الريف و المدينة: عصبية لا تموت، و جدلٌ لا ينتهي «صور و محيطها نموذجاً»

مقاربتها بشكل ساخر في الغالب، لا تلغي انطلاقها من مشاعر حقيقية كامنة في النفوس.

أبناء القرى يستنكرون بقاء “الإستعلاء المدني” على حاله بعد أن أفرغه العصر الحديث من مضمونه. فيما يعيب هؤلاء عليهم تركهم معاولهم و محاريثهم و مزاحمتهم على العمل في عقر دورهم. يمكن أن تكون “صور” و محيطها نموذجاً معبّراً عن هذه العلاقة.
رغم نطقك إسم البلدة التي تنتمي إليها بنبرةٍ و اضحة و صوتٍ مسموع، تبقى نظرة الإستفهام معلقة في عيني محدّثك الآتي من محافظة أخرى. كنت تفترض أنَّ العدد الكبير للأمهات الجميلات اللواتي انتظرن فيها أبناءً قارعوا العدوّ و عادوا شهداء، كفيل بالتعريف عنها و عنك. إلا أنَّك سرعان ما تتذكَّر أنَّ هؤلاء استشهدوا، بمعظمهم، قبل تطوّر وسائل الإتصال و تحوّل الكون إلى قرية صغيرة. فبقوا “مجهولين في الأرض معروفين في السماء”!
تستبق السؤال الثاني لمحدّثك بالقول أنَّ بلدتك تتبع إداريّاً قضاء صور. المدينة معروفة للجميع، و إحساسك بالإنتماء عاطفيّاً إليها، سيدفعك إلى اختصار الطريق على سائليك في المرّات المقبلة، و التعريف عن نفسك مباشرة كأحد أبنائها.
كثيرون ينظرون إلى المدينة الأقرب، نظرة المرء إلى “أمّ ثانية”، باعتبار البلدة “مسقط الرأس” رحماً مجازياً و أمّاً أولى. و لكن هذه الهويّة المشتركة تخفي وراءها تباينات كثيرة، و تنافساً على الريادة يختصر صراعاً أزليّاً بين المدينة و القرية، ليس ما بين صور و محيطها سوى صورة ملطَّفة عنه.
يعود “أبو حسن” بالذاكرة إلى ستينات القرن الماضي، يومها كان يحشر جسده، بصعوبة بالغة، في سيّارة البلدة الوحيدة، إلى جانب سبعة طلاب آخرين وجهتهم إحدى مدارس مدينة صور، فضلاً عن السائق. و في الشتاء، حين يقصر النهار، و لا يعود بالإمكان الإنتقال يوميّاً من صور و إليها، يقيم الطلاب الثمانية في غرفة صغيرة مستأجرة، لا تقيهم جدرانها برد كانون. كان هذا سبباً كافياً لدفعه إلى بذل كلّ جهد ممكن في الدراسة، ليتناسب ما يقدّمه مع تضحية أسرته التي قتَّرت على نفسها لتأمين مصاريف دراسته. أما الطالب “الصوريّ” فكان في الغالب لا يعرف شيئاً عن شظف العيش هذا.. “إنتَ شو جاي تعمل هون، ليش ما بتروح عالفلاحة مع أهلك؟”. كانت هذه الأسئلة الساخرة تدفعه إلى الهروب في أوقات الإستراحة إلى منطقة “الرمل” التي كانت في حينه تحمل إسمها عن جدارة و استحقاق، فتبدو للناظر صحراء مترامية الاطراف، قبل أن يغزوها العمران و تتحوَّل إلى ما يمكن تسميته اليوم “صور الجديدة”. لاحقاً، إهتدى مع رفاقه إلى حيلة دفاعيّة جديدة، فغيَّروا لهجتهم، و حاولوا تقليد لهجة رفاقهم “الصوريين” ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، لعل ذلك يدرأ عنهم سهام السخرية و الإزدراء.
هذا زمن مضى و انقضى، يؤكّد الرجل السبعينيّ، فالأمور تغيَّرت كثيراً اليوم. الفوارق – على أنواعها – بين المدينة و القرية تزول تدريجيّاً، و كذلك الهواجس. و بات التواصل أقوى و العلاقات الإجتماعيّة أكثر متانةً و تشابكاً. و ربما ساهم تصاعد حدّة الخطاب المذهبيّ و الطائفيّ في هذه المنطقة من العالم و طغيانه على كلّ ما عداه، في خفوت صوت أصحاب هذا النوع من العصبيّات لصالح عصبيّات أخرى أشدّ ضرراً و خطراً!
يوافق “أحمد”، الشاب الثلاثينيّ، على كلام والده. غير أنَّه يرى أنَّ هذه “الموجة” لم تنحسر تماماً. يقول: قبل سنوات قليلة، عيَّرني صديقي الصوريّ، في لحظة غضب، بأنني و غيري من أهل القرى “فلاليح” و سنبقى طوال عمرنا كذلك! و قد جمعها على هذه الصورة الغريبة، خلافاً لقواعد اللغة العربيّة، إمعاناً منه في الإهانة.. أنا لم أحمل يوماً فكراً متعصباً من أيّ نوع، و لكن كلامه استفزني، و أدركت أنَّه لن يفهمني إن لم استعمل منطقه ذاته،فأجبته بأنَّ السواد الأعظم من أطباء المدينة و مهندسيها و كبار تجّارها و ملاكيها و فنانيها و شعرائها فلاحون أيضاً، بالأصل و النسب إن لم يكن بالفعل. و أنَّه ليس أمامه، إذا كان منزعجاً من هذا الواقع، سوى “صيد السمك”، فقد تعلمه ممارسة هذه المهنة الصبر و تهبه القدرة على الإحتمال.
يأخذ “جعفر” الحديث إلى مكان آخر. نؤكّد له أنَّ سؤالنا محصور بالعلاقة بين إبن المدينة و بين إبن الريف المقيم فيه. و لكنَّه يصرّ على كون الوافدين إلى المدينة هم الضحايا الحقيقيّون لهذه الفوقيّة و الأحق بالكتابة عن معاناتهم. خمسون عاماً مرَّت على قدوم والده إلى صور و مكوثه فيها، لم تكن سبباً كافياً بنظر الكثيرين لإدخاله نسيجها الإجتماعيّ و اعتباره “مواطناً صالحاً”. “جَلَبْ، يقولون عنّا، و لو مرَّت 9000 سنة سنبقى كذلك بالنسبة إليهم” يقول ضاحكاً. المصطلح الذي يحمل كمَّاً كبيراً من الإهانة يعني أنَّ أصحابه استُجلِبوا إلى المدينة خلافاً لإرادة أهلها غير المرحِّبين بهم!
مختار حيّ الجامع إبراهيم بيطار يرى أنَّ هذه الظاهرة محصورة بفئة صغيرة من الجهلة الذين يبحثون عن شمَّاعة يعلقون عليها فشلهم. هؤلاء يتذرعون دائماً بالظروف الصعبة و ضيق السبل و انعدام الخيارات، فيأتي نجاح الآخر، الوافد من القرية، بمثابرته و جديّته و اجتهاده ليفضح عجزهم، ما يولد لديهم مزيجاً من الحقد و الحسد. يقدِّر بيطار نسبة الوافدين بـ 25% من سكان المدينة مقابل 75% من السكان الأصليين، و يؤكِّد أنَّ لهم اليد الطولى في أيّ تقدّم عمرانيّ أو اقتصاديّ أو ثقافيّ تصيبه المدينة، و الأَولى أن يقابَلوا بالشكر و الإمتنان لا بالنفور.
بحسب بيطار فإنَّ أبرز العائلات الوافدة إلى المدينة من القرى المجاورة بأعداد معتبرة هي آل الحسيني من جناتا و خاطر و حرقوص من طورا و يزبك من الناقورة و صفي الدين من شمع و الزين من قبريخا. و قد انضمَّت هذه العائلات إلى عائلات سبقتها و شكلت تاريخيّاً النسيج الإجتماعيّ المتنوّع طائفيّاً لهذه المدينة و أبرزها حاجو و بحر و بيطار و عرب و طفلا و الرفاعي و بوَّاب و خالد و بدوي و نجدي و برادعي و خوري.

