بلقيس الحوماني.. روائية وأديبة وكاتبة مسرحيّة وشاهدة على الزمن الجميل

عندما حاولت إجراء حوار مع الأديبة والروائية بلقيس الحوماني، كانت شقيقتها الشاعرة والأديبة أميرة (1934- 17 تموز 2013) قد رحلت وتركت أثراً عميقاً في ذاتها، وهما اللتان عاشتا آخر العمر في بيت واحد، في «الضيعة» في حاروف،  وفي غرفة واحدة وترافقتا في تبديد الوحدة واستعادة الذاكرة والذكريات.

كانت أميرة صغرى البنات الثلاث للشاعر الشيخ محمد علي الحوماني (1898 – 1964) صاحب ديوان “فلان” الذي عرّضه للملاحقة السياسية في عهد الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح، فغادر إلى أميركا ومنها إلى مصر، ليعيش فيها أعواماً حافلة بالنشاط الأدبي وغزيرة الانتاج الشعري، هذا الجو استفادت منه عائلته كل استفادة؛ أما الشقيقة الثالثة فكانت الأديبة والشاعرة الإعلامية سلوى (1928- 2000). ولهنّ شقيق أكبر هو الباحث العلمي والشاعر المهندس رضا (1925- 1999).

إقرأ ايضا: غابت الأديبة بلقيس الحوماني.. وغيّبها الإعلام

مع غياب أميرة، كانت ذاكرة الأديبة والروائية والصحافية بلقيس الحوماني مشتتة نوعاً ما، لدرجة أنها طلبت إليّ أن أترك أسألتي مدونة على ورقة، واعدة إياي أن تعمل هي لاحقاً على الإجابة وتزويدي بما أرغب من معلومات. ومع ذلك خرجت من عندها بحوار مقتضب مسجل شاركت فيه نرجس، إبنة شقيقها رضا الحوماني، وبعض أبناء العائلة، وبدفتر أجابت فيه على أسئلة الصحافي شريف إبراهيم من مجلة «نضال الشعب» الصادرة عن جبهة النضال الشعبي الفلسطيني (العدد 169 تاريخ 08/12/1979).

لوحة لبلقيس حوماني

في الحوار معها تقول:

«يوم بدات بالكتابة، كنا لما نزل نعيش في بيروت، أو بين بيروت والضيعة، أي حاروف، «أبوي» كان يتردد دائماً إلى أميركا، كنت قد أنهيت المرحلة المتوسطة من الدراسة، أما اللغة العربية فقد اكتسبتها من أبوي، إذ كان يواضب على تدريسنا اللغة العربية، أنا وشقيقتي سلوى، هنا في الضيعة حاروف، وكنا نخاف ألا ندرس ما يلقننا إياه لا سيما قواعد اللغة العربية، فقد كان صارماً. وقد التحقت بمدرسة الضيعة وأنهيت المرحلة الإبتدائية فيها. وعندما انتقلنا إلى بيروت، التحقت بمعهد التمريض، لأتعلم التمريض إلى جانب بعض المواد التدريسية. درست 3 سنوات وبعدها سافرت إلى لندن».

متى بدأت الكتابة؟

«كنت في الرابعة عشرة من عمري يوم بدأت الكتابة، كنت أكتب وأرسم أثاث البيت من حولي، أو حتى الأمكنة، رسمت نفسي بمواجهة المرآة، بالحبر الصيني أو بالرصاص، صورتي وأنا أمام آلة التصوير والمرآة».

واليوم، أما زلت تكتبين؟

«اليوم أكتب قدر المستطاع، أراجع كتاباتي القديمة، توقفت عن الكتابة بعد وفاة شقيقتي أميرة، أحاول أو أنسق ما كتبته هي من قصائد أخيرة أو دواوين مخطوطة. كنت أكتب العرفان، أبحث عن كتاباتي فيها، من مكتبة الوالد القديمة، ومكتبة أخوي رضا، (بصناديق في منزل العائلة في حاروف).

وما هي الأعمال التي كتبتيها بين رواية وأدب؟ بين منشورة ومخطوطة؟

«حي اللجى» (رواية إنسانية)، «سأمر على اﻷحزان» (عن واقع الفلسطينيين ومعاناتهم)، «إنها حياتك يا أختاه» (كتاب عن الأسرة)، «اللحن الأخير» (مجموعة قصص)، «خبز وزيت وكرامة» (مجموعة قصص)، قضاء وقدر»، «حول الأسرة البيضاء» (رواية طويلة)، «تذكر ولا تعاد» (عن الحرب الأهلية اللبنانية)، «أختي الحنون فطيمة»، «رفيق المرأة» (كتاب الأسرة)، «حوار بين المؤمن والملحد»، ومجموعة قصص للأطفال تحت عنوان «من قديم الزمان»، ومسرحيات: «ملكة الملوك، بلقيس»، «زيّون»، «سرحان بشارة سرحان»، «طاليس الحكيم»، «عمر بن ابي ربيعة» و«القاتل».

