لعنة حلب…

خيرالله خيرالله
ما حدث في أنقرة ليس مجرد اغتيال لسفير على يد مجرم تحركه الغريزة المذهبية. ما حدث كان أبعد من ذلك بكثير. إنه مؤشر لما ينتظر المنطقة في حال لم يحصل تغيير في السياسة الروسية.

لا يجرّ العنف سوى العنف، ولا يأتي الإرهاب سوى بالمزيد من الإرهاب. لم يكن اغتيال السفير الروسي في أنقرة، أندريه كارلوف، سوى عمل إرهابي يعبّر عن شعور باليأس لدى الكثيرين داخل سوريا وخارجها بعد الإرهاب الذي تعرّض له الآلاف من المواطنين السوريين منذ العام 2011 تحديدا عندما قامت ثورة سلمية في البلد. قُمعت هذه الثورة بالحديد والنار والبراميل المتفجّرة من دون صدور إدانة روسية لهذا الفعل الجبان والمتوحّش في آن. شاركت روسيا في الأعمال الإرهابية التي يتعرّض لها الشعب السوري للأسف الشديد. أدخلت نفسها في دوامة كانت في غنى عنها لا أكثر.

تناوب على قمع السوريين وقتلهم وتهجيرهم النظام نفسه والميليشيات المذهبية التابعة لإيران، وأخيرا سلاح الجوّ الروسي الذي استهدف مدارس ومستشفيات وأحياء مدنية. مثلهم مثل الإيرانيين وأتباعهم، لم يوفّر الروس وسيلة، بما في ذلك استهداف النساء والأطفال والمدنيين من كلّ الأعمار من أجل زرع الرعب في نفوس السوريين، وتهجير أكبر عدد منهم من مدنهم وبلداتهم وقراهم. كانت روسيا التي تعرّضت بدورها لعمل إرهابي، شريكا في الإرهاب الذي استهدف شعبا لم يطلب سوى استعادة كرامته.

اعتمد الإيرانيون وأتباعهم، والروس لاحقا، الوسائل التي لجأ إليها النظام السوري منذ سنوات طويلة لإخضاع السوريين وإذلالهم. إنّها الوسائل نفسها التي لجأ إليها النظام السوري في لبنان منذ قرّر الهرب من أزماته الداخلية إليه. كلّ مدينة من المدن اللبنانية شاهدة على إرهاب النظام السوري. بيروت وطرابلس وصيدا وزحلة، كلّها شاهدة. الدامور شاهدة أيضا. الأشرفية، وهي جزء من بيروت، شاهدة. كلّ القرى المسيحية القريبة من الحدود اللبنانية ـ السورية شاهدة على ما ارتكبه النظام السوري، من القاع… إلى العيشية. كان الهدف الدائم تهجير المسيحيين من منطقة الحدود إلى الداخل اللبناني، وذلك خدمة لحلف الأقلّيات الذي نادى به النظام العلوي في سوريا دائما.

لن ينقذ الإرهاب النظام السوري من مصيره المحتوم. خرج النظام السوري من لبنان ذليلا بعدما اعتبر أن التخلّص من رفيق الحريري بواسطة شريكه الإيراني سيضمن له البقاء في البلد إلى ما لا نهاية.

لا تبرير من أيّ نوع لاغتيال السفير الروسي. لكنّ هذا النوع من الإرهاب سيزداد في حال بقي الوضع في سوريا على حاله، خصوصا في حلب. ستلاحق لعنة حلب كلّ من مدّ يده على المدينة بهدف تهجير أهلها وخلق واقع جديد يسمح لبشّار الأسد بالكلام عن أنّه “يكتب التاريخ”. أيّ كتابة لأيّ تاريخ باستثناء الاستثمار في الإرهاب وتشجيعه والعمل على تمدّده لتبرير البقاء في السلطة في ظلّ استعمارين روسي وإيراني؟ لا يحسن بشّار الأسد سوى هذا النوع من الكتابة التي يدفعه إليها حقد أعمى على سوريا ولبنان، وعلى اللبنانيين والسوريين.

ليس مفهوما لماذا ارتكبت روسيا كلّ الأخطاء التي كان يمكن تفاديها في الشرق الأوسط. هل سيجعلها اغتيال السفير في أنقرة تتعلّم من تجارب الماضي القريب والبعيد، بما في ذلك التورط مع نظام سوري أخذ العرب إلى حرب 1967، أو إلى توريط العرب جميعا في تلك الحرب التي قضت على جمال عبدالناصر بكلّ ما كان يمثّله من حسنات وسيئات لا تحصى.

يضع اغتيال السفير الروسي في أنقرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام واقع يرفض الاعتراف به. يتهرّب من هذا الواقع معتقدا أنّ في الإمكان تجاوزه عن طريق القصف وإخلاء المدن السورية من أهلها، لا لشيء سوى لأنّهم من أهل السنّة الذين وقفوا منذ خمسين سنة في وجه حزب البعث بكلّ ما يمثله من تخلّف، وفي وجه النظام العلوي الذي استخدم البعث للوصول إلى حكم سوريا معتمدا الحديد والنار والإرهاب بكلّ أشكاله وألوانه.

