خيّطوا بغير هذه الإبرة

عندما كان النظام الأسدي يعدم مؤيدي تمرد عام 1980، وكان معظم عناترة هذه الأيام وثورييها يتعاونون معه، أو لا يجرؤون على فتح أفواههم والنظر إلى سيارة مخابرات في الطريق، كتبت مقالتين في صحيفة السفير اللبنانية، دافعت فيهما بلغةٍ واضحةٍ عن حق الشعب في الثورة على النظام، وحق المسلمين في طلب العدالة والحرية، والتخلص من نظام طائفي يضطهدهم، وذهبت إلى السجن. قبل ذلك بعام، قلت لممثلي الجبهة الوطنية إن نظامهم هو “أحد رتاجات الأمن الإسرائيلي”

ثم وُزّع كلامي هذا وكلام مثقفين سوريين عديدين، في شريط مسجلٍّ، تداوله السوريون بملايين النسخ. يومها، كان الشجاع من سباع اليوم لا يجد في نفسه الجرأة على الاعتراف بأنه استمع إلى الحديث. وفي عام 2003، كتبت رسالة إلى الرئيس الأميركي، جورج بوش، قلت له فيها إنك لن تجد مسيحيين في المنطقة إن غزوت العراق، بل ستجدنا مسلمين كأبناء عمومتنا وإخوتنا المسلمين، وسنقاتلك ونحن نصرخ: الله أكبر، مثلما فعل أجدادنا قبلنا، لأن الإسلام حفظ دينهم واحترم معتقداتهم، بوصية من رسوله (ص) الذي جعلهم أهل ذمته، وأوصى بهم خيراً، وقال: “من آذى ذمياً فقد آذاني”.

اقرأ أيضاً : سوريا..السنوات الخمس المقبلة
وعندما قامت الثورة التي كنت واحداً من أعضاء “لجان إحياء المجتمع المدني” الذين عملوا منذ عام 2000 لها، وركّزوا جهودهم على إعداد الأجيال الجديدة للقيام بها، وقدموا لها أفكاراً وشعاراتٍ اعتمدت ثورة الحرية قسماً كبيراً منها، زرت البطريرك الراحل هزيم، وكان صديقاً يثق بي، لأطلب منه دعم الثورة. وعندما حدثني عن خوفه من إجرام النظام والشطط الأصولي، قلت له: إما أن يكون المسيحيون جزءاً من شعبهم، فيضحّون كما يضحّي، ويتحملون ما يتحمله، أو أنهم سيقوّضون حقهم في وطنهم. وسألته: لو جاء المسيح اليوم، هل يركب دبابةً أم ينزل إلى الشارع، للتظاهر ضد الظلم والإجرام الأسدي؟ وأخبرته، بعد ذلك، أن موقف الكنيسة الخاطئ يهدّد تاريخياً من الإخاء والوحدة في بلادنا، وإنني سأدعو المسيحيين إلى رفض موقف الكنيسة، وسأدعو إلى كنيسةٍ جديدةٍ، لا تكون للمسيحيين وحدهم، بل تدافع عن الشعب كله.
وفي عام 2012، أرسلت رسالةً إلى البابا، شرحت له فيها معنى الثورة ومطالبها،وأخبرته انها ثورة للجميع السوريين، وأن الإسلام أبعد دين في الدنيا عن الإرهاب، وأن الوسطية منهجه، والحوار كان دوماً سبيله إلى التعامل مع من ينتمون إلى الأديان الأخرى، وأن المسيحيين حافظوا على دينهم بفضله، وأن أغلبيتهم ظلت مسيحية بعد مئات الأعوام من دخوله إلى سورية، وسط ترحيبهم به وبمعونتهم.
أخيراً، عندما جاء وفد من البرلمان الفرنسي إلى الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، للتحقيق في جرائم “داعش”، حدثته عن هوية الإسلام الرحمانية ورسالته الإنسانية، وبيّنت له خطأ ربط القاعدة و”داعش” بالإسلام، وأضفت أن ذلك ليس فقط تجنّياً على دينٍ، وضع دوماً السلام وحفظ الحياة والكرامة الإنسانية في رأس أولوياته، بل هو تجاوزٌ على الحقيقة والتاريخ. وختمت بأن خير وسيلةٍ لمحاربة “داعش” و”القاعدة” تكمن في معرفة الإسلام واحترامه، والحوار مع المسلمين، كما في احترام حقوقهم، وتحاشي الأحكام المسبقة في التعامل معهم، علما بأن الإسلام يمدهم بالقدرات الروحية والطاقات المعنوية التي تمكّنهم من مقاومة الظلم، مع الجنوح الدائم إلى السلام، في آنٍ معا.
أذكر هذا لأقول: إن سلام مجتمعنا وأمنه يتوقف على تناغم مكوناته، وإن الإسلام هو ضامن وحدته، لأنه مصدر ثقافته وحضارته وهويته، ولعب دوراً تاريخياً فريداً في تشكيل وعيه، وصنع مصيره المشترك. وقد حرصت دوماً، كمثقف يعمل في الشأن العام، على تأكيد أن الإسلام كان دوما أداة مجتمعنا للدفاع عن وجوده، في أوقات الخطر والتهديد، كما قلت لباتريك سيل في حوار تلفزيوني.
هذه النظرة من الأسس التي بنيت موقفي عليها تجاه الثورة. لذلك، ساءني نجاح في استغلال اطراف محسوبةٍ على الإسلام لضرب الثورة ومحاربة المطالبين بالحرية والقضاء على استبداده، وأغلبيتهم الساحقة من المسلمين الذين دفعوا ثمناً فادحاً لنهج هؤلاء، المجافي لوسطية الدين، وركّز جهده على تشتيت طاقات شعبنا، وحال دون توحيدها لمواجهة المخاطر الخارجية والمآزق الداخلية، وتبين أنه مخترقٌ من جهاتٍ معاديةٍ، كإيران وروسيا، وله صلات بالنظام.

