عندما تصبح «محاربة الإرهاب» رخصةً لإرتكاب الجرائم !

من المؤكّد أنّ جماعات الاسلام السياسي بكل مسميّاتها وإنتماءاتها المذهبية السُنيّة والشيعية ، سوف تبقى لفترة طويلة من الزمن ، قنابل موقوتة وألغاماً متفجّرة مزروعة في خرائط دول الأمة الاسلامية.

بعد سقوط الشيوعية في عام 1991 ، وإنتهاء الحرب الباردة بين الثنائية القطبية في قيادة العالم ،التي اندلعت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية – ظهرالإسلامُ كأعظم خطرٍ على أمن الغرب، وبدأ ظهور النظريات السياسية التي تتنبأ بالصراع بين الحضارات والأديان على المستوى الثقافي والسياسي، وشاعت التهمة بأن الإسلام لا ينسجم والديمقراطية والروح العصرية، وبأنه ميّال في جوهر تعاليمه ، الى القتال والعنف والدموية. وقبيل أحداث الحادي عشر من ايلول عام 2001 ، لم يكن لدى الولايات المتحدة الأمريكية – التي تُصنّف على انها زعيمة الحرب على الإرهاب في العالم – تعريف واضح لمصطلح ” الإرهاب” ، ولكن هذه الأحداث الدامية التي تعتبر علامةً فارقة في تاريخ النظريات الامنية والعسكرية والاستخبارتية ، أفضت الى انقلاب في مفاهيم الحريات العامة والمبادئ الليبرالية ، تجلّى في ظهور ما أسماهُ الرئيس الامريكي “جورج بوش” مفهوم “معسكر الشرّ” الذي يضمّ أي دولة لا ترضى عنها الولايات المتحدة ، وتكون تلك الدولة عُرضةً لأن تُشنّ حربٌ مباشرة عليها ، في اي وقت يتم تقرير هذا الأمر، في مؤسسات صناعة القرار في الإدارة الأمريكية. وبناءً على تقسيم العالم الى محورين : محور الخير ومحور الشرّ- الذي يشبه تقسيمه الى فسطاطين : الكفر والإيمان ، او الى معسكرين : الحسين ويزيد – تحولت التنظيمات الإسلامية والجماعات الجهادية التي دعمتها وموّلتها واستخدمتها الولايات المتحدة في مواجهة وتقويض أركان المعسكر الشيوعي ، الى أهداف مشروعة للقصف والمطاردة والإعتقال والقتل ، تحت شعار “مكافحة الإرهاب” ، بإعتبارها العدو الجديد للحضارة الغربية ، والخطر الداهم الآتي من الشرق إلى الغرب.
ولتسهيل مهمة شيطنة المسلمين واتهامهم بالإرهاب، فقد تمّ العمل في الغرب على خلق صورة نمطية عن الإسلام والمسلمين، بدا المسلمون من خلالها، كمقاتلين أصوليين خطرين، وكأناسٍ غرائزيين غاضبين وحاقدين على الغرب، ينتمون إلى القرون الوسطى في نمط عيشهم وطريقة ملبسهم وتفكيرهم، ويستغلون ديانتهم لتحقيق أغراض سياسية وعسكرية؛ وبدا الإسلامُ – كدينٍ – على أنّه معادٍ للقيم الحضارية، يعلّم أتباعه قتل الكافرين والمختلفين؛ وبدت الثقافةُ الإسلامية على أنها ثقافةٌ متحجّرة وغير قابلة للتغيير أو للتطوير. وهذا هو ما يُطلق عليه إسم “الإسلاموفوبيا ” الذي يعني الخوف من الإسلام والمسلمين، أو الحقد عليهم( وللأسف فإنّ ما ترتكبه الجماعات الجهادية في سوريا والعراق ، قد نجح الى حدٍ بعبد في ترسيخ هذه الصورة المشوّهة عن الاسلام والمسلمين ) .

