كي لا يصبح الدروز طائفة افتراضية

ذات يوم كان في لبنان رجل يشبه حكماء الهند وفلاسفة اليونان بصدق وبساطة المهاتما غاندي، لكن السياسة سرقت شيئا من وقته فقتلته. لم تمنعه اشتراكيته من القول إن «تجاربنا الاشتراكية بمعظمها فشلت، للأسف في العالم العربي، ان لم نقل كلها، لأنها جاءت من فوق ولم تحترم الإنسان».
كان حلم ذاك الرجل الشفاف الذي لقَّبه محبوه ورفاقه ومريدوه بـ «المعلم»، أن يوسع طائفته على امتداد الوطن ويحميها بالعروبة ويبعدها عن التقوقع. لكن الأحلام كادت تقتل الفلسفة والحكمة، ورياح الخارج عصفت بأكثر مما توقّع، وصلابة الموقف التي قاربت العناد القاتل، كل ذلك أودى به شهيدا في طريق عودته الى المختارة. كان ذلك القائد الجامع في قلبه الأديان السماوية وحكمة الهند وفلسفة اليونان، اسمه كمال جنبلاط.

إقرأ أيضا: رامي الريس: ترشيح عون بإنتظار حسم 8 آذار

كان باستطاعة كمال جنبلاط أن يطلب من سفيرٍ أميركا في بيروت استصدار تصريح من الرئيس الاميركي حول لبنان وينجح. هو الذي قال عنه أحد أعظم رؤساء فرنسا فرانسوا ميتران: «إني تعلمت منه أول درس في الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط». وحين شكك المسلمون بإسلام الدروز، كان زعيم العرب آنذاك جمال عبد الناصر جسر كمال جنبلاط الى الأزهر لاستصدار فتوى تؤكد ان الموحدين الدروز مسلمون.

أمس كتب الوزير السابق وئام وهاب على «تويتر»: «بفضل سياستك يا وليد بك أصبحنا طائفة هامشية في المعادلة، ومنذ الطائف حتى اليوم سمحت أنت بتهميشنا ومنعنا من الوزارات الكبرى». كان بذلك يرد على قول جنبلاط في تغريدة تويترية أيضا: «بعد أن أفرغت وزارة الشؤون الاجتماعية وأٌغرقت تُعرض علينا»، وسانده في قوله هذا النائب الأمير طلال أرسلان.

خلف هذا الجدل الافتراضي على وسائل «التقاتل الاجتماعي»، قصة بسيطة، ذلك ان ثمة محاولة جرت كي يتفق وهاب وأرسلان والنائب السابق فيصل الداوود على تسمية وزير درزي في الحكومة، لكن جنبلاط سحب البساط من تحت أقدامهم، واتفق مع الأمير طلال على أن يكون أرسلان هو الوزير.

هكذا أخبار يتناقلها الموحدون في قراهم التي تغزوها هذه الأيام أولى نسمات البرد. غالبا ما يعلقون عليها اما بالنكات أو ببعض الاتهامات لهذا الطرف أو ذاك. لكنهم في كل الحالات يدركون أن لا تأثير فعليا لهم، ذلك أن تركيبتهم الاجتماعية والسياسية مستقرة ولو على مضض. فلو تزوج مثلا وليد جنبلاط او تيمور من غير الدروز ستجد الجميع يتقاطرون لتهنئتهما، أما لو فعل شاب درزي بسيط الشيء نفسه فقد يُقابل بمقاطعة بيئته. يمتعض مشايخ الموحدين («الأجاويد» كما يُسمون)، ويتمرد بعضهم بالسر (وربما يشكلون مجموعات مسلحة تُقلق جنبلاط)، لكن حتى الآن لا تزال الأمور قابلة للضبط، يساهم في ذلك العلاقة الوطيدة بين زعيم المختارة وشيخ العقل. يساهم فيها كذلك ان الكثير من مصالح الدروز في الدولة والوظائف تمر عبر المختارة.

لا تزال الزعامة الدرزية الأولى والأهم طبعا لوليد جنبلاط. يورّثها حاليا لتيمور. يُحكى الكثير عن نزوع الوريث الشاب العصري صوب تغيير أسس السياسة الاقطاعية. يُحكى عن قنوطه من السياسة والعادات والتقاليد. هو أكثر قربا من الناس ومن بهجة الحياة والسفر. اختلف رأيه في بعض المرات جذريا عن رأي والده.. ويراهن جيل الشباب الدرزي كثيرا على تيمور للتأسيس لشيء جديد على مستوى الطائفة والوطن.

