ولكن أين «الشعب» في النداء الموجَّه إليه؟

نداء” 300 مثقف سوري إلى “الشعب” السوري بعد هزيمة حلب. ثمة هوّة شاسعة بين هَول الكوارث النازلة على الشعب السوري منذ إندلاع إنتفاضته ضد النظام، وبين “طمأنينة” لغة هذا “النداء” ومضمونه. “النقدية” التي يوردها في عنوانه هي كالتعويذة. النقد الصحيح غائب عنه. يسمي الأخطاء التي وقعت فيها الثورة السورية بـ”الأوهام”. فيرتاح في تعدادها، كأنها غريبة عن الموقعين على “النداء”. صحيح انه يقول بضرورة التخلّص من تلك الأوهام والقطع معها، ولكنه برشقها، هكذا،، يبدو وكأن الموقعين يؤكدون بذلك على مجرّد “برءاتهم” منها، تلك الأوهام. كانت لديهم سبعة أوهام، جلّها معروف ومكرَّر، من نوع “المراهنة على الخارج”، أو “إسقاط النظام بالسلاح وحده”، أو”المراهنة على النصرة”… الخ، وما عليهم الآن سوى نفْضها. كيف؟ بالإعلان عن مهمات، أيضاً معروفة، من “إستعادة الثورة لخطابها”، و”الإشتغال على بناء كيان سياسي واحد”، و”بلورة تيار وطني ديموقراطي” الخ.

الغائب الأكبر عن هذا النداء هو الشعب السوري نفسه. “الشتات” السوري الذي يتكلم عنه وكأنه معطى جامد، هو كارثة جديدة أخرى، لم يوليها البيان إلا إهتماماً هامشياً، مع انه يستحق أن يكون محوره. ليس فقط لأن النداء موجّه إلى “الشعب”؛ فالشتات شعب أيضاً، ومن الإحترام أن يسهب بالتفكير به… إنما أيضاً، لأن الإنفجار الإنساني السوري المتمثل بتلك الأعداد التاريخية من اللاجئين، الهائمين على وجوههم، هو المعني الأول بالكارثة. وتستطيع قيادة ثورية فاعلة ان تحوّله إلى طاقة جديدة تخدم “النقدية” و”التصحيح” اللذين تجشّم المثقفون الثلاث مئة عناء التكلم بإسمه. الأسئلة لا تنتهي حول هذه الكتلة الإنسانية المتروكة للقلوب الرحيمة ولصوص المساعدات الإنسانية. هذا قبل كل شيء. ومن بعده، كيفية تأطير وتنظيم ومتابعة شؤون الشتات، حتى تكون الثورة من بناته، لا بنات أروقة الفنادق الفخمة. ليس من منطلقات شعوبية، الدارجة هذه الأيام؛ إنما كي يكون “النداء” مطابقاً لأوصافه. على المقدار نفسه، طالما ان “النداء” بصدد مقاربة “نقدية”، فإن شقاً آخر من الشعب المُراد توصيل “النداء” إليه، غائب أيضاَ. تنسيقيات الشباب التي كانت في بداية الثورة المنظِّم السلمي الأكثر أصالة من بين الحركات الأخرى، قبل أن يقضي النظام على نصف شبابها، ويطفِّش الباقين، أو يغرقهم في الصمت والقعود. حسناً: التنسقيات هذه، هل “توهّمت”، بدورها، وراهنت؟ هل أدت مهامها على أفضل، أو أسوأ الوجوه؟ هل تتكرَّر تجربتها؟ في الخارج كما في الداخل؟ هل تُنقد؟ هل تُمدح؟ أقول تنسيقيات، لا أحزاب معارضة. إذ يصعب ان تجد من بين الثانية جماهيرية ونداوة، تضاهي تلك التي كانت تتمتع بها الأولى.

