إختراع الهوية السورية

لم تكن الهوية السورية على ما يُرام عشية الثورة ضد بشار. كانت محمولة على نقيضين صارخين: الأول عروبي تجريدي، يسري في اللغة والخطابة والمقررات التربوية. فيما الثاني طائفي، صامت، في الضمير، لا يغيب برهة عن الممارسة السياسية والبيروقراطية. واجهة قومجية عروبية أعلى، من فوق، تقابلها في الأسفل أطرٌ مذهبية، هي أعمق من “البنى التحتية”، وأقوى منها. لذلك عندما انخرطت الثورة في معركة عسكرية مع النظام، غلبت على أجنحتها الفصائل الدينية السلفية، ومنبعها الأطر المذهبية. المجريات اللاحقة لم تبدّد هذه النزعة، بل غذّتها، وسادت العواطف واللغة والتقسيمات والتحليلات على الأسس الطائفية، والقائلة بمجملها ما يلي: ان المسلمين السنّة، وهم الغالبية العظمى من السوريين، ينتفضون على حقوقهم المسلوبة بوجه العلويين المتحالفين مع الأقليات المسيحية والشيعية. وهكذا سرت الرؤى، ونبتَت من بين أعشابها التعبيرات الطائفية المذهبية، و”المظلومية السنّية” على رأسها.

بعضهم يتصور بأن “تسْنين” (من سنّة) الثورة، وتحويل السنّة الى رأس حربة ضد بشار الأسد سوف يكسبها على جبهة الدول السنية، والغالبية السنية من بين المسلمين. ويردّدون الرقم السحري، مليار سني في العالم سوف يقومون لنجدة أبناء مذهبهم… إلى ما هنالك من ترهات. وقد رأينا في مأساة حلب كم هي هزيلة تلك الحجة. فالأحرى بهذا البعض، الحريص على استعادة وثبة الثورة السورية، أن يتوقف ويتأمل قليلاً: لربما كان “تسْنين” الثورة السورية، هي نقطة ضعف مميتة لها، وليست تلك العزْوة التي يتصورون. ولربما كان “التسْنين” أمراً حتمياً في إحدى مراحل الثورة، بفضل الجنين الطائفي الموروث عن النظام الأسدي. ولكنه الآن، بعد حلب، وما قبلها، يحتاج إلى مراجعة ملحّة.

“تسْنين” الثورة لا يعني غير أسلمتها. أي الإنضواء تحت واحدة من الرايات التي تتراوح “جهاديتها” بين المتطرفة، والأكثر تطرفاً، وتوقاً شبه متساوٍ لتطبيق الشريعة الإسلامية، وميلاً لا يقلّ “شرعيةً” لإرسال فلذات الأكباد الى عمليات الإنتحار… والثورة تأسْلمت إلى حدّ ان أبرز وجوهها من المسيحيين يشعرون بالحاجة لتقديم أوراق إعتماد رسمية إلى الإسلام؛ بل الذهاب إلى حدّ التغزّل بقانون “الذمية” الإسلامي الذي “حفظ وجود المسيحيين في الشرق”. والإنجرار خلف “تسْنين” الثورة سوف يحوّل مستقبلها إلى مزيد من الحروب الدينية، المعروف عنها انها لا تنتهي. حروب لا تقتصر على مواجهة الخصم التقليدي، المتذرّع دوماً بالتطرّف المذهبي السنّي، وإن كان جلّه مذهبياً، هو أيضاً؛ إنما حروب تعمّ الجبهات الداخلية، بين الفصائل الإسلامية المتناحرة؛ وهي لا يمكن إلا أن تكون متناحرة، إذ لا تتفق إلا على النص الديني، حمّال أوجه. هي المؤمنة بآرائها إيمانا مطلقاً، لا يمكنها الاختلاف إلا بالتكفير والإنشقاق الدموي. و”التسْنين” يمنح الحجة المجانية لكل الطامعين بسوريا، أو بمعظمها. بشار الذي أطلق نظرية “تحالف الأقليات” ضد الأكثرية الإرهابية التي لا يريدها غير سنّية، إجهاضاً للثورة. بوتين، الذي خرج إلى سوريا دفاعاً عن الكنيسة الأرثوذكسية ضد “الإرهاب الإسلامي”؛ خامنئي، المشتاق إلى مجالات النفوذ الفارسية العائدة إلى ألف وخمسمئة سنة، التي ضيعتها الغزوات العربية، فحوّل الشيعة العرب إلى حصان طروادة لعملية الإسترجاع هذه. فكانت مذْهبة الثورة أثمن الهدايا الاستراتيجية تمكيناً له؛ أردوغان الذي يحيي الروح العثمانية وزمان الحكم العثماني لبلاد الشام؛ وباتت بلاده هي “المدخل إلى الدول السنّية” بحسب تعبير درَج مؤخراً؛ اسرائيل التي تأسست على قاعدة حق الطائفة اليهودية بوطن قومي خاص بها.

