تدمر بيد «داعش» مجدداً: اللعبة المملّة بين النظام وبين عدوّه المرغوب فيه

«داعش» يعيد السيطرة على مدينة تدمر السورية بعد أكثر من سنة على اندحاره منها. يحمل الخبر ذهولاً وغرابة فاقت غرابة كل أخبار الأسبوع الفائت، لا بل كل أخبار العام الموشك على الانصرام! ففي الوقت الذي يندحر التنظيم على كل الجبهات في سورية وفي العراق، يظهر فجأة في تدمر. المسافة الصحراوية بين أقرب مدينة يحتلها التنظيم وبين تدمر تتجاوز مئات الكيلومترات، من المفترض أن يكون التنظيم قد قطعها في غفلة عن المراقبة الجوية في هذه الجغرافيا السهلة والمنبسطة.

من المؤكد أن «داعش» ليس في موقع المبادر، عسكرياً على الأقل، فالخطوة إلى صعوبتها الميدانية تحتاج إلى رصيد معنوي لا يحوزه مقاتلوه في ظل هزائم وفي ظل شح كبير في الذخائر.

إذاً، اللعبة المملة عينها بين النظام السوري وحلفائه الروس والإيرانيين من جهة، وبين «عدوهم» الذي يرغبون في مده بمزيد من الحياة في ظل اقتراب هزيمته من جهة أخرى. لا شيء يمكن أن يُفسر السقوط الغامض لتدمر بيد «داعش» سوى رغبة في إفساح المجال له ببعض الغنائم والذخائر والضجيج، حتى تُستأنف «حرب الإرهاب» على السوريين.

وفي مقابل وضعية «داعش» الانكفائية وتعرّضه لضربات على كل الجبهات التي يخوض عليها حروبه، فإن قوات النظام السوري والحلفاء الإيرانيين والروس في موقع مختلف تماماً، فهم يتقدمون على معظم الجبهات التي يخوضون حروباً عليها، والعالم يضرب صفحاً عن مجازر يرتكبونها من البر والجو، و»داعش» الذي تقدم إلى المدينة، لم يفعل ذلك بقوة جرارة، إنما على نحو انقضاضي (نظرياً) من المفترض أن يترافق مع اختلال في موازين القوى لمصلحته، وهذا طبعاً ليس واقع الحال. وما قاله الروس لجهة أن «داعش» استقدم إلى تدمر نحو 4 آلاف مقاتل، قدموا من الرقة، فهو مخالف لأبسط قواعد الدفاع، ذاك أن التنظيم يعرف أن سحبه هذا العدد من المقاتلين من عاصمته السورية يُسهل عملية هزمه في معركة الرقة الوشيكة.

لن يقوى أي خبير عسكري أو ميداني على تفسير ما جرى أول من أمس في تدمر. أن تضع الخريطة أمامك لتتوقع من أين تقدم «داعش»، فلن تجد إلا صحراء مترامية ومنبسطة تقدّم مقاتلو التنظيم عبرها إلى المدينة. والتقدم المريب هذا تم في ظل مستوى منخفض من المعنويات على كل الجبهات. عليك إذاً، أن تتخيل نوعاً من الحروب غير المنطقية وغير الواقعية. عليك أن لا تستعين بـ «حس المؤامرة»، فالأخير يحتاج إلى قدر أكبر قليلاً من الذكاء. ليس ما جرى مؤامرة، وليس حبكة تراجيدية ركيكة. ثمة وضوح لا يحتاج إلى أي قدر من الفطنة. ربما هنا بالضبط تكمن الفطنة، أي في أنها لا تخفي صفاقتها، ولا تنتظر من يُصدقها. فالنظام وحلفاؤه يعرفون أن أحداً لم يعد يصدقهم، لكنهم يعرفون أيضاً أن العالم يقبل ما لا يُصدق. وهذا ما يعولون عليه.

الشعور بأن «داعش» على وشك أن ينتهي، يُقلق «حلفاء التنظيم الموضوعيين». فهوية حربهم و»شرعية» مقتلتهم ستفقدان موضوعهما الأثير. التنظيم سيموت قبل أن يكملوا مساراً بدأوه، وهذا سيصعب عليهم المهمة. لا بأس بـ»داعش» ضعيف ويترنح، وإن احتاج الأمر الى مدّه بسلاح وبانتصارات موضعية. الخبرات كبيرة في هذا المجال، و»الإسلام الجهادي» سبق أن استجاب. العالم لن يصدق مسرحية تدمر، ليس لفطنة يتمتع بها، بل لوضوح المشهد وبساطة المعادلة. العالم لن يُصدق لكنه سيقبل بنتائجها، وستمضي أيام قليلة حتى يمضي هذا العالم باستعادة ما جرى هناك بصفته نصراً روسياً على الإرهاب. فضحية هذه المسرحية، وهي نفسها ضحية السوخوي في حلب، أضعف من أن يقف العالم إلى جانبها في مواجهة قوة الجلاد وصفاقته. ها هو فلاديمير بوتين يقاتل «داعش» في تدمر. هذا ما سيردده دي ميستورا أمام وفود المعارضة السورية، وأمام حلفائهم الأتراك والعرب. ولن يجد أحد ما يرد به على هذه الكذبة المملة، ذاك أنها جلية إلى حد يعطل القدرة على دحضها.