والواقع أنّ تلك الصورة القاتمة عن الإسلام والمسلمين، ليست حديثة العهد، بل هي موجودة في الثقافة الغربية وفي أعماق الوعي الأوروبي . وقد بدأت بالتشكّل في القرون الوسطى، نتيجة خوف أوروبا المسيحية من العالم الإسلامي الذي كان في حالة إنتشارٍ وقوةٍ وتوسّع، ممّا شكل خطراً عسكرياً على أوروبا، وتحدّياً ثقافياً وأخلاقياً وفكرياً لها ، خاصةً أن العالم الإسلامي كان يتقدّم على الغرب بأشواط بعيدة في مجال الفلسفة والطب والرياضيات والفيزياء وعلم البصريات والفلك والكيمياء وعلوم طبيعية أخرى، ما جعل الأوروبيين يعتقدون بتفوّق الثقافة الإسلامية، ويشعرون بالحسد والغيرة منها، وفي نفس الوقت يخشون من المدّ الإسلامي نحو بلادهم. ومن هنا بدأت مخاوفهم بالتراكم تجاه الإسلام الذي لقّبوه بدين السيف ، كعدوٍ ينافس في خلق القيم الرمزية، وفي التعبئة على مشروع كوني حضاري مختلف، أو كموضوع توسعٍ وبسطٍ للهيمنة، أو كمصدر تهديد أبدي لبنيان الحضارة الغربية.

ويعتبر “برنارد لويس” في كتابه “الاسلام والغرب” ، انه لما يقرب من ألف سنة ، كانت أوروبا تحت تهديدٍ مستمر من الاسلام. وعن الصراع القديم بين الاسلام والغرب ، يقول “صاموئيل هانتنغتون” في كتابه “صراع الحضارات” : ” صراع القرن العشرين بين الديمقراطية الليبرالية والماركسية اللينينية ، ليس سوى ظاهرةٍ سطحيةٍ وزائلة ، إذا ما قورن بعلاقة الصراع المستمر والعميق بين الاسلام والمسيحية … المشكلة المهمة بالنسبة الى الغرب ، ليست الأصولية الاسلامية ، بل الاسلام ، فهو حضارة مختلفة ، شعبها مقتنع بتفوّق ثقافته ، وهاجسُه ضآلةُ قوته” .

إذن حتى قيام الإتحاد السوفياتي في عام 1922 ، لم تشكّل أيُّ دولةٍ أو إيديولوجيا ، تحدٍّ مستمر للغرب، كالإسلام. ولكن بعد سقوط الإتحاد السوفياتي ، الذي رآهُ المسلمون إنتصاراً للإسلام ضد الإلحاد ، ورآهُ الغربُ إنتصاراً للعالم الحرّ ، شعر الغرب بحاجته الى عدوٍ جديد ، فعاد العدو الاحتياطي القديم ليبرز من جديد، وعادت الأحقاد القديمة نحو الإسلام، وعادت المغالطات والأحكام المُسبقة والصور النمطيّة السوداء التي تؤكد خوف الغرب من الإسلام، رغم أن الغرب قد أصبح متفوقاً في كل الميادين ، ولم تعد القوى الإسلامية قادرة على تشكيل أي خطر عسكري عليه.