إقرأ ايضًا: لا يا صديقي… هذا ليس انتصارا لحلب!

الميول الغربية، الأميركية والأوروبية، للنظر إلى منطقتنا بعيون صمويل هنتنغتون، صاحب نظرية “صراع الحضارات”، أي الغرب المسيحي ضد الشرق المسلم. ودونالد ترامب لم يقل شيئا مختلفاً مؤخراً: “الإرهابيون يقتلون المسيحيين”، مع انهم يقتلون مسلمين ايضاً، وبأعداد أضخم.

لكن الخشية الأكبر هي إمكان توالي فصول الحرب الدائرة في سوريا على هذا الأساس الطائفي المذهبي، فتنتهي بما يشبه نهاية الحرب الأهلية اللبنانية: أي المزيد من التطييف والمذْهبة، والمزيد من الدكّ لأي نظام، لأي قانون، لأية آلية… بمسامير المحاصصة بين زعماء المذاهب، وجلّهم أمراء حرب.

يصعب على المرء التكلّم عن الهوية، سواء كانت هوية غيره أو هويته، وسواء كان هذا الغير “قريباً” أو “بعيداً”. القصد ان نقد الهوية المذهبية لا يفرز بالضرورة بدائل عنها، أو تطبيقاً ناجزاً لهذه البدائل مستوحى من نظرية رائدة. فالهوية تحتاج إلى وقت، إلى مراحل وذاكرة وتجارب، إلى معارك، فهزائم وإنتصارات، إلى أدب وفنون. ولكن في ما يتعلق بسوريا تحديداً، فان تجربة التراجيديا بذاتها، هي تجربة مشتركة لدى كل السوريين، في الداخل والخارج، معارضين وموالين. اندلعت لأن السوريين أرادوا دولة تحترمهم وتحمي حقوقهم. هل هناك، كبداية، مضموناً أكثر توحيداً لأنفسهم؟ أكثر تعريفاً لأنفسهم؟ هل هناك معاني محسوسة، مُعاشة، أعمق قاعاً من كل تلك الحيوات المدمَّرة ثمناً لهذه المطالب؟ هل هناك كلمات سورية أقوى من تلك تتذكر الماضي، تسجّله، تؤرشفه، بحنين أو من دونه، ليكون لهويتها المستقبلية جذور، واستمرارية؟ هل هناك مهمات أكثر حسماً للهوية السورية الجديدة من الإعداد لحرب تحرير وطنية لطرد جيوش وميليشيات روسية إيرانية داعشية، وظيفتها إدامة السلالة الأسدية على عرشها إلى أبد الآبدين؟

السابق
استراتيجية روسيا العسكرية في سوريا تثير قلق إيران
التالي
#عين_الحلوة تشيّع ضحاياها وتخوّف من فشل الاتفاق