في لبنان… أن تكون عونياً يعني أن تكون سعيداً

يدرك المسيحيون اللبنانيون أن الرئيس المنتخب ليس قوياً، وهم إذ يعلقون صوره مذيلة بعبارة «الرئيس القوي»، إنما يفعلون ذلك ليدفعوا عن أنفسهم شُبهة ضعف كانت التصقت بهم عقب انتهاء الحرب الأهلية.

«إنه الرئيس القوي لأننا ضعفاء»! هذه حال المسيحيين في لبنان ومن بينهم خصوم الرئيس التقليديون. وهو ضعيف ليس فقط لأن اتفاق الطائف قلل من صلاحياته، وليس لأن دفة السلطة مالت نحو المسلمين في العقود الأخيرة، لكنه ضعيف لأن أقرب حلفائه إليه يريده ضعيفاً، لا بل أن فريقه السياسي مجتمعاً (8 آذار) يريده ضعيفاً. ومنذ اليوم الأول لانتخابه، لا بل أثناء عملية الانتخاب، انهالت صفعات الحلفاء عليه، بدءاً من أوراق الاقتراع الفائضة في مجلس النواب ومروراً بمطار بيروت ومدينة القصير السورية وبلدة الجاهلية الدرزية، ووصولاً إلى حكومة العهد الأولى التي يتولى عرقلة تأليفها عميدا جماعة (8 آذار) الرئيس نبيه بري والوزير سليمان فرنجية. فيما يبدو أن خصوم عون في «14 آذار» هم أكثر من يُسهل عليه مهمته.

«الرئيس القوي» تعويذة هذيانية جماعية، يشعر المرء لشدة انتشارها في مناطق المسيحيين اللبنانيين بأنه على خطأ في اعتقاده أن الرئيس ليس قوياً. فكيف يكون «غير قوي» في حين يعتقد هذا الكم الهائل من الناس أنه قوي. وما على المتجول في أحياء الأشرفية إلا أن يقول: «يبدو أنه قوي فعلاً»، ذاك أن رفع هذا الشعار لم يقتصر على مناصري الرئيس التقليديين أعضاء التيار العوني. مناصرو القوات اللبنانية، والخصوم التاريخيون لميشال عون رفعوا هذا الشعار، لا بل آمنوا به أيضاً، وجماعات الشوارع والأزقة ممن لا تربطهم رابطة بالعونية ومساراتها. ومخاتير الأحياء أيضاً، ومن بينهم مسلمو الأشرفية السنة والشيعة.

وهنا لا بد من ملاحظة تتمثل في أن انعدام الكفاءة التعبيرية في تظهير السعادة ترافق مع ظاهرة انخراط الفنانين الشعبيين باحتفالات الترحيب، وربما كان ميشال عون أكثر رئيس للجمهورية اللبنانية نيلاً لسعادة المغنين وترحيباتهم، بحيث تلاشت المسافة بينهم وبين مخاتير الأحياء غناءً وهنداماً، فظهر المغنون في محطات التلفزيون في هيئات المخاتير، فيما راح الأخيرون يستعيرون من الأغاني والأراجيز العبارات التي كتبوها على لافتات الترحيب الموقعة بأسمائهم.

عليك أيها العابر المنذهل بين طرفي المشهد (الأشرفية صاحبة الرئيس القوي، ومطار بيروت الشاهد على انتهاك قوة العهد في يومه الأول) أن تقترب أكثر من عناصر الفصام، علّك تعثر على ضالة تعينك على فهم ما أصاب أهلك في المطار وفي الأشرفية. فإذا كانت الجماعات تهذي بقوة رئيسها الجديد دفعاً لضعف حقيقي وأصلي تشعر به، فإن الأفراد أكثر واقعية في لحظة الفصام الجماعي هذه. فالمشهد حين تتحلل عناصره يكشف أن الجماعات أقل ذكاء من أفرادها، وأن الناس دهاة ومُداهنون وأنهم يستجيبون بخبث لمنادٍ داخلي ضمني يحضّهم على القول إن «الرئيس قوي».

