«في فم الغراب» ليوسف بزّي: ثورة الشّاعر

يوسف بزي
منذ بداياته الشعرية، كان الشاعر (والصحافي والكاتب) يوسف بزّي، مسكوناً بهاجسين اثنين: هاجس التمرّد والثورة على اللّغة فيما هي سلطة تقمع تفرُّدَ المبدع الحقيقيّ؛ وهاجس التمرّد على كلّ سلطة قامعة، في الواقع المعيش (الواقع المرجعيّ الذي يسمدّ منه عالم قصائده)، الأمر الذي مكّن يوسف بزّي من أن يكون ثوريّاً في شعره، الذي يمور ويضجّ بنقدية جارحة.

يوسف بزّي شاعر اعتمد – ومن أجل أن يكتسب هويّته الإبداعية الحداثيّة، على صعيد الفاعلية الشعرية – الذهاب إلى الحدّ الأقصى، في اشتغاليّته على جماليّةٍ فنيّة، قوامها رؤية شعرية للعالم، استطاعت جمع شمل الشكل إلى المضمون، في بناء القصيدة التي (لتميُّزها بلغة شعرية جديدة، بل وقول شعريّ جديد، أي على الجملة هي لغة بكر) كرّسته علماً من أعلام الحداثة الشِّعرية العربيّة، في عصرنا الراهن. فاللغة الشعريةُ لدى بزّي، يصِفها شعراً بقوله: “اللغة تترك حقائبها في السينما/ لا وصية ولا ميراث”.

اقرأ أيضاً: كتاب «سوسيولوجيا العنف والإرهاب»: لماذا يفجّر الإرهابي نفسه؟

ويُتوّج بزّي ثورويّته هذه، في ديوانه الجديد، الصادر حديثاً، تحت عنوان: “في فم الغراب”، (عن دار رياض الريِّس في بيروت). ذلك أن هذا الديوان يحمل الدعوة (بالتداخل التصريحي والضمني) إلى الثورة الفعلية والجذرية، على من وما جعل وطناً بأكمله “في فم الغراب”، أي في قلب الفجيعة. ومعلوم ما يمثله الغرابُ، هذا الطائر الشديد السواد، وما يرمز إليه، من مأساوية فاجعة، أفليس هو “غراب البين” (بالمنطوق الشفويّ)؟ ذلك أن العالم الشعري لـ”في فم الغراب”، هو عالم أشبه بمقبرة جماعية، وضعته ظروفه الخاصة “في فم الغراب”. لذا كان على الشاعر الذي يؤمن – إيماناً مطلقاً – بأنّ الكتابة – كما يمارسها هو أساساً – هي فعل مستقبلي صدع بفعل الكتابة، التي يضمّها هذا الديوان لدفع أهل وطنه، أي، لدفع شعبه، إلى التحرّر من مأساويّته، والحفاظ على استقلاليته.

ولذا فالشاعر يعلن صراحة: “جئت بالمستقبل الميت ومددته هنا/ فوق التراب المجنون./ ومن عمق الحدائق المُزهرة/ أبدأُ بلداً،/ أُؤسّس خلفه مدافن للغرباء”.

كتاب ليوسف بزي
ثمّ يتابع موجّهاً الكلام إلى حبيبته قائلاً لها: أؤسسُ “حُبّاً…/ أضع سريراً في آخر الطريق/ سرير لك تحلمين فيه/ أن كل شيء سيكون واضحاً كحُلُم…/ … جئتُ بالمستقبل الميت/ أحمله كثمرة وحشيّة…/ ومن أجل أن أكتُبَ/ سأُطالب بميراث المغدورين والأجنّة/ والذين ضاعوا بعد كل مرفأ./ كثيرون كبجعات مذعورة…”.
على أن كل ذلك وما إليه، حصل “في بلدٍ يُشبه البئر”، في لبنان بلد الشاعر، حيث “بدأ كل شيء” أي كل ما يمثّله، أبرز تمثيل “الصبر الجماعيّ ونفاد الصّبر الجماعيّ” بحيث يتمرأى صوت الـ”أنا” (أنا الشاعر)، في هذا الدِّيوان، بصوت الـ”نحن” (الجماعة)، تمرئياً تكاملياً، اتحادياً فيضحى الصوتُ صوتاً واحداً أوحد لمواجهة الظُّلم المهيمن: “يائسون… يائسون، مفعمون بالتفاؤل،/ كما الشغف الذي يزدهر عند المنعطفات./ أتينا من سهوبٍ بكائية…/ نطوفُ الآن كأضواء بين القرى الفقيرة/ بالكلمات الفقيرة/ التي تتحوّل شؤماً أعمى/ ولن تُقال إلا مقايضة بالدم./ كل حيّ فينا يسير مقتفياً موته/ فرحاً بخفقان قلبه…/ كلّ حيّ منّا يتعهّد صوتَ أخيه…”.