أهم ما في تجربة هذه الأخيرة انها أعطت الكلمة لمن لديهم طريقة أخرى في ممارسة السياسة، تفضي تلقائياً إلى النقد العملي لأشكال الأحزاب الكلاسيكية، وإلى تجديد أشكال الممارسة السياسية، بل ربما أيضاً إلى “سوْرنَتها”. الخشية من الذهاب عميقاً في النقد يتجسَّد في فعل الندامة على تأييد “جبهة النصرة” في بداية الثورة. ثم التكلم عن “الاخوان المسلمين”: الذين ساعدوا على إنتشار الإرهاب الإسلامي، بعدما تراجعوا عن وثائق قدموها (“وثيقة العهد والميثاق”) التزموا فيها بالمسار الديموقراطي. و”النداء” يأخذ عليهم غياب نقدهم للتطرّف الإسلامي، مراهناً بذلك على الإعتدال الإسلامي. “النداء” هنا أيضا يخفق في إمتحان النقد. أسئلة كثيرة غائبة، مع انها تطرح نفسها يومياً: ماذا يعني “الإسلام المعتدل”؟ كيف يمكن أن يبقى “معتدلاً”، أو ينحرف نحو التطرف؟ وهل الفصائل الإسلامية وحدها متطرفة؟ ثم، الذين لا يريدون إسلاما أيديولوجياً، إلى ماذا يتوقون بالضبط؟ هل يكفي أن يعلنوا انهم ديموقراطيون فحسب؟ هل هم علمانيون؟ بالذات علمانيين… بسبب الطبيعة الطائفية للنظام ولمعظم الفصائل واضحة؟ بل لأن هذه الطائفية أداة حرب، وأداة إقتسام غنائمها؟ وتجييش جنودها، ورسم حلولها؟ الفلسطينيون السوريون. هم أيضاً مكوِّن آخر من الشعب السوري. ماذا عن حرمانهم من حقوقهم كلاجئين، أسوة بأخوتهم السوريين؟ وعن ابتلائهم بنكبة ثانية؟ ماذا عن أوضاعهم في الخارج؟ وفي الداخل؟ كيف هي معاملتهم؟ وماذا عن موقف قياداتهم، واثرها على معيوشهم؟ وهل من مأزق خاص بهم؟ أم انهم لا يضيفون شيئاً..؟

إقرأ ايضًا: مخاطر بعد «استانة» تطال حزب الله والوجود الإيراني في سوريا

الوهم السابع والأخير الذي يريد “النداء” أن “يقطع معه”، هو وهم “التمثيل” للمعارضة السياسية، المتجسِّدة في الهيئات التالية: “المجلس الوطني”، “الإئتلاف”، “الحكومة المؤقتة”، و”الهيئة العليا للمفاوضات”. يذكّرني “النقد” الموجّه لهذه المعارضة بـ”النقد” الذي كانت تمارسه الحركة الوطنية اللبنانية إثر كل كبوة تسقط فيها: كلمات “ذكية”، من نوع ان هذه المعارضة “مفتّتة”، “غير منتظمة”، معزولة عن “حواضنها الشعبية” الخ. كلمات ترفع العتب، ولكنها لا تدخل في الصميم: لماذا بقيت المعارضة على هذا الحال، ولم تتطور طوال السنوات الست الماضية؟ وماذا بعد إطلاق هذا “النقد”؟ هل يكون، كما كان يحصل مع الحركة الوطنية اللبنانية، “نقد” آخر، بعد كارثة أخرى، وبعد ذلك السلام؟ أم، هل تتحقّق مهمة “إجراء محاسبة لتطوير أحوالها وأدائها” إلتزاما صريحا منها بأنها فعلاً سوف تحاسب، بدقة، وسوف تشغل خيالها وتفانيها من أجل خلق طرق وقيادات وأطر… جديدة، أو متجدّدة؟ كفيلة بتنظيم الطاقات المبعثرة، وتجييرها لصالح الطوبا المتمثلة بالخلاص من النظام الإجرامي؟ الجواب تجده في إحدى “المهمات” التي يأخذها الموقعون على عاتقهم، بـ”التحوّل إلى طبقة سياسية” بديلة عن النظام. وما أدراك ما “الطبقة السياسية”… في حالات كهذه، تشعر بأن الحيرة من الملَكات الضرورية، حتى لو كان المحتار أكبر رأس إستراتيجي.

ونحن هنا لا نتكلم سوى عن مسائل قريبة للنظر. ولم نتطرّق إلى نقاط أخرى مثل الإحتلالات بأشكالها، وهوياتها، والقضية الكردية… وهذان الحدّان ليسا نهائيين. فالمدى المتوسط والبعيد حاضر أيضاً، ويحتاج إلى من يصفه ويخترع له الكلمات. وهذه مهمة مشروطة بأن يكون النقد غير مرتبط بأي رأسمال رمزي آخر غير الضمير، المعرفي والأخلاقي.

السابق
ترامب يحصد تأييد الاميركيين رغم اهانته للصحافة
التالي
رفسنجاني في إيران: إرث من الإرهاب والقمع وراء واجهة من الاعتدال