مؤسف أن روسيا، وقبلها الاتحاد السوفياتي، كانا دائما في خدمة نظام استخدم الإرهاب للسيطرة على سوريا والتحكّم برقاب السوريين.

مرّة أخرى، لا سبب يدعو إلى تبرير اغتيال السفير الروسي في أنقرة. هذا عمل إرهابي مدان بكلّ المقاييس والأشكال. خسرت روسيا سفيرها. هل يمكن أن تستفيد من تلك التجربة القاسية من منطلق أنّ الاستثمار في الإرهاب لا يمكن أن يقضي على الإرهاب. ما فعلته روسيا في سوريا، خصوصا في حلب، هو ممارسة للإرهاب ستدفع إلى المزيد من ردود الفعل من نوع اغتيال السفير كارلوف. دفع الرجل من حياته ثمنا لسياسة روسية قامت على اعتبار النظام السوري في حرب مع الإرهاب. هذه كذبة كبيرة لا أكثر، لا يصدّقها سوى ساذج أو من يمتلك نيّات سيئة. هل فلاديمير بوتين ساذج أم إنّه من ذوي النيّات السيئة؟ الأكيد أنّه ليس ساذجا بأيّ شكل. على العكس من ذلك، عرف، تماما، كيف يستغل نقاط الضعف لدى إدارة باراك أوباما وتوظيفها لمصلحته. ولكن إلى أين أوصله ذلك؟ لم يوصله سوى إلى اغتيال سفيره في أنقرة. هذه بداية وليست نهاية. يفترض في مثل هذه البداية أن تدعو الرئيس الروسي إلى التعقّل وإعادة النظر في حساباته السورية.

إقرأ أيضاً: الاغتيال الأوّل ما بعد حلب… من الثاني؟

قبل كلّ شيء، إن سوريا ليست غروزني التي دمّرها فلاديمير بوتين على رؤوس أهلها. سوريا جزء من العالم العربي وهي تشكّل نقطة توازن في هذا العالم. من يسعى إلى اتباع سياسة تقوم على قهر السوريين وإبقائهم تحت حكم بشّار الأسد، إنما يعادي العالم العربي كلّه. لا يمكن البناء على نظام سوري مرفوض من الأكثرية الساحقة من شعبه بغية تحويل سوريا منطقة نفوذ روسية. على العكس من ذلك، يمكن لروسيا استعادة تعاطف السوريين في حال لعبت دورا في التخلص من نظام لا مستقبل له، لا داخليا ولا إقليميا. استنفد هذا النظام الهدف الذي وجد من أجله. دمّر سوريا على أبنائها. هجّر السوريين من سوريا ودمّر المدن الكبيرة فيها. كل ذلك لا يمكن أن يبقيه في السلطة، تماما مثلما أن تدميره للبنان وتهجيره مسيحيي الأطراف ومحاربته السنّة في المدن الكبيرة، ثمّ تغطيته لاغتيال رفيق الحريري لم يحل دون انسحابه، في نهاية المطاف، من الأراضي اللبنانية.

إقرأ أيضاً: لا يا صديقي… هذا ليس انتصارا لحلب!

ستبقى سوريا تقاوم، مهما فعلت إيران ومهما اشترت من الأرض السورية ومهما أرسلت مستوطنين إلى دمشق ومحيطها وإلى مناطق أخرى. عاجلا أم آجلا سيرحل النظام السوري. لدى فلاديمير بوتين فرصة لا تعوّض لإعادة النظر في موقفه من سوريا والسوريين. لن ينفع إرهابه لا في حلب، ولا في غير حلب. الإرهاب لن يجرّ سوى المزيد من الإرهاب مهما بلغت درجة التعاون والتنسيق مع تركيا وإيران. كلّما تعقّلت موسكو في سوريا واقتنعت أن النظام جزء لا يتجزّأ من الإرهاب، كلما ساعد ذلك في إنقاذ ما يمكن إنقاذه في سوريا. مثل هذا التعقّل لا يمكن إلا أن ينعكس إيجابا على العلاقات الروسية ـ العربية.

ما حدث في أنقرة ليس مجرّد اغتيال لسفير على يد مجرم تحرّكه الغريزة المذهبية. ما حدث كان أبعد من ذلك بكثير. إنّه مؤشر لما ينتظر المنطقة في حال لم يحصل تغيير في السياسة الروسية، وهو تغيير سيصبّ في مصلحة هذا البلد، الطامح إلى دور يفوق حجمه وقدراته، في المدى الطويل.

السابق
شكرا ليخنشتاين
التالي
عندما يرنّم أطفال «موسى الصدر» لـ «ميلاد المسيح»