“كتبتُ رواية وأدباً وسياسة، وكتبتُ بالصحف، خصوصاً في صحف الخليج، في قطر حيث بقيت هناك بين 30 سنة و35 سنة، وكانت سلوى شقيقتي في الكويت، واجتمعنا في الشارقة لاحقاً، ومن ثم اجتمعنا ها هنا نحو سنة 2000”.

كنتُ ممرضة في أحد مستشفيات لندن، تعلمت التمريض لأنني أحب هذه المهنة الإنسانية، أبوي كان ضد الحكم هنا (رياض الصلح) وفر من هذه البلاد، إلى أميركا، ثم راح إلى مصر وأرسل بطلبنا، في هذا الوقت كنت أمرض في لندن، وفي مصر كانت سلوى وأميرة ووالدتي، أتى أحدهم من معارف أبي تحت جنح الظلام ونصحه بترك البلاد لأنه صدر قرار بإلقاء القبض عليك، فتوجه إلى مصر، ومن هناك إلى أميركا، بقي سنة هناك، عند أصدقائه من الجالية العربية، وزار لاحقاً البرازيل، وحل الخلافات التي كانت واقعة بين أفراد الجالية هناك، كانت شخصيته محبوبة ومحترمة.

خلال ممارسة مهنة التمريض كنت أكتب ليلاً، بعد الانتهاء من الوظيفة، «حي اللجى» كتبتها قبل 1968، والقصة واقعية من حياة أقربائنا الجنوبيين، ابن أقاربنا، وما كنت أسمعه من كلام الجيران، ومن خلال زياراتي للعديد من البيوتات. نعم القصة كانت واقعية، وجاءت في مطلع الزحف الجنوبي نحو المدينة بحثاً عن سبل عيش أفضل، وما عاناه الجنوبيون جراء الانتقال من بيئة إلى بيئة وما تركه الواقع الجديد من أثر على المفاهيم والتحولات. إن مجمل كتاباتي كانت واقعية. كنت في الثانية عشرة من عمري يوم كنت أصغي إلى حكايات أمي وصديقاتها التي كانت تحب السهر ولا تنام قبل منتصف الليل، وكنت أسهر حتى تنام أمي. كانت أمي عراقية، اسمها فاطمة الكرامة، ودلع أهلها جعل اسمها المعروف فطم، كان لها شقيق، هو خالي وزارنا ذات مرة قبل توجهه إلى تأدية مناسك الحج. وعندما كنت بالخليج زرت العراق، وزرت بيت جدي هناك».

لوحة لبلقيس حوماني 2

بلقيس الحوماني مواليد أي سنة؟

هذا أخر سؤال يمكن أن تسألني إياه (تضحك) شو بدك بهيك سؤال؟ تحملني إلى الكذب غصب عني، (ههههه) والكذب حرام، تبقى المرأة مرأة حتى تموت، وعندها على قبرها يذكر تاريخ ميلادها وتاريخ وفاتها.

وفي العودة إلى إصداراتها تقول: «سأمر على الأحزان طبعته في بيروت (1979) وتم حرق النسخ منها أثناء شحنها إلى قطر، وبقيت نسخة أحضرتها معي. لقد قابلت ياسر عرفات وتصورت معه وأنا أقدم له كتابي عن معاناة الفلسطينيين التي تأثر بيتنا بها، وناصر بيتنا هذه القضية. «اللحن الأخير» طبعت في مصر(1960)، رواية «حي اللجى» طبعت سنة 1968 في بيروت أو ربما 1969، بعد عودتي من مصر وكانت مرشحة لنيل جائزة. ثم طبعت بعدها «إنها حياتي يا أختاه».

في بيروت قدمت مسرحية «سرحان بشارة سرحان» وقد كتبت نصها مستوحاة من مقتل روبرت ف. كيندي (حزيران 1968) التي اتهم بالجريمة المواطن الأميركي من أصل فلسطيني وجرت محاكمته. مثل في المسرحية الفنان أحمد الزين ليلعب دور سرحان بشارة سرحان وقد عرضت في  سينما بيروت».

في أجوبتها على الإعلامي شريف إبراهيم، تقول بلقيس:

«بدأت بالكتابة مذ كنت في الرابعة عشرة، وكانت البداية تمثيلية وضعتها للإذعة وأرسلتها ونسيت أن أذكر لها اسماً. وبقي قلبي يخفق حتى حملها إليّ البريد بعد أسابيع معادة من الاذاعة مع ذكر اسفهم الشديد لكون التمثيلية التي مطلعها سلمى وعصام، غير صالحة للإذاعة. في تلك اللحظة فقط اكتشفت أنني قد نسيت أن أضع اسماً للتمثيلية. بعد عدة سنوات أخذت في وضع محاولات قصصية ووجدانية، والوجدانيات هذه نشر لي بعضها في مجلات عديدة، منها مجلة (عصا الجنة) في دمشق. ظهر كتابي الأول «اللحن الأخير» في مصر، وهو مجموعة قصص صغيرة، لم يجد الناشر داعياً لأن يضع اسمي على الغلاف الخارجي، معتذراً بأنني ما زلت مغمورة، على كل حال أشكر الله على وضع اسمي في الداخل.