وهكذا، فإن قرّاء “في فم الغراب”، تواجههم: “أغنية مليئة بالوعود، مليئة بالأسلحة/ يردّدها الأذكياء والحمقى/ رجال الحصاد والعاطلون/ يرددها كل واحد يخرج الآن/ جاذباً معه حياته/ المعبّأة بالإهانات والمذلّة/ والرِّياء الاضطراري،/ ليرميها عند الناصية،/ بوجه الثكنات/… ليكون هكذا، كل واحد هناك/ تحت الشمس المرتجفة/ شاباً مضرجاً بقميصه الجميل/ بلا ميتافيزيق خالي الوفاض/ نقيّاً مثل غروب،/ مثل نهرِ يتدفق الآن./

ونُشير إلى أن شعرية هذا الديوان، تتوهج بفضاءات زمانيّة ومكانيّة، تخدم منحاها الثورويّ (بانتظار الفجر الموعود، والواعد، في الوقت نفسه، بالحريّة والكرامة الإنسانيّين): “أحلُمُ حتّى مطلع الفجر”. فاندرجت، هذه الشعرية بمتخيّلها الشعريّ الجامع، تحت عنوانين رئيسين: “تمرين حرّ بين السياسة والمعنى”؛ و”موسيقى الحياة العامّة”؛ وهي شعرية تتجلى في إحدى عشرة قصيدة تتقدّمها القصيدة الإهدائيّة إلى حبيبة الشاعر.

ومن الديوان: المختارات التالية: من قصيدة “الأب ينشقّ عن جذعه باحثاً عن الهدف”:
أعود إلى جنازة الرجل الأول،/ إلى عذابات غير مستعملة،/ إلى قلبي الربيعي../ أسحب ميراث الطائفة من جيبي/ أوزّعه أرباحاً للعاهرة والمهرّب معاً/ أزرع ممثلاً على خشبة مسرح/ مضاءة باعترافات دموية لضابط سابق/بجانبه رجال يحملون أرشيفاً ضدهم/ هو على شكل حيوانات/ منتفخة تحت الحرارة/ ويتألمون من الحب الذي لا يخاف/ وها أنا مجدداً أراقص زوجتي في المنام/ لاعقاً إصبعها الملوَّن بمسحوق/ ألف رجل بريء/ وأفكر/ بالخلايا التي اشتغلت/ طوال تاريخنا الشخصي،/ بجيل جديد يتقدم/ مع الكمبيوترات والسندويشات/ وأمثولات المتاحف.

من قصيدة “الذين ماتوا بسببي يطيرون الآن”:
أتذكَّرُ أبي الذي فلعته قذيفة عام 1975،/بائع الخبز تحت الركام،/ المكنسة بيد الأم اللئيمة،/ والمعدومين على حائط الكنيسة./ يأتي برد/ وتدقّ الباب عرّافة موشومة الذقن/ تمسك كفي وتهمس: “الحياة تقريباً”، “الحياة تقريباً”/ والمرأة ذاتها ببطنها الكبير، مع ماء كثير وحبور/ تحمل قلبي بيديها الاثنتين… ليخفق من جديد/ في ذاك الصباح الذي يتوسع/ إذ ينهض الناس شقة بعد شقة/ كالحجر المتدحرج بلا فاعل،/ كالعاصفة التي تضمر التعديلات الجذرية،/ فتنتشر تنهداتهم الممتزجة بالأسى.

اقرأ أيضاً: حسن داوود 1/2: الماضي هو الذي دفعني إلى الكتابة

من قصيدة “الأشرفية” (أحياء شرق بيروت)
من هنا، عند تلة “الأشرفية”/ حيث الإيمان يأخذ مجراه…/ أرى المرفأ بصومعات البذور، المسلخ/ لمبات كل المناطق،/ والقوارب الغارقة من ثقل الخطأ.
من هنا، في الخامسة صباحاً/ مع أصوات كميونات تنقل ماشية/ حيث لا يمكن تبذير خاطرة/ ولا شقُّ ذكرى/ أبقى محدقاً بحافة الجسر/ متأنياً بأفكار الثأر التي لم أنجزها/ منتظراً خروج السياح من سفينتهم/ منصتاً إلى الدوي المعدني/ للسيارة الهاوية إلى تحت… في الخامسة صباحاً.

السابق
دوللي شاهين تواجه انفصالها الثاني عن زوجها المخرج علوان
التالي
هجوم «السفير» على باسيل لسجن عون في محور إيران!