كذبة «تمدد داعش» ليست مملة وحسب، بل إن قوتها تكمن في قدرتها على بث الملل في عقل مستقبلها. فمنذ أكثر من خمس سنوات، ونحن نكرر التراجيديا نفسها. أخرج النظام السوري مئات الجهاديين الإسلاميين من سجونه، وإذ بهم يصبحون قادة الفصائل التي تقاتله على معظم الجبهات. هذه الحقيقة موثقة بالسجلات والصور والوقائع. تكرارها يدفع حقاً الى السقوط في الملل.

أشرف الإيرانيون على سقوط مدينة الموصل بيد «داعش» في ليلة واحدة ومن دون أي مقاومة من جانب عشرات الآلاف من الجنود العراقيين. وهذا أيضاً موثّق عبر لجنة التحقيق البرلمانية العراقية التي تولت التحقيق بالسقوط المريب للموصل بيد «داعش». تكرار هذه الحقيقة يُشعر المقدم عليه بالإرهاق، ذاك أنها أقرب إلى البديهة، لكنها بديهة لم يُبن عليها سوى الصمت.

إقرأ أيضاً: #تدمر وسرّ سقوطها السريع بيد «داعش»!

أشرفت المخابرات الروسية على مفاوضات معلنة مع «المجاهدين الشيشانيين» المختبئين في جبال القوقاز، فمنحتهم جوازات خروج إلى الجهة التي يرغبون، في مقابل تعهّدهم بعدم العودة إلى روسيا. مئات من هؤلاء ذهبوا إلى سورية بمعرفة السلطات الروسية. ووثقت وكالة «رويترز» شهادات من هؤلاء ومن أهلهم ومن ضباط روس تثبت ذلك، ونشرت صوراً لجوازات السفر الجديدة التي أعطيت لهم. وهذا أمر لم يعد جديداً وتتعامل معه كل الجهات الراغبة في فهم الوضع في سورية وفي تقدير حجم المشاركة القوقازية في القتال إلى جانب «داعش» وأخواتها في بلاد الشام.

لا قيمة لكل هذه الوقائع في الوعي العالمي الراغب في تقدير شكل الحل في سورية، ذاك أن القوي هناك يفرض منطقه، على رغم هذا الوضوح. لا بل إن الرغبة العالمية في القضاء على «داعش» بفعل استهدافه معاقل «الحداثة» في أوروبا وأميركا، وحواضرها في تركيا ومصر والعالم العربي، صارت مدار تساؤل فعلي. القضاء على «داعش» في ظل غض النظر عن دور «التحالف الثلاثي» الروسي والإيراني والسوري النظامي، يدفع المرء إلى التساؤل عن مدى وعي الغرب مصالحه. فتفادي مواجهة التحالف الثلاثي هذا في ظل انكشاف دوره في بعث الحياة في شرايين التنظيم، لن يخدم مهمة القضاء على «داعش». تماماً كما لن يخدم هذه المهمة التغاضي عن أدوار موازية، ليس أقلها القرار التركي بفتح الحدود أمام مقاتلي التنظيم للتوجه إلى سورية، أو عن دور حكومة النهضة في تونس بتسهيل مهمة انتقال «الجهاديين» إلى ليبيا وسورية للتخلص من عبئهم في الداخل ولمساعدة حلفاء في الخارج.

إقرأ أيضاً: قوات النظام تنسحب من تدمر.. وهجوم روسي بغاز السارين

الأرجح أن الغرب مثلنا أيضاً، أي أنه سقط ضحية دهاء أقوياء الشرق وأشراره، لكنه، أي الغرب، وهو القوي والمتفوق، أشاح النظر عما يحمله دهاء أقوياء الشرق وصفاقتهم من انعدام للعدل. لا بل إنه راح يقبل بهذا الخلل الأخلاقي طالما أنه لن يصيب قيمه مباشرة. وهذا خطأ ليس أخلاقياً وحسب إنما أيضاً تكتيكي، ذاك أن «داعش» وصل إليه، وأن يقول دي ميستورا أن بوتين يقاتل «داعش» في سورية، فإن الغرب يعرف أن ممثله لا يقول الحقيقة، وأن موسكو وكذلك طهران ودمشق تمد التنظيم بأسباب البقاء بالمعنى المباشر، وأن حربها على السوريين لن تستقيم من دون «داعش». وهذا ما يفسر سقوط تدمر مجدداً بيد التنظيم.

السابق
جثة طفل في النفايات في سينيق
التالي
دمشق ترد على «جنبلاط» وحزب الله يحذّره