نجح وليد جنبلاط الى حد بعيد في السير وسط العواصف. مال في كل الاتجاهات، مع سوريا وضدها، مع «حزب الله» وضده، قاتل بشراسة «القوات اللبنانية» ثم تحالف معها، مع ايران وضدها، مع روسيا وضدها، ضد أميركا ثم معها. رفع لواء الدفاع عن فلسطين ودعا دروز إسرائيل لرفض الخدمة الإلزامية، لكنه لم يشجعهم على المقاومة المسلحة. حافظ على دور مركزي له في السياسة اللبنانية وبقي في لحظات كثيرة لولب الحركة.. وبقيت للدروز مكانة لو بسيطة.

اخترق وئام وهاب التقليد الدرزي. صنع مكانة جيدة له. فرض نفسه على المشهد السياسي والإعلامي والاجتماعي. اعتقد أن «حزب الله» وسوريا وايران سيقدمون له هدية سياسية على طبق من ذهب بعد تغير الرياح في سوريا. دافع بشراسة عن العماد عون. لكن ها هو يصطدم مرة ثانية بأن الحلفاء يستمرون على نهجهم مع جنبلاط إلى أن يحين القطاف. يراهن وهّاب على الانتخابات النيابية المقبلة. يريد إحداث اختراق لو تغير القانون، يسعى لإقناع الرئيس عون بتحالف جبلي. يركز على الناقمين الصامتين. فلتة الشوط ممكنة اذا تنافر جنبلاط مع العهد. لن يتنافر على الأرجح قبل الانتخابات.

عرف الأمير طلال أرسلان طيلة السنوات الماضية كيف يكون حليفا لكل خصوم جنبلاط وحليفا له برغم بعض التنافر العابر. هذا جزء من التقليد الدرزي بين العائلات الكبيرة. وهذا برأيه سمح بتجنيب الدروز مشاكل ودماء في ما بينهم. يدرك الأمير أيضا صعوبة اقناع حلفاء الداخل بالمساعدة على تعزيز دور زعامته عبر الخدمات. هم لا يزالون مقتنعين ان جنبلاط هو الزعيم الأبرز. دمشق ما عادت مقتنعة بذلك، ولعله سمع شيئا من هذا القبيل من أبرز القيادات السورية. يستمر في العمل على مستوى الشباب والناس ويبدو قريبا جدا منهم بانتظار أيام افضل.

فيصل الداوود الرجل الطيب والانساني أمين عام «حركة النضال اللبناني العربي»، غالبا ما يشعر هو الآخر بالخذلان للأسباب نفسها ويعبّر عن ذلك. ثم جاءه الوزير النشيط والمحبوب شعبيا وائل أبو فاعور لينافسه على شعبيته مستندا الى الخدمات.

فقد الموحدون الدروز الكثير من مجد السياسة والجغرافيا والزعامة. عددهم يتضاءل بسبب الهجرة او الزواج المختلط. وظائفهم في الدولة متواضعة. لا مؤسسات كبيرة ولا مصانع. الثروات ذهبت الى بعض قادتهم. الزراعة فقدت أهميتها.

الآن قد يعود الوزير النشيط مروان حمادة او «الصديق الوفي» أيمن شقير الى الحكومة في وزارة غير سيادية. يريد جنبلاط إنهاء الحياة السياسية لحمادة بوزارة وتحييده عن الانتخابات المقبلة التي تتطلب جيلا يشبه تيمور. لا بأس. لكن هل انعدمت الكفاءات فعلا بين الشباب «الاشتراكي» او داخل الطائفة؟ وهل إبعاد رجل ناجح كوائل أبو فاعور مفيد حتى ولو ان السبب انتخابي أيضا؟

شتان بين عهد كان فيه كمال جنبلاط وزيرا للداخلية او صانعا للرؤساء، وبين أيام صارت فيها وزارة الصحة او الشؤون إنجازا. هل فعلا سيتغير شيء؟ ام يصبح الدروز مع الوقت طائفة افتراضية يتبادل قادتها التصريحات والاتهامات عبر «تويتر»، ولا احد يأبه. السؤال الآن برسم تيمور جنبلاط قبل غيره. لا بد من حركة إصلاحية حقيقية قبل ان تنتقل عدوى دونالد ترامب الى لبنان.

السابق
بالفيديو: ميريم كلينك تهاجم عادل كرم بشدة
التالي
هذه هي المرأة الوحيدة في حكومة العهد الأولى..