ومهما يكن من أمر الحضارة الغربية التي تدين الاسلام وتلصق به تهمة العنف والارهاب والتخلف والوحشية ، فإن التاريخ القديم والمعاصر، يقدّم لنا العديد من الشواهد والأدلة على عنف ودموية وعدوانية وهمجية أصحاب هذه الحضارة التي أنشأت محاكم التفتيش وصكوك الغفران ، وارتكبت الحروب الصليبية ومذابح القبائل في الامريكيتين ، وأبدعت نظام الرقّ والعبودية والأنظمة الفاشية والنازية والشيوعية ؛ والتي استخدمت في هيروشيما وناكازاكي ، أدوات الفتك والقتل والدمار الشامل والأسلحة الذرية ؛ والتي اعتمد ت – منذ الحرب العالمية الثانية – مبدأ “الحرب الشاملة” التي تستبطن “الإبادة الجماعية” و”التطهير العرقي” ؛ والتي طوّرت مفهوم “الحرب الإستباقية” التي هي عدوان صريح على الدول الضعيفة ، بحجة القضاء على عدو محتمل أو خطر متوقع داخل دولةٍ ما ، من شأنه ان يهدد أمن دولة عظمى . وبفضل هذه الحجة ، شنّت الولايات المتحدة الحرب على تنظيم القاعدة – الذي ساهمت في إنشائه لمحاربة عدوها الاتحاد السوفياتي – في أفغانستان والعراق . وهاهي روسيا وإيران تشنّان اليوم الحرب على التنظيمات الاسلاموية في سوريا بذريعة محاربة الإرهابيين والتكفيريين . وقد ارتكبتا في مدينة حلب ” جرائم ضد الانسانية” ، وخاضتا فيها “حرباً شاملة” لا تبقي ولا تذر ، حرباً لم يتمّ التمييز فيها ، بين الأهداف المدنية والعسكرية ، او بين طفل وراشد ، مسلّح وأعزل ، ثكنة عسكرية ومدرسة أو مشفى . وكل ذلك حصل وسط صمتٍ شبه مطبق للمجتمع الدولي الذي اكتفى بالشجب والإستنكار .
ذلك التاريخ المُشْبَع بالدموية والهمجية، وهذا الصمت المعيب والمشين ، يفرضان علينا أن ننظر في شكٍّ وريبة إلى الإدعاءات الغربية بأنها النموذج الإنساني الأمثل للتسامح والانفتاح وقبول الآخر والعدالة والحرية والسلمية والديمقراطية ، طالما أن هذا الغرب يؤمن بأنّ دوام الصراع والنـزاع وسفك الدماء ، عن طريق تغذية ودعم ظاهرة التطرف والغلوّ الديني، هو أفضل ضمان لإستمرار ضعف الأمة الإسلامية وتشظّيها وتمزقها وتخلّفها؛ ولإبقاء الأنظمة العربية والإسلامية خاضعةً وتابعةً له، ومعتمدةً عليه لتأبيد سلطتها. وفي هذا ما يفضح الثنائية والإزدواجية التي وقع الغربُ المتفاخر بنفسه، في فخّها : فهو يحرص من جهة على تلميع صورته كرمزٍ فريد في تطبيق قيم الحرية والعدالة والمساواة والقانون، ومن جهة ثانية، يمارس أبشع أنواع الإستغلال والإمتهان لشعوب المجتمعات الأخرى، ومنها الإسلامية . أي أنه على الرغم من المبادئ والأسس والشرائع والفلسفات التي قامت عليها الحضارة الغربية الحديثة، بفضل الإنتاج الرمزي لمفكّريها من فلاسفة وعلماء إجتماع وسياسة، إلاّ أنّ هذا الغرب في سلوكه الفعلي ومواقفه فيما يخصّ قضايانا، يناقض روح تلك المبادئ ومضمونها، ويُبدي لا مبالاةً مقصودةً في تطبيق أو إستثمار الدلالات الرمزية والمفتوحة لتلك المفاهيم، وذلك عبر السياسات التي يعتمدها لتشويه صورة الإسلام وربطه بالعنف والإرهاب، وتقديمه على أنه يشكل تهديداً حقيقياً لسلمه وأمنه وأسلوب حياته؛ وعبر ممارسته التعصّب الأعمى واللاتسامح وإستخدام العنف اللامحدود واللامبرّر مع أبناء مجتمعاتنا. وما حربُ الخليج الثالثة الشعواء والظالمة التي دمّرت العراق وأطاحت نظامه السياسي وأعدمت رئيسه تحت حجج وذرائع ملفّقة ومفبركةً ؛ وما المجزرة السورية الحاصلة منذ ست سنوات، والتي خلّفت وراءها الملايين من القتلى والجرحى والمهجّرين ، والتي يقابلها العالم بلامبالاة مقزّزة ، سوى دليل فاقع على تلك الممارسة الانفصامية لهذا الغرب ـ وعلى رأسه الولايات المتحدة ـ الذي يبدو مستعداً للإنقضاض على كل أصنام الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الانسان ، إذا كانت حمايةُ هذه الأصنام التي صنعها ، أو الدفاعُ عنها خارج حدوده ، يتعارضان مع مصالحه ومنافعه .
لقد كان ظهور تنظيم “داعش” في العراق وسوريا – والذي لم تُكشف بعد كل أسراره وخفاياه والجهات المحلية والإقليمية والدولية المتورّطة في دعمه وتشكيله والمستفيدة من ظهوره ووحشيته تمدّده – فرصةً إقتنصتها قوى عدة ، على رأسها إيران التي انفقت مليارات الدولارات ودفعت الاف المقاتلين الشيعة من عدة جنسياتٍ الى سوريا لإجهاض الثورة الشعبية ، ولمنع سقوط نظام حليفها بشار الأسد ، بهدف تنفيذ أجنداتها الرامية الى بسط نفوذها في كل دول العالم العربي ، وإحياء أمجاد الأمبراطورية الفارسية . والمفارقة في أمر إيران انها تدّعي محاربة الإرهاب بنفس الوسائل والأساليب التي يستخدمها مَن تسمّيهم ” التكفيريين” : التحريض الديني ، التعبئة المذهبية ، استخدام أقصى أنواع العنف والقوة والقتل والتهجير ، إنشاء ميليشيا “جيش الحشد الشعبي الشيعي” العراقية المتطرّفة التي ترتكب العديد من الجرائم الطائفية في الموصل ….