بعدها صدرت رواية «حي اللجى» في بيروت، وهذه أخذت كثيراً من الأخذ والرد حيث مكنتها لجائزة (أصدقاء الكتاب اللبناني).. وبينما يقرر محضر جلسة المناقشة شبه إجماع الأعضاء على اختيارها وقول أحدهم إنها أفضل رواية ظهرت في الخمس والعرشين سنة ألأخيرة. ورغم ذلك لم تمنح الجائزة. أما السبب فانعدام الواسطة وخوف بعض الأعضاء تبعاً لقول روز غريب هكذا في المحضر، من أن يتعرضوا للانتقاد إذا هم منحوا الجائزة لمؤلفة مغمورة ومنعوها عن دكاترة في الأدب! إني أركز على هذه النقطة بالذات لا أسفاً على الجائزة، وإنما للعبودية التي ما زالت تحتل مكانها في نفوس غالبية مثقفينا، مع الأسف. وتصدر روايتي الحالية «سأمر على الأحزان» بعد أيام، بعد أن كانت الحوادث الأخيرة في لبنان قد أعاقت طباعتها. كما أنه سيصدر لي قريباً عن دار الأندلس في بيروت سلسلة قصص للأطفال. بقي تحت الطبع في انتظار الفرج، رواية طويلة ومجموعة قصص ومسرحية طويلة».

الأجواء التي تكتبين فيها؟

«الجو الذي أستطيع الكتابة فيه هو الجو الموآتي نفسانياً وجسدياً، أعني نفسانياً عندما يكون هناك شعور بالاستقرار النفسي مصحوباً بتفاعل عاطفي. أما الجسدي فهو البعد عن الشعور والارهاق أو المرض. أما المكان فلا أهمية له إلا بقدر ما يوفر الشرطين المذكورين، ولعل أفضل وقت للمخاض الفكري هو في أعماق الليل عند وجود التفاعل العاطفي المنوه به، ذلك أن ألأحاسيس تكون أكثر تدفقاً والأعصاب أكثر إرهافاً، ولعل في صمت الليل وتخيلاته ما يساعد على ذلك. أما الصباح فهو عادة أفضل الأوقات لمراجعة ما كتب أثناء الليل».

الشاعرة بلقيس حوماني

كاتبك المفضل ولماذا؟

«لا شك ان ثمة كاتباً أفضله في كل ناحية من نواحي الفكر، من ناحية القصة مثلاً هناك كتّاب لا كاتب واحد ولا استطيع تفضيل واحد منهم على الآخر، هناك نجيب محفوظ عن الرواية الطويلة، وكذلك الطيب صالح ويوسف ادريس في القصة القصيرة وحنا مينا، أما من الغربيين فألبرتو مورافيا (1907- 1990) يغريني دوما بقراءته وقد تأثرت به؛ وكذلك أرسكين كالدويل (1903- 1987)…

كذلك إذا أتينا إلى الشعر، فالشريف الرضي، والمتنبي من القدماء، ونزار قباني ووالدي محمد علي الحوماني من المحدثين وأتجاوب معهما إلى أقصى الحدود. وصحفياً أمين الأعور ومن قبله محمد حسنين هيكل، وهما المفضلان لدي. وطبعاً، كل من هؤلاء الكتاب والشعراء افضله من ناحية خاصة».

بلقيس حوماني مع السيد هاني فحص

إقرأ أيضا: بلقيس الحوماني، وداعاً…

ورداً على سؤال حول الكتاب الذي قرأَتْهُ وتأثرت به، تقول بلقيس: «كثيرة هي الكتب التي تأثرت بها منذ ابتدأت أقرأ، ولكن ثمة كتابين لا كتاباً واحداً تركا في نفسي أثراً لا يمحى، وكلاهما كان له أثر كبير في تكوين شخصيتي الحاضرة. الكتاب الأول هو القرآن الكريم، فعلى ضوئه تحدّد طريقي في الحياة ونظرتي إليها، واتخذ الأدب عندي معنى الالتزام؛ أما الثاني فهو ديوان «فلان» لوالدي وهو من الشعر السياسي الانتقادي الساخر الرائع بصراحته، وقد تعلمت منه كيف أكون جريئة وصريحة لا أخاف ولا أداجي في ما أكتب، ولعل هذا لم يفدني كثيراً بالنسبة للكبت الفكري في بلادنا، ومن قبل كان السبب في تشرد أبي بعيداً عن وطنه، وهذا الديوان أعدم على كل حال ساعة ولادته، من قبل السلطة الحاكمة في لبنان في ذلك الوقت، إنما ظهر قسم كبير منه في ديوان آخر هو «النخيل» في مصر بعد ذلك بسنوات.

 

السابق
على أنقاض «سوريا الأسد»
التالي
جريح على طريق عام الكرك – زحلة