغة ذكورية فاحشة وعنيفة.

مسار الرواية هي “رحلة” حمودي، موزّع الماء، من لحظة “اعتقاله” وخروجه راكباً “الفان” (باص نقل صغير يعتمده معظم الفقراء في بيروت وضواحيها)، ثم وصوله متأخراً عن عمله ليُطرد من هذه الوظيفة الوضيعة، إلى تحوله عاطلاً عن العمل يتسكع في سوق “صبرا” (قاع الضاحية ورمز الرثاثة الاجتماعية): “كل شيء في صبرا أرخص، بدءاً من حمالات الصدور والكلاسين وصولاً إلى التلفزيونات والستريوهات وحنفيات المياه والقساطل وكراسي الحمام والسجاد والعنب والبطيخ وأفلام السكس والكتب. كل شيء موجود في صبرا، حتى الأقدام الاصطناعية لها ركنها الخاص، والبوستيجات وأقلام الحمرا والجزادين والمعاطف والكوفيات الفلسطينية وصور ياسر عرفات وسماحة السيد وحافظ الأسد ونبيه بري والرئيس بشار وشاكيرا وهيفاء وهبي والسيدة العذراء وملكة بريطانيا ولينين وغيفارا وغاندي وراغب علامة ورونلدينو وبوستر فيلم الرقص مع الذئاب..” (ص 39). وفي صبرا، بمطعم “الانتفاضة” للفول والحمّص، سيلتقي حمودي بـ”شادي” أحد الشبان المهووسين بأفلام البورنو السادية، وعبره سيحاول إعادة التواصل مع شلة “الشحرور” الذي يقبع سجيناً بعد سلسلة من عمليات السرقة المسلحة لضحاياه من اللوطيين. لكن، وعبر شادي سيتواصل حمّودي مع أبو زهرة (الشهير بعضوه الكبير الطويل والمتبجح بمغامراته الجنسية) إذ كانت تربطه سابقاً علاقة تقوم على بيع النحاس والخرضوات، والذي سيدبر له عملاً كموزع “ديلفري” أراكيل (نارجيلة) في أحياء الضاحية عند دكانة الحاج رضا، حيث يعمل فتيان مثله بقيادة جعفر المعروف باسم “بنزاكسول”. دكان يبيع الأراكيل (والمخدرات) ويوصلها إلى البيوت والمحال. هنا سيستقر حمّودي عملاً وانتماء وصحبة ومزاجاً.

هذه الرحلة، هي ذريعة الروائي في الكشف عن عوالم شبان الضاحية ووصف سينوغرافية شوارعها والتقاط النبض الصاخب للأحياء العشوائية ومفارقاتها الاجتماعية والسياسية: اللصوصية، البورنوغرافية، التشبيح، الفقر المقترن بمظاهر العنف، التزمت الشكلي والتفلت السلوكي، انتشار المخدرات الرخيصة، البذاءة والرثاثة والفوضى، انعدام الذوق والفظاظة، اقتصاد التهريب والنهب و”الزعبرة” والتحايل على القوانين. وكل هذا بالتجاور مع صور الشهداء والرموز الدينية والشعارات الحزبية وصور حسن نصرالله الكبيرة التي تظلل البنايات.. يكتبها ذبيان بسرد لاهث وبسلسلة من المشاهدات التلقائية والعفوية، كشريط من تصوير وثائقي وقح ومباشر. وبعين واسعة تلتقط، بحنكة سينمائية وخبث أدبي، تناقض “الخطاب” السياسي والأيديولوجي المهين مع مجريات الحياة اليومية للمؤمنين بهذا الخطاب والمعتصبين به هوية لهم، والمتوسلين به قوة وغلبة بوجه الجماعات الأخرى. هذا التناقض سيكون واضحاً دوماً عند حمّودي، حين يكون وحيداً يتذكر رومانسيات شقيقته ورهافتها، وحين يكون منغمساً مع شلته في لغو السفاهة والعنف اللفظي والأعمال المشبوهة.

أيضاً، سيعتمد ذبيان على حيلة روائية أخرى، لفك شيفرة هذه التناقضات وإبرازها، عبر منح كل شخصية في الرواية “رنّة هاتف” خاصة به. فلحمودي رنة هاتف هي مقطع من أغنية لفيروز: “طيري يا طيارة طيري يا ورء وخيطان..”. أبو زهرة رنته هي عبارة لحسن نصرالله: “أعدكم بالنصر دائماً.. أعدكم بالنصر دائماً”. أما قائد الشلة بنزاكسول فرنّته أيضاً مستلّة من إحدى خطب نصرالله النارية: “سوف نقطع أيدي وأرجل وعنق كل من يحاول المس بسلاح المقاومة..”. هذا وقد تقبّل الشبان رنة حمّودي: “يللا، عكل حال فيروز بتضلّا أهون من هيدا صاحبو لحسين.. شو إسمو.. هاني شاكر”. الجميع بسبب ذلك لا ينادوه حسين الهقّ، بل “هاني الفوفو” أو “فوفو شاكر”.

سيخصص فوزي ذبيان نصف روايته لما سيدور في عالم دكان الحاج رضا. وفي الأثناء ستموت “بتول” المخبولة برصاصة طائشة من إطلاق نار في الهواء ابتهاجاً بخطبة حسن نصرالله التلفزيونية، وسيُقتل إبن عم “فوفو شاكر” أثناء دورة تدريبية لـ”حزب الله”، وستتحول أرض البور المقابلة للدكان الفائحة دوماً برائحة البول إلى أرض ممتلئة بالإطارات المطاطية المستعملة التي يأتي بها الحاج رضا برفقة أشخاص يركبون السيارات المموهة الرباعية الدفع والخالية من لوحة الأرقام، تحضيراً ليوم مهم وخطير.

فصول دكان الأراكيل تسرد التحول السريع لحمّودي واندماجه في الشلة المتصلة بالشبكة الحزبية نفسها التي اعتقلته مطلع الرواية. اندماج مصحوب بتعاطي المخدرات على أنواعها وبتجارة الكحول المغشوش وبتدخين أسطوري للأراكيل وبمشاركة حماسية ومحمومة بمهرجانات “حزب الله”.

هكذا، في الفصل الأخير، ستتغير رنّة هاتف حمّودي من “طيري يا طيارة طيري.. يا ورء وخيطان” إلى “لبّيك يا نصرالله.. لبّيك نصرالله”. ليستيقظ على هذه الرنّة فجر 7 أيار 2008، بعد سهرة ويسكي وحشيش وأراكيل وعقارات هلوسة (غبرة الخشخاش مع ترامال ممعوس على شويّة ليغزوتانيل على بروزاك، يقوم بنقعهم مع معجونة سرية في تنر مخفف بالماء..) وبكاء عاطفي مرير انخرط فيه هو وحسن النووي وبنزاكسول والشحرور والصندل وفوفو..

يستيقظ حمّودي ليلبي نداء نصرالله يوم 7 أيار. نداء “المقاومة في يومها المجيد”. والبقية تعرفونها خارج هذه الرواية.

السابق
هكذا ردّت أصالة على جورج وسوف الذي شتمها
التالي
الإستعلاء الفارسيّ يتعاظم في زمن الحرب السورية