وما يضِلّونَ إلا أنفُسهم، في القصير

حقاً، رسالة العرض العسكري لـ”حزب الله” في القصير السورية المحتلة، رسالة “واضحة وصريحة” (نعيم قاسم، نائب حسن نصر الله)، لا تحتاج إلى “تفسيرات”. ولكن أي رسالة؟ أي تفسيرات؟ ان الحزب أصبح جيشاً منظماً، “شرعياً”، ولم يَعُد ميليشيا؛ وإنه متّفق مع بشار الأسد، وان الجميع في لبنان ساكتٌ عن تورّطه في سوريا؛ وانه كبر حجمه حتى أصبح أكبر من وطنه، صار “قوة إقليمية شرعية”، يتعفّف عن الصراع الخسيس على حصص الوزارات؛ فوّض أمرها إلى وكيلة وشريكه في “الثنائية الشيعية”، ووضع شروطه بأطراف شفاهه، فضلاً عن الفيتوات على مستوْزرين بعينهم؛ بهذا الجميل العظيم الذي يفعله الحزب تجاه بلدهم الضئيل، لبنان، بأن “يحافظ” على أمنه، بمحاربته لـ”الإرهابيين التكفيريين”…

في المقابل، يعطي “حزب الله” الحرية لكل المنكبّين على إلتهام الخيرات القليلة المتبقية في لبنان، يتركهم يفسدون، ويطلق العنان لإدانتهم، هو صاحب الأخلاق والمناقبية، من دون ان يقارن بين فسادهم، اليسير، وفساد وكيله، التوراتي، أو حتى فساده هو… في المقابل، يترك الحزب لبنان ومؤسساته يهترؤون، يفرغون من معانيهم، من قوانينهم، يخطب بالنزاهة والعفّة، ولا يحاسب… من دون ان يهمل التهليل لـ”تواضع” حصته الوزارية هو القوة “الإقليمية”، التي تسقط رئيس لبناني وترفع آخر… يرضى بها لكثرة زهده بالسلطة؛ إذ يتعالى عن خيرات الأرض هذه، الزائلة، الضيقة، مقابل المجد التاريخي، الإنتصار التاريخي، الغنيمة التاريخية… وجميعهم ينتظرون “جيشه الشرعي” المذهبي في سوريا. والمعادلة صريحة، هي الأخرى: إفعلوا ما تشاؤون بلبنان، افتكوا بدولته ومؤسساته وقوانينه، ولكن اسكتوا عن ممارسات مسلحينا في خدمة الأسد، وبقيادة “الحرس الثوري” الإيراني. وليس مطلوباً، بعد ذلك، سوى ضخّ المزيد من الشباب الشيعة إلى الموت تحت راية ذاك الذي أصبح الآن “جيشاً شرعياً”.

سياسة الدعوة إلى التشبّه بالنعامة هذه، لا تقتصر على المستوى “الأعلى”: أي الدولة ومؤسساتها. بل تنسحب على المجتمع أيضاً. ماذا يفعل صاحب هذا “الجيش” بمجتمعه، بجمهوره؟ مقابل تأييده، مقابل إرسال الشباب الشيعي الى الموت من أجله… يمنح الحزب هذا الجمهور الغطاء على كل أنواع الموبقات، تشبه موبقات السياسيين “الساكتين عن الشرّ”، الشياطين الخرس، ولكن على مصغَّر، على مستوى “أدنى”: يمكنكَ أن تفلت سلاحك “الفردي”، ان تقتل، أن تثأر، أن تسرق، أن تشبّح، ان تهرّب، أن تهمل نظافة شارعك، وتنظيمه، نفاياته، أن تخرج كل الفوضى المدمّرة الممكنة، بشرط واحد: الولاء للحزب.