إقرأ أيضاً: الإنتحاري دليفري أمّا الإرهاب فموضوع آخر

قد يكون من المؤكّد أنّ جماعات الاسلام السياسي بكل مسميّاتها وإنتماءاتها المذهبية السُنيّة والشيعية ، سوف تبقى لفترة طويلة من الزمن ، قنابل موقوتة وألغاماً متفجّرة مزروعة في خرائط دول الأمة الاسلامية ؛ وأن دولاً عدة لن تتردد في توظيف حماسة أصحابها واستثمار نزقهم وميلهم بفعل الشحن والتعبئة والتضليل الديني ، الى استخدام أقصى أنواع العنف والقوة، الى ان يحين الوقت كي تنقضّ عليهم ، وتفتك بهم جماعةً جماعةً ، تحت شعار “محاربة الإرهاب” الذي أصبح رخصةً للكثير من الدول لإعلان الحرب المفتوحة أو الاستباقية على خصومها ، ولتبربر جرائمها ومجازرها . وتلك الدول المستفيدة من الأيديولوجية المتطرّفة لتنظيمات الاسلام السياسي ، ستظلّ قادرة على صناعة واستيلاد تنظيماتٍ أكثر تطرّفاً وعنفاً من تلك التنظيمات التي تطاردها وتقصفها تحت ذريعة “محاربة الإرهاب” ، طالما ان بعض المسلمين الواهمين مستمرون في عرض قضاياهم للمساومة ، وبنادقهم للإيجار، ودينهم للبيع ؛ وطالما انهم عاجزون عن إدراك حقيقة انهم مجرد وقود وحطب ودُمى في مشاريع الدول وأجندات الأنظمة الراغبة في التوسع والسيطرة وبسط نفوذها المادي والمعنوي .

إقرأ أيضاً: الإرهاب دين وليس أعمالاً فردية

يُقال ان ثلاث ضرباتٍ تأديبية قد نزلت بالإنسانية المتفاخرة بعقلها وقيمها وتميّزها وتفوّقها على عالم الحيوان، تمثّلت أولاً : بإكتشافات “داروين” العلمية التي سوّت بين النوع الانساني وسائر الأنواع الحيوانية من حيث الأصل والتطور؛ وثانياً : بإكتشافات “كوبرنيكوس” التي ألغت الاعتقاد بأنّ الارض موطن الانسان، هي مركز الكون، وبرهنت أن الكرة الارضية ليست سوى جرم صغير لا قيمة له بالمقارنة مع الأجرام السماوية الأخرى التي لا عدّ لها ولا حصر؛ وثالثاً : إكتشاف “فرويد” مستوى اللاوعي الذي جرّد الانسان من اعتزازه بقدراته التفكيرية، بعدما ظهر ان أغلبية الأفكار التي تتكون في الوعي ، وغالبية التصرفات التي يقوم بها صاحب هذا الوعي، ليست سوى استجابات لدوافع دفينة ، تنبع من بؤرة الغرائز الجنسية المكبوتة ؛ أما الضربة الرابعة التي نزلت بالإنسانية، وبالثقافة الغربية على وجه الخصوص، فقد تمثّلت بتهشيم مأساة الشعب السوري ، لنرجسية الغرب المتفاخر بنفسه، وبادعاءاته الفارغة بأنه يقدّس قيم الحرية والديمقراطية، ويقوم على احترام حياة وحقوق الأفراد والجماعات ، بعدما برهن صمته ولامبالاته تجاه الجرائم المرتكبة ،على حجم همجيّته وتوحشّه واقتياته على جثث ضحايا مصالحه الحيوية. وهو ما يثبت أن هذا الغرب المتحضّر الذي حقق قفزة نوعية في المجال العلمي والتقني، يعاني تصدّعاتٍ وانحرافاتٍ حقيقية في منظومته القيمية ، كانت كفيلةً بإطاحة التقدير العالي والاحترام اللذين كان يبديهما العالمُ أجمع ، لثقافته ومفاهيمه وقيمه ومُثُله العليا التي فضح “الهولوكوست السوري” ، كم هي ضحلة ومُجوّفة ومحلية وعنصرية .

السابق
على أنقاض «سوريا الأسد»
التالي
حزب الله في سوريا: البقاء المكلف والعودة الصعبة