هذا النهج الذي يقوّض ثوابت تاريخية، نظمت علاقات المؤمنين ببعضهم، دأبت على رفضه، وقلت دوماً إنه عاجزٌ عن مواجهة تحديات عصرنا الكثيرة، ولن يحقق شيئاً غير شقّ مجتمع المسلمين إلى أقليةٍ مؤمنةٍ تنتمي إليه وأغلبية كافرة أو مرتدةٍ تستحق القتل، يؤمن معظمها بالإسلام الوسطي، فلا عجب إن دان بعض ممثليه نهجها وعنفها، ومحاولاتها اختلاق فتنٍ بين إخوة القضية والمصير، ممن لا يجوز السماح بوقوع أي خلاف بينهم.

اقرأ أيضاً : هل انتهت الثورة بسقوط حلب؟
أخيراً، أعتقد جازماً أنني كنت أحد الذين أوصلوا العلاقة بين الإسلام ومعتقداته، بما في ذلك غير الديني منها، إلى معادلة تخدم الدنيا والدين، فلا يعتقدنّ أحد أن باستطاعته وضعي في مواجهة الإسلام والمسلمين، أو دفعي إلى التنكّر لما هو راسخٌ في روحي وكياني من ثقافته وحضارته وتسامحه وإنسانيته.
ملاحظة: شاهدت قبل قليل جوقة كنسية حلبية، وهي تنشد “طلع البدر علينا”. وكان رجل دين مسيحي قد أطلق صوته بالأذان داخل كنيسته، رداً على منع الصهاينة الأذان. قبل أيام، روى لي صديقٌ يعمل في محطة تلفاز كبيرة، أنه سافر من باريس إلى جنوب فرنسا لتسجيل حديث مع شيخ مسجدها حول الثورة السورية، لكنه بوغت به يخبره أنه لن يسمح له وللمصوّر الذي معه بدخول المسجد. استفسر عن السبب، فقال له: أنت شيعي وهو نصراني.
هناك ضلال كثير في فهم بعض المسلمين دينهم الرحماني العظيم.

السابق
من حلب إلى بيروت.. انتصار القتلة
التالي
قتل السفير الروسي: الآتي أعظم