إقرأ أيضاً: مسرح إسطنبولي في الفضاء المفتوح على شاطئ مدينة صور
الباحث في علم الإجتماع و الأنتروبولوجيا د.علي بزّي لا يستغرب بقاء ثنائيّة القرية-المدينة على قيد الحياة حتى اليوم و احتفاظ كل من طرفيها بنظرته السلبيّة تجاه الآخر. فزوال هذه النظرة نهائيّاً مرتبط بتبدّل ذهنية الناس و تطوّر موروثهم و مخزونهم الثقافيّ. و هو لا يحصل بالسرعة ذاتها التي يبدّلون بها زيّهم و بعض سلوكيّاتهم الإجتماعيّة و أمور أخرى ذات طابع ماديّ.
بحسب بزّي فإنَّ أبناء القرى الحدوديّة الذين كانوا يقصدون مدن فلسطين للعمل قبل النكبة. اضطروا بعد إقفال الحدود للإنتقال إلى بيروت التي استقبلتهم كمواطنين درجة ثانية يعملون حمَّالين في المرفأ و عمَّال نظافة لدى البلديّة و في وظائف أخرى مشابهة. و ما حصل في بيروت تكرر في صور في فترة لاحقة مع دخول المنطقة الحدوديّة في الصراع العربيّ-الإسرائيليّ بشكل أكبر و توالي الإجتياحات في العامين 1978 و 1982، فانتقل بعض سكان هذه القرى إلى صور و التحقوا بنسيجها الإجتماعيّ ما زاد عدد سكانها بشكل ملحوظ. هذا التضخم الديمغرافيّ الذي سبَّبه الوافدون ضاعف من حجم النفور الموجود أصلاً لدى بعض أهالي المدينة، و في هذه النقطة تحديداً لا يصحّ التعميم، فالتاجر الذي يسرّه بطبيعة الحال ازدياد حجم مبيعاته لن يكون منزعجاً من هؤلاء “الغرباء” أو معنياً بأي نظرة متعالية تجاههم. أما “الصوريّ” ذي الدخل المحدود فحين ينظر إلى ارتفاع أسعار الأراضي و الشقق السكنيّة و السلع الذي خلَّفَه هذا التضخم فلن يكون ممتناً لـ “الفلاح” الوافد أو ودوداً تجاهه، فضلاً عن مزاحمة الأخير له في فرص العمل القليلة أصلاً. و يعيد بزّي نشوء منطقة “الحوش” و التطوّر العمرانيّ السريع الذي لحق بها إلى السبب ذاته، فقد قصدها الكثيرون من أبناء صور لشراء الأراضي و بناء منازل لأبنائهم بكلفة متدنية لم تعد متاحة في صور نفسها.

