مسلمات محجبات يغنَين في الكنيسة

السابقة جميلة ومثيرة للاهتمام: ثمانون صبية محجّبة من مؤسسات الإمام موسى الصدر، تتراوح أعمارهن بين ست وثماني عشرة سنة، يشاركن الفنانة عبير نعمة في تراتيل الميلاد في جوقة غناء الميلاد في كنيسة مار الياس في حيّ القنطاري، بيروت. واعتزاز مديرة تلك المؤسسات، السيدة رباب الصدر، بهذه المشاركة، وتعليقها عليها بأن “بنات موسى الصدر تنشدن اليوم للمسيح نشيد السلام للبنان. فهذه أمنيتنا ورسالتنا”.

تأتي هذه السابقة في سياق تعبيرات شبيهة، كلها ترنو إلى اللقاء بـ”الأخوة” من الطوائف المسيحية، لتقول بأن في لبنان لا مشكلة بين المسلمين والمسيحيين، وبأن المسلمين هم الأشد حرصا على المسيحيين، وبأن التلاقي بين الإثنين هو من معاني التعايش السامي في لبنان بين الطوائف المختلفة… إلى ما هنالك من نهاية المعزوفة الممجوجة المعروفة. فخلف هذه الواجهة الفلكلورية التي يُراد منها التغطية على العصبيات الطائفية، وإن كانت محمولة على أبعاد جمالية لا ريب فيها، هناك مجتمع وقيادة سياسية كلهم غاطسون حتى أذنيهم في تلك العصبيات؛ والفرق ضئيل هنا بين المجتمع وقيادته؛ فجماهير الطوائف مصطفة منتظمة وراء هذه القيادات. انها، مع احترامنا لهذه السابقة، ولصاحبتها، مجرّد زَجَل ودبكة وزلغوظة…

اقرأ أيضاً : نبي طرابلس ومسيحها في مهرجان الأعياد

لا قيمة لهم كلهم على أرض الواقع والمشاعر العميقة، القائمة بين أبناء الطواف المختلفة. وقد يلعب هذا الفولكلور، في معظم الحالات، دور التجميل لبشاعات بلغتها مساخر تأليف الحكومة، التي لم يستحِ أبطالها الكبار والصغار من التدقيق في الحسابات المذهبية، شديدة الضيق والسخافة. وفيها سعي تنافسي حثيث للمسلمين السنّة والشيعة في استمالة المسيحيين عبر أنواع شبيهة من “المشاركات” الإحتفالية في أعيادهم، وقد بلغت هذه السنة ذروتها، بالأشجار الميلادية التي عمّت بلدات وأحياء اسلامية. وجهٌ من هذا التنافس وصفه أحد المعلقين على شكل سؤال “بريء”: “هل أصبح طموح المسيحيين مقايضة هيمنة حزب الله بشجرة عيد ميلاد هنا وهناك؟”.

 

ولكن النقطة الأخطر التي تثيرها هذه السابقة تتعلق بالشعائر الدينية نفسها، وفحواها: هل يمكن تصوّر صبايا، ولو محجبات، ينشدنَ الأغاني الدينية، داخل مسجد أو حسينية؟ وترافقهن آلات موسيقية، وفنانة ذات صوت، وتكون مسيحية، وغير محجّبة؟ المراجع الدينية الإسلامية لم تعلّق على السابقة، ولا انتفضت احتجاجا على المسّ بالدين؛ فهل تقبل بأن تحضر في صروحهم فنون المسلمات كما حضرت في الكنيسة؟ خصوصاً بعد الوقائع المتفرقة، المحرِّمة للفن، من قبل “حزب الله”، وصمت حلفائه وخصومه على إسكات صوت فيروز في صرح جامعي، بحجة الحلال والحرام؟ خصوصا أيضاً، بعدما غلبت الروح السلفية، أو المسايِرة للسلفية، في معظم المساجد السنّية؟ ثم هل أن هناك أصلاً أناشيد دينية إسلامية غير تلك التي تستعير ألحانها من أغان معاصرة، في إحيائها للموالد والتهاني؟ وهي على العموم لا تقُام في المسجد، إنما في البيوت أو المجمعات الطائفية؟

من هذه الزاوية بالذات، تبدو الشعائر المسيحية أكثر توافقاً مع عصرها من الشعائر الإسلامية. قبل ان تصيبها سهام تطور مجتمعاتها الغربية، كانت الكنيسة لا تقل عن المسجد إبعادا للفنون الحيّة وللمرأة. ثورة النهضة الأوروبية طعمتها بما استطاعت من مرونة وانفتاح؛ وأخذت مع الوقت، حماية لوجودها، تطور نظرتها وشعائرها بما يناسب الميول الملّحة لمجتمعاتها. المسيحيون اللبنانيون، وإن كانوا مثل بقية الطوائف، أبناء عصبية، إلا انهم يتنعمون الآن، في شعائرهم الدينية، بإرث هذه الثورة.

اقرأ أيضاً : «طرابلس مدينة الأعياد» مهرجان فرح وغناء حتى نهاية العام

سابقة مؤسسات الصدر تضعنا مرغمين على أبواب المقارنة بين شعائر المسلمين وشعائر المسيحيين. تفتح لنا زاوية التفكير في ما نحن غائصون فيه من سؤال حول “تجديد الاسلام” أو “إصلاح الإسلام”… وما شابه من مهمات تفرض نفسها مع صعود الأصوليتين الشيعية والسنّية، على المستوى الشعبي خصوصاً. الغناء في المساجد، وبأصوات نساء، هو واحد من المنافذ للبحث عن هذا التجديد…

السابق
طريق موسكو لإخماد نيران الحرب السورية
التالي
صديق بوتين في كل لقاءاته «كلب»