في انتظار انتصار الهزيمة العربية

حتى تاريخ غير مرئي، سيظل التأريخ العربي مشغولاً بالحديث عن الهزائم العربية، منها في زمن السلطنة العثمانية خصوصاً، والأقرب زمنياً في عهد الانتداب تحدياً، والمعاصر الذي ما زال يجرجر أذيال الخيبة منذ معركة ميسلون الفاصلة التي ثبتت هزيمة التطلع إلى الانعتاق في سورية، ومنذ معركة 1967 التي رسخت التخلف العربي كسمة أساسية لاستجابة البنية العربية العامة، وبلورت العجز النظامي الذي ارتدَّ إليه النظام العربي العام، كفاتحة للتدهور المتدرج من أعلى الشعارية التحررية والتحريرية، إلى حضيض الأيديولوجيا القمعية التسلطية التبريرية. هزائم متوالية، ومحاولات نهوض واستنهاض قاصرة، واستبداد بالجملة، تلك هي الحصيلة المتعددة الرؤوس التي آل إليها واقع الحال في فضاء الديار العربية.

بعد الثورة العربية الكبرى التي قادها الشريف حسين من الحجاز، كانت المؤامرة التقسيمية الكبرى التي جاء بها اتفاق سايكس بيكو، وعلى أنقاض الحكم بدولة عربية كبرى، أسس وعد بلفور الذي أعطي «لشعب الله المختار» لدولة الاغتصاب في فلسطين، ولم ينفع النداء بفيصل ملكاً على سورية ولبنان، ولم يستطع قبر صلاح الدين الدفاع عن الراقد فيه، وتبخرت حركة سلطان باشا الأطرش، وقامت كيانات أساسها الهزيمة، وظاهرها الفوز باستقلال وبعلم ونشيد، لكن هشاشة ما قدمته النخب التي ساومت على استقلالاتها وفازت بصيغ مختلفة منها، ما لبثت أن انهارت تحت ضغط واقع البنى المشدودة إلى عصور ما دون الدولة وما فوق القبيلة بقليل.

ما دون الدولة وما فوق القبيلة، يمثلان اليوم المشهد العربي برمته، ووسائل الاحتلال إرث الأجهزة القمعية التي بنيت تحت أعين المواكبة الدولية وبرعايتها، وواسطة عقد اللحمة القمعية المستبدة خطاب ما دون القبيلة، مما لا يبتعد عن حصيلة عقد القران بين السلطان ومفتي الديار، هذا القران الذي ظهــر أنه كان غير شرعي وما زال، على رغم أنف كل «الاجتهادات» غير العقلية، وكل «الفتاوى» التي استبدل أغلب أصحابها دينهم بدنياهم، فكان لهم مع الظلم وقفة، وكان لهم مع الحرية عداء، وكان لهم مع شعوبهم خصام مبين.

لعل الصورة الراهنة تعيد تقديم أسماء الدولة العربية بعباءة اسمية من مفكرة اليوميات السياسية، هذا التقديم الجديد يستطيع أن يسائل الخلافة الأموية مجدداً في مركزها الدمشقي، وأن يسائل الخلافة العباسية في معتصمها البغدادي، وأن يعيد إحياء الدويلات والصراعات التي ولدت في غفلة احتجاجية عن عين الخلافتين، وورثت لاحقاً أساليب وطرائق ووسائل إدارتهما شؤون الرعايا، حين كانت المعادلة من طرفين: «ما أُعطي الحاكم فهو هبة من الله، وما أعطى الحاكم فهو هبة منه». السلطة الممنوحة بقرار إلهي ورثتها العائلة الحاكمة السورية، ونظيرتها العباسية ورثتها المذهبية المتسلحة بحق إلهي آخر، والاعتراض على الحاكم، ذاتياً ومذهبياً وطائفياً ومذهبياً، لا يتعدى كونه خروجاً على أمر «الحكمة الإلهية»، مما يستدعي خراباً مثل خراب حلب، ودماراً مثل دمار الموصل، وقتلاً وسحقاً واقتلاعاً مما هو معروف ومعروض على الشاشات من ريف حمص إلى جبال سنجار إلى المدن الليبية المنكوبة.

وعندما يعزّ على الحاكم العربي اليوم النصر الخارجي ضد المتربصين بمصالح بلده، وبحياة وعيش شعبه، فإنه يلجأ إلى المعركة ضد المعترضين على حكمه، والمطالبين بتطبيق شرعة حقوق الإنسان في مندرجاتها الوطنية والمفهومية العالمية. الحاكم العاجز عند الاستجابة لتحدي النهضة بشعبه، يهرب إلى تحدي النكبة السهلة، فيلقي بأحمالها على كاهل هذا الشعب. ذات الحاكم الذي كذب اشتراكية وتحريراً وقومية، يمارس صدقه الاستبدادي البشع قتلاً وتدميراً وإلغاء لنسيج المجتمع الذي أقسم على حمايته في حياته وفي إطاره الجغرافي الذي يحمل اسم الوطن السوري أو العراقي أو الليبي…

إقرأ أيضاً: انتصار الأسد: تبييض الجريمة بتسعير الحرب المذهبية

وبعد بيان الكذب النظامي، وفي سياق الصدق مع الذات الشمولية الاستبدادية يتهيأ الحاكم العاجز المهزوم لإعلان انتصاراته. الانتظار في الداخلي وعليه، تعويض لغي نرجسي عن واقع الهزيمة الشخصية والسياسية التي يعرفها كل حاكم استبدادي عربي اليوم.

وما ضاع من شرعية الحاكم السياسية والشعبية، لن يعوضه مغتصب السلطة غير الشرعي سياسياً وشعبياً، بآلة الدمار أو بقوى النظام التي صارت خارجية، بمعنى الخروج على المهمة الأصلية المناطة بها: حماية الشعب وحماية دياره.

ماذا بقي من سورية؟ يقال سورية المفيدة! ما فائدة سورية التي يعادل قصها ولصقها اليوم، من دون سورية التي عرفناها ذات يوم؟ وماذا بقي من العراق الذي حرص الشاعر على ألّا يكسر عينه بعد أن فقأ المدّ المذهبي كل العيون؟

إقرأ أيضاً: سوريا..السنوات الخمس المقبلة

وماذا بقي من سيرة الإصلاح والثورة والتمدن والنهضة واللحاق بالعصر، بعد أن غزا برابرة النظام الحياة التي حاولت تفتحاً، وبعد أن أعاد الغزو النظامي ونظيره الإرهابي، إحراق مكتبة بغداد مراتٍ ومرات.

هولاكو اليوم دار داخلياً. قرار الغزو يصدر من مقرات الحكام الذين بالغوا في الغلو والإقصاء، حتى صارت ذواتهم أسماء للأوطان.

غداً تسيل خطى الانتصار، أقفلوا آذانكم بإحكام، فالاستماع إلى الحاكم الكاذب المستبد، هزيمة، شعبية تضاف إلى سلسلة الهزائم العربية.

السابق
اقتراح للرئيس عون: جهاز أمني لمكافحة الفساد برئاسة قاض محترم
التالي
عاصفتان في لبنان: «نويل» في ديارنا و «جيمي» ضيف الميلاد!