مهلاً على التسعين…

الكاتب جهاد الزين
ليس من الشائع أن نقرأ شعراً بهذه الطراوة يكتبه مفكر ومثقف كبير تجاه والده. طراوة كلها حنين وفيها شيء من نعومة الأمومة . "فلا وداعَ ورأسُكَ المكشوف في النعش المسجّى عند غرفتك القديمةِ رأسُ طفلٍ نائمٍ لا مَيْتْ وأنا أبوك، وفي يدي طفلي... وأعجز أن أراكَ وأن أراني."(انطوان قربان)

أليومَ يختلفُ الوداعْ

 

أليوم يختلف الوداعُ
فلا وداعَ ورأسُكَ المكشوفُ في النعش المسجّى
عند غرفتك القديمةِ رأسُ طفلٍ نائمٍ لا مَيِّتٍ
وأنا أبوك الآن أحْمُلُ في يدي طفلي… وأعجز أن أراكْ

أليومَ يختلف الوداعْ
أليومَ يختلفُ الوداعُ
فلنْ أعودَ تتابعُ الجَدَلَ القديمَ معي…
وكأننا، الاثنين، مسؤولان عن كل الزوايا الحائرهْ
وتريدني أن أقبل الأشياء قبل خسارة الأشياءْ…
مهلاً على التسعينْ
مهلاً على التسعينَ عاماً كمْ مررْنَ على القرى
وعلى المدائن والمدارس والمقاعد والمكاتبِ..
كمْ وكمْ
ساورتَ أحلاماً وآلاماً
وصمتُكَ غائصٌ في صمتهِ…
الآن أعرف كم تعزُّ عليكَ يا أبتي هشاشةُ ما حملتُ
وكمْ ستحذفُ من كتاب الشوق أعمارا وأسماءً وأشجارا.
هلْ أرفعُ الحجرَ الوفيَّ على جبيني
الحجرَ الحنونَ كأنما عيناك من حجرٍٍ حنونْ
كم كنتَ ترغبُ أن نراك ببدلةٍ رسميَّةٍ في النعْشْ تَحْمُلُ
ربطةَ العنق الأنيقةَ مثلما أمضيتَ عمرك جاهزا للناس
لا فَرْقَ لديْكَ أقاصداً جبشيتَ أو بغدادَ أو بيت الأقارب جنبنا
أو ذاهباً من شارع الحوت الطويل إلى بدارو صوب مكتبك الذي
حرَمَتْكَ منه بنادق الحرب التي لم تعترفْ بوجودها
حتى وأنت تجرُّنا خوفا علينا في الفنادق والبيوت العابرهْ
أمضيتَ عمركَ حاضرا في الناس
مفترشاً معاً أفياءَ وحدتكَ العنيدهْ
شاركتُ فيكَ جميع أوردتي ولكنّا انفصلنا دائما …
فأنا مواضيك الطوالُ ولستَ ماضيَّ القصير وما سواكَ سوى سوايْ
وقدِ انفصلنا دائما…
إني أحبِّذُ أن تمسَّ يداك أحجارا ودارا…
حجرَ الذكاء هنا
حجرَ العَياءْ
حجرَ اللقاءْ
حجرَ الخواءْ
حجرا يجيء كأنه طيرُ الزمانِ
يروح يُشعِلُ في تجاعيد الصلابة نارَ من سبقوكَ كي يَبقوا على جدرانها
خطّواالشقوق ورتّبوا في صخرها أوهامَهمْ
لكأنما أحجارُها صفحاتُهمْ .. وغبارها مِلْحٌ على أوهامهمْ
أَفَيا كتابَ الشوق سجِّلْ كلَّ يومٍ سوف يأتي ما عليك من التجاهل والتغاضي والجفاءْ
أَحْرِقْ سطورَ الذاكرهْ
وامْحُ الأغاني العاقره

 

إقرأ أيضاً: عدّ يا أبي
لقدِ اختلفنا دائما
لكنّ أُنْسَكَ لنْ يعوِّضَهُ مكانٌ او زمانْ
إلا قليلاً قرب قبركَ كي نعيدَ حوار جيلَيْنا، مزاجَيْنا ونملأه بفاكهة القصائد والنكاتْ
أُنْسٌ سيرحل في متاهات العدمْ
أُنْسُ الأبوةِ سقفُها المخفيُّ والوهميُّ لا ندركْ متانتهُ …
ولنْ نعطيه من أوقاتنا ما تستحق ظلالُهُ الحجريَّةُ الخضراء…
الآن قربك، قرب قبرك سوف أُغلقها الحكاياتِ التي لم تنتهِ…
وأسُدُّها فكأنها البئر القديمة في زوايا الدار تخزُنُ ماءها عذباً وينساها الزمانْ

مهلاً على التسعينَ
ما رفّتْ جفونُك إذْ شددْتَ على يدي مرِحا بلا صوتٍ
لأنَّ أصابِعك الهزيلةَ كانتِ المرحَ الأخير لديك ْ
مهلا على التسعينَ ليس يُجِفُّها خطأٌ و ليس يضيرها سهوُُ
هيَ لحظةٌ بل عمْرُ… لا مثوىً يواريها ولا جسدٌ ليهجرها …
هي لحظةٌ-عمرُ…
عُمْرٌ ستعْهَدُهُ إليَّ كأنّه مخطوطةٌ لكتابكَ الآتي ولم تُصْدِرْه بعدْ
لا طبعةٌ أولى… ولا خَمْسٌ ولا عشرون ْ
هي نسمة الحِبرِ العليلِ، سُلالةُ الكتب العتيقةِ والجديدة في دمي،
ألَمُ الحروف، عمامةُ القلق الوجوديِّ التي سألتْ ولمْ تُجِبِ…
جَدّي وذاك الصيف نشرب شايَهُ النجفيّ والنقدَ الشجاعَ
لمنهج التعليم في الحوزات… وأنتَ تكتبُ بَعْدها أطروحةَ القانون
في باريسَ عن فقه التسامح في عصورٍ… قبل أن يَنْحَطَّ فِقْهُ…

أليومَ أعرف كيف كنت تُهَندِسُ الوقت العصيَّ..
أرى صباكَ محلِّقا من شرفة الشيخوخة الأعلى
وما رفّتْ جفونُكَ إذْ قبَضْتَ على يدي…
هي قبضةٌ بل عمْرُ لم أحسبْ ستُفْلِتُ بَعْدُ من قدَري
ولم أرغبْ لأن جميع أعذاري ستصبح حينها
ورْداً على مثواكَ تقْبلُهُ
فيمحو نفْسَهُ كلُّ التباسٍ مُقْبِلٍ
من قلب ماضيَّ السحيق.

اليومَ يختلفُ الوداعُ فلا وداعَ ورأسُكَ المكشوف في النعش المسجّى
عند غرفتك القديمةِ رأسُ طفلٍ نائمٍ لا مَيْتْ
وأنا أبوك، وفي يدي طفلي… وأعجز أن أراكَ وأن أراني.

 

إقرأ أيضاً: «الإسلام فـي شعر المسيحيين» لفارس يواكيم

السابق
الطقس ماطر… والخير لقدّام
التالي
بالفيديو: أسد يلتهم مدربه!