2017: ما بعد الإفلاس

الكاتب جهاد الزين

تنتشر بين الأوساط الصحافية الانغلوساكسونية والأنغلوفونية، وتلقّفَتْها باريس طبعا، كلمةٌ جديدةٌ أضافها قاموسُ أوكسفورد بعد أيام قليلة على فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية. المصطلح الجديد هو ” post-truth”، ما بعد الحقيقة، أو حقيقة ما بعد الحقيقة، واعتبره قاموس أوكسفورد كلمة العام 2016. تعني الكلمة الجديدة حسب تعريف القاموس أنها وَضْعٌ “تُعتبر فيه الوقائع الموضوعية أقل تأثيرا في تشكيل الرأي العام من تأثير الانفعال والمعتقَد الشخصي”.
ربما يجوز لي أن أجازف باستخدام هذه الكلمة في صعيد يعنينا هنا في المنطقة: ما بعد الحقيقة المسْلِمة اليوم أن الإسلام الغربي (الفرعي) صار أكثر أهميةً وقياديةً مسلمةً مركزيةً من الإسلام الشرقي (الأصلي).
لم يعدْ جديدا القول أن “الإسلام السياسي الأصولي” كقوة نظرية سياسية معاصرة هو في طور، ليس فقط التراجع، بل الاحتضار. هذا ما كتبه وتوقعه عديدون في الغرب، والغرب مؤسِّس أساسي في صعود “الإسلام السياسي”، إذن سيكون أساسيا في احتضاره.
ليس المقصودُ احتضارَ الفكرة ولا التلاشي النهائي للقوة، فلا فكرة أو قوة تتلاشيان نهائيا. خصوصا الموظِّفة للدين. أقصد أن العام 2017، يبدو عاما مهما في مسار نهاية حقبة سيطرة “الإسلام السياسي” كتيارٍ، بتنويعاته المختلفة، يشكِّل محور الحياة السياسية في العالم المسلم وبمعنى ما محور علاقة المسلمين السياسية بغير المسلمين. فحتى لو كان معظم مسلمي الغرب الأوروبي والأميركي وامتداداته الكندية والأوسترالية من غير الأصوليين فإن هذا التيار المتطرف هو الذي يسيطر على “جو” العلاقة بالإسلام واتجاهاتها.
بداية عام 2017 تسمح برؤية حصيلة العقود الأربعة لهذه المحورية الفكرية التي تدور حول التيار:
عالم مسلم مدمّر بالمعنى الحرفي للكلمة في أجزاء شاسعة منه وضعيف جدا في الأجزاء الأخرى على المستوى الاقتصادي التحديثي ناهيك السياسي: في الفئة الأولى المدمّرة أفغانستان العراق سوريا ليبيا وفي الثانية إيران مصر الجزائر باكستان. كان هناك “نموذج” تركي استثنائي للنجاح الاقتصادي السياسي وضع أسسَه النظامُ العلماني ونشهد اليوم بوضوح نهايته وتحوّلَه إلى نظام تسلطي بدأ ينعكس سلبا على اقتصاده.

إقرأ ايضًا: عن جريدة «السفير» وطلال سلمان
السنة 2017 البادئة مع تولّي رئيس أميركي جديد لولايته، هو نفسه كظاهرة سياسية ساهم الإسلام السياسي الأصولي في صناعتها، هي على الأرجح سنة أخرى من سنوات بدء استنفاد هذا التيار المتطرف (بالتكوين) لنفسه واستنفاد الاستراتيجيات الغربية الكبرى له: ليس سياسيا وأمنيا وحتى اقتصاديا فقط بل ثقافيّاً أيضا وربما أساسا.
لا يلغي استمرار طاقة هذا التيار على استقطاب آلاف الشباب التونسيين والليبيين والسعوديين والسوريين والعراقيين والفلسطينيين والمصريين والأفغان والإيرانيين وغيرهم… لا يُلغي حقيقةَ أن الأغلبية الساحقة من المجتمعات المدينية في العالم المسلم بدأت في السنوات القليلة الأخيرة بالارتداد عنه بل بمواجهته. فما نشهده اليوم في أوروبا وأميركا تحديدا هو انتقال عبء كبير من مواجهة الإسلام السياسي الأصولي على عاتق النخب والمواطنين المسلمين في الدول الغربية ولاسيما في أوروبا.
هنا يمكن أن تكون الأسطر السابقة أعلاه مقدمة لرصد التحوّل التالي في المواجهة مع الإسلام السياسي الأصولي:
إنه انتقال “قيادة” هذه المواجهة من داخل العالم المسلم، إلى “الإسلام الأوروبي والغربي” الرافض للأصولية الإسلامية.
هل يمكننا القول، إذن، أن العالم الشرق أوسطي الآسيوي والإفريقي المنهَك بحروبه الأهلية وانهياراته التنموية وانسداد آفاقه الاقتصادية بمعايير عالم اليوم، لم يعد قادرا وحده على إنتاج طاقة مواجهة التطرف الإسلامي، وأن “الراية”، خصوصا السياسية الثقافية، لا بد أنها، أو هي، باتت مرتفعة بين نخب مسلمي أوروبا والغرب الذين يعيشون في دول قوية ومتقدمة وذات مستقبل وتعطيهم هذه الوضعية كمواطنين وكنُخَبٍ قوةً هي بالنتيجة حالةٌ صحية لوضع حد لهذا الانحراف التطرفي الذي يُبعِد البلدان المسلمة أكثر فأكثر عن حقائق العصر.
لا أريد أن أدخل في التسميات في هذه العجالة حتى لا أكون انتقائيا: ولكن أين يصدر الكلام النقدي الأشجع فكريا والأكثر منهجية حول الإسلام الأصولي خارج الجامعات الغربية بما فيها تلك التي يصدرها باحثون مسلمون هم جزء لا يتجزّأ من النظام التعليمي الغربي بل أين نقرأه، استطرادا، خارج الصحافة الغربية؟! أين يجري تقديم النموذج الديموقراطي للحياة العامة وأين تتقدّم النماذج الفردية لمسلمي الاندماج من سياسيين ومسؤولين ونواب وعمدة مدن ووو… خارج الدول الغربية مع كل الاحترام للاستثناءات في العالم المسلم؟ ليس هناك، بعد سقوط النموذج التركي النهائي العام 2016، أي نموذج مضيء آخر يمكن الركون أو الاطمئنان إليه بل حتى الاعتراف بوجوده أصلا في العالم المسلم الشرق أوسطي والإفريقي؟
النقاش العميق حول الإسلام الأصولي يدور في الغرب، يدور بمعنى يُصْنَع، وليس في الشرق ودائما بمساهمة نخب مسلمة.

السابق
اقفال ابواب مطمر كوستابرافا لمنع دخول شاحنات النفايات
التالي
تشييع رفسنجاني: لا موت للشيطان الأكبر وإنّما «الموت لروسيا»