والحال أن الهذيان اللبناني بـ «الرئيس القوي» هو حالة عيادية شديدة البديهية بحيث يتردد التحليل والتفسير في الاقتراب منها لشدة وضوحها. فلا الرئيس قوي ولا لبنان باشر نهوضه في أعقاب انتخابه. هذه حال اكتئاب جماعي يسعى الأفراد لتفادي سقوطهم فيها عبر الاستعانة بأوهام الجماعة. وفي هذه اللحظة، تكشف الجماعات عن سذاجة ضرورية لمداواة الجروح، ويكشف الأفراد عن خبث لا يقوى اللبناني على العيش من دونه في ظل هذا الفراغ الهائل. فمختار الأشرفية الشيعي استعجل رفع لافتات الترحيب بالرئيس، لكن السرعة لم تسعف عبارته فبدت متأرجحة بين الترحيب والسخرية: «عماد البلاد والعباد»، ولا بأس بتحية لرئيس الحكومة المكلف سعد الحريري الذي يشكل «السعد القادم بعد شقاء الغياب»!

إقرأ أيضاً: هل بدأ الاحتكاك الخشن بين عون وحزب الله

الناس تعبر من تحت عبارات الترحيب محنية رؤوسها وراسمة ابتسامات صفراء لا تلبث أن تتحول إيماناً عميقاً بالرئيس القوي. والصحافية السويسرية المقيمة في شارع بدارو القريب من الأشرفية ومن الضاحية الجنوبية لم تزعجها الصورة الكبيرة للجنرال ميشال عون التي حجبت الشمس عن شرفتها. قالت ربما يُصبح قوياً لشدة إيمان الناس بقوته. وهي تعتقد أن صاحب المتجر الذي رفع الصورة وحجب الشمس عنها يؤمن بأنه قوي، على رغم أنه لم يكن يطيق ذكر اسمه قبل أشهر قليلة من انتخابه.

يُدرك اللبنانيون أن لا أحد قوياً في لبنان إلا «حزب الله»، وعون نفسه ربما صدق بأنه قوي فقط لأنه قريب من الحزب ولأن الحزب ضمانة أخيرة لهذا الضعف المقنع. وبما أننا حيال انفعالات لا قيمة سياسية لها، فقد رصد صديق شعوراً جماعياً شيعياً بالإحباط نتيجة انتخاب عون، ذاك أن ثمة اعتقاداً بأن عون استثمر بقوة الحزب لكي يصبح رئيساً، أما «التضحيات» الفعلية فـ «مطلوب من الشيعة تقديمها» في سورية وغير سورية. الصديق الذي رصد هذا الشعور شبه قصة «حزب الله» مع الجنرال عون بقصة رجل غني ومُرهق بأعباء ثروته واستثماراته ولا وقت لديه للتمتع بها، أقدم ذات يوم على مكافأة موظف لديه بإعطائه مئة دولار. المئة دولار كانت كفيلة بأن يُمضي الموظف وقتاً سعيداً مع أصدقائه لاهياً وساهراً، في حين كان الغني مثقلاً بأعباء ثروته ولا وقت لديه ليستفيد مما تتيحه من متع.

إقرأ أيضاً: استعراضات حزب الله ومليشياته لتحجيم عهد الرئيس عون

وبهذا المعنى تصدق العونية، غير القوية، في توهمها السعادة وفي إيهامها جمهورها بها، في وقت يبدو «حزب الله» المنتصر ومحقق الإنجازات حزباً غير سعيد ومثقلاً بجنازات عناصره وبأعباء المهمات الموكلة إليه، وعديم القدرة على تحويل إنجازاته غبطة ونشوة، وهذه في النهاية وظيفة السياسة ومبتغاها.

إذاً العونية على حق، حتى لو لم يكن الرئيس قوياً.

السابق
مصر الشريكة في المذبحة السورية
التالي
فارس سعيد معلقاً على تشريع الحشد: شرعوا حزب الله!