داخل “مؤسسات” وهيئات حزب الله” نفسه، لا يختلف الأمر: فساد يميّز بين “السياسي” و”الإداري”، بين الفاسد الموالي للحزب حتى الموت، والفاسد المهتز ولاؤه. الأول يعاقب، والثاني يغطّى. جيش احتلال “رسمي” في سوريا، ميليشيا مهيمنة في سوريا، واجهتها مفوَّض واحد، وزراء وحلفاء: رِجل في لبنان، المقبوض عليه، المتروك لشريعة الغاب، بـمجتمعَيه، الأعلى والأدنى، ورِجل أخرى في سوريا، حيث يقتل الحزب السوريين بالإشتراك مع بشار وبوتين و”الحرس الثوري”، أي على عواهنه، يدمّر سوريا معهما، ويساهم بما سوف يسمّيه التاريخ لاحقاً أكبر مجزرة إرتُكبت بحق شعب في القرن الحادي والعشرين.

إقرأ ايضًا: أيام تفصل الأسد عن تحقيق النصر في حلب

مجزرة دمّرت سوريا ولبنان. بعقل من يعمل “حزب الله”؟ بتخيّله لأية جغرافيا؟ الرِجل التي يضعها على لبنان، والتي تساهم بضياع لبنان واهترائه، والرِجل الأخرى التي يغرزها في سوريا، ألا تكفيان لمساعدة الحزب على إدراك ان منْبته، بلاد الشام؟ وانه ولد في هذا الفضاء، وترعرع بين خضاره؟ وان لا مكان آخر له على هذه الأرض؟ وان الفلسطينيين، الذين تؤكل أراضيهم اليوم بلا وازع، والسوريين الذين ضاعت بلاهم، واللبنانيين الذين تعفّنوا تجميداً وتمجيداً بصولاته وجولاته… هؤلاء كلهم هم الباقون، أيضاً؟ وان الإيرانيين، إذا انتصروا، فسيكونوا مقْصد مقاومة السوريين لإحتلالهم؟ ناهيك عن الروس؟ وانه نفسه، “حزب الله”، كيف سيتصرّف، بأية توجيهات سوف يزوَّد، عندما تنتهي هذه الحرب؟ إلى أي نوع من المجتمعات سوف يعود، أي نوع من المؤسسات والقوانين؟ سواء انتصر أو انهزم؟ وساعتها، كيف يصرفهما، الإنتصار أو الهزيمة؟ رسالة نعيم قاسم هي فعلاً “واضحة وصريحة”، ولكنها كاذبة مضلّلة، ومهما قلّبتَ من أوجهها. يبدو فيها الحزب عديم النظر لمترتّبات خروجه من الوطن واحتلاله وطناً جاراً، شقيقاً، غير وطنه، والفتكْ بشعبه قتلاً وتجويعاً وحصاراً. فغداً عندما “يعود”، لن يكون مكلّلاَ بالغار، إنما بالعار. السوريون لن ينسوا، مهما خُذلوا، مهما تعبوا. وإن “سكت” اللبنانيون اليوم مقابل امتناع الحزب عن تفجيرهم، فسوف تفكّ روحهم عندما ينهضون من أكوام العجز والنفايات، ولهيب العصابات التي استولت على الدولة، وتلاشي المجتمع وتصدّعه، بهرَجه ومرَجه، بفتَنه وإنحلاله. أما الحزب الآن… الآن… فلا ينظر إلا “بعيداً” جداً، إلى تخوم آسيا الوسطى، “قوة اقليمية”، فزاعة من كارتون لعدو إسرائيلي، افتراضي، يرتاح هو لهذا التورّط السوري، فيسرق المزيد من الأراضي الفلسطينية، والحزب يعتزّ… فقط يعتزّ باستفزازه.

فيما الحرب الحقيقية تُخاض بدماء جمهوره، اللبناني الشيعي، ودماء السوريين. في العراضة الإعلامية العسكرية التي نظّمها الحزب في القصير، والموجهة إحدى رسالاتها إلى جمهوره المدمّى بقتلاه، لم يضللّ إلا نفسه وهذا الجمهور، والاثنان في مركبة الوعود “الصادقة” والانتصارات “التاريخية الالهية…” الخ. ولكن من أين للحزب أن يهتدي، وهو ينْتشي من مجرّد لقب، “قوة إقليمية”، مسنودة بـ”جيش رسمي”، يزيّن له نصراً حتمياً، لا مَحالة؟

السابق
700 الف مغترب لبناني سيزورون لبنان خلال الأعياد
التالي
إسرائيل تمنع اللبناني «جمال أشمر» من حضور مؤتمر فتح في رام الله