إقرأ أيضاً: قاسم إسطنبولي وعودة سينما الحمراء الى مدينة صور

يستنكر “فضل” ما يراه جحوداً بحقّ مدينته و اتهاماً لأبنائها بما ليس فيهم. و يؤكّد أنَّها لطالما كانت مستشفى أهالي المنطقة جميعاً و مدرستهم و متجرهم، و لطالما كان شاطئها الجميل المتنفس الوحيد لهم دون أيّ تمييز أو منّة. و يستذكر إحدى التجارب الناجحة التي وقف فيها أبناء المنطقة صفاً واحداً، فاستطاعوا تحقيق إنجاز غير مسبوق. كان ذلك في العام 2001، يوم قرَّرَ”علي أحمد”، رجل الأعمال الآتي من بلدة “حاريص” الجنوبيّة حمل فريق المدينة العريق و مفخرتها الرياضيّة إلى زعامة الكرة اللبنانيّة، فكان له ذلك بمساعدة لاعبين مميزين قدِموا من بلدات البرج الشمالي و قانا و معركة و غيرها، و جماهير غفيرة كانت تملأ مدرجات الفريق أسبوعيّاً، آتية من المدينة و القرى المحيطة بها على السواء، و حتى من المخيَّمات الفلسطينيّة المجاورة. ليثبت الجميع أنَّ “الإتحاد قوّة”، و لكنّ “الإتحاد” ألغى يومها نتائج الموسم بأكمله بسبب فضيحة التلاعب الشهيرة، و حَرَم “التضامن” من لقبه الوحيد.

هامش ضمن كادر مستقل:
يؤكّد الباحث علي بزّي أنَّ الحساسيّة بين المدينة و الريف ليست ظاهرة عالميّة كما هي في بلدنا، و يعيد ذلك إلى كون تشكّل المدن عندنا يختلف عنه في الغرب. ففي أوروبا مثلاً، حيث كان يحتّم نظام توزيع الملكيّة أن يرث الإبن البكر أملاك العائلة و أراضيها، لم يبقَ أمام بقيّة الأبناء سوى العمل لديه أو الإنتقال إلى ما أصبح لاحقاً، بجهودهم، “المدينة” بشكلها الحاليّ. فبقيت علاقة قوامها الإحترام تربطهم بالريف الذي يمثله الأخ الأكبر صاحب السلطة و ملكيّة الأرض و الإنتاج، يفسّر ذلك افتخار المزارع هناك بكونه مزارعاً.
أمّا تشكل المدن في بلادنا فقد كان قوامه غالباً الوافدين من الخارج لا من الريف، و هم التجّار و العسكريّون الذين اصطحبهم الإحتلال العثمانيّ ثم الفرنسيّ معه و تمركزوا في بيروت لاعتبارات خدماتيّة و إداريّة. (و هو ما يفسّر وجود عائلات بيروتيّة من أصول تركيّة و كرديّة و مصريّة و يونانيّة). هؤلاء كانوا أصحاب سلطة لها وجه سياسيّ و وجه ضرائبيّ. فكيف لا يحكم التعالي و النفور العلاقة بين الضابط الذي يقيم في بيروت و ناس الأطراف الذين يخضعون لسلطته و يدفعون له الجزية والضرائب .

السابق
ال بي سي: طائرة للميدل إيست كادت أن تسقط بسبب نورس!
التالي
تورط إيران وحزب الله في تدريب الميليشيات الحوثية في صعدة