رحلة في الذاكرة.. إلى حلب

الذاكرة التي تطوف بين محطات العشق في حلب.

لم يكن يوماً كباقي الأيام ،قبل سنة او سنتين رشقت ثانوية هدى شعراوي بالحجارة حتى كسرت نافذتها المطلة على ثانويتي”مازن دباغ” وقبل عدة الأيام من ذلك اليوم طردت من حصة التربية الإسلامية عندما تمردت على المدرس بالأسئلة فسألته كيف نعبد إلها لا نعرف عنه شيئا ؟ كيف يكون واحداً أحدا ؟ هل يمكن للرب أن يكون من لا أحد؟ حينها نفيت إلى الشعبة المحاذية لشعبتيِ الأساسية.

هناك في تلك الشعبة طلبت اللجوء السياسي إلا أن مدرس الفيزياء رفض منحي إياها، و حاول ترحيلي إلى شعبتي ولكنه لم يستطع فعل ذلك؛ لتمتعي بحاضنة شعبية كبيرة في شعبته.

أما هذا اليوم ،فيستحق أن يكون عطلة رسمية في الدوائر الرسمية وأن يخرج جميع السوريين في مسيرات مرددين شعار” بالروح بالدم نفديك يانيجرفان” حاملين على أكتافهم صوري الشخصية سوريا نيجرفان ” وليست سوريا الأسد. في هذا اليوم تم تعليق اسمي لأول مرة في لوحة المتفوقين في الثانوية، في الحقيقة لم أكن متفوقاً يومها وإنما إدارة الثانوية أصدرت قراراً بفصلي من الثانوية، لقيامي برسم صورة لفتاة عارية على جدارن شعبتي ،فالموجه ألقى القبض علي متلبساً بالجرم المشهود.

خرجت من الثانوية وحقييتي على كتفي متوجهاً صوب جسر 16 تشرين في محطة بغداد في طريقي للبيت ومنها إلى شيخ طه ،هناك رأيت النبي ألياس يتبادل نخب سوريا الأسد مع جامع شيح طه في ذلك الحي، ثلاثة نجمات جميلات رشقيات يرتدينِ الزي المدرسي ، تثاقلت خطواتي ،جلست على حافة الطريق، يد قلبي كانت ممدودة لجميعهن،إحداهن دخلت قلبي دون أن أدخل لقلبها، كان شعراً رائعاً وأنا أمضي خلفهن إلى شوارع العاصمة (شيخ مقصود)، عرفت الشارع المؤدي لمنزلها ورقم البناء الذي تقطنه ، عدت للبيت كانت الساعة تشير لزمن معين ،أخذت قسطاً من الراحة،اتصلت بصديق لي لأخبره بالأمر، تبادلنا الأحاديث عن الحب والغرام والسياسة وفتيات هذه الأيام ، كان شعوراً رائعاً وأنا أحدث صديقي عن خصلات شعرها وتسريحتها و بريق عينيها كانت عيناي تتلألآن عشقاً.

اقرأ أيضاً : #حلب_تحترق … هل بدأت عملية محو حلب عن الخارطة؟

نيجرفان

مضت الأيام وعدت للثانوية،في أول فرصة عزمت على مواجهة الموجه ،دخلت مكتبه ،سلمت عليه ساخراً مردداً عدت والأجيال تصغي لوقع الخطأ، عندها استشاط غضباً وين أبوك” (اجبته بهدوء واحترام) “لم تخبرني بأن اصطحب أبي للمدرسة ,علاوة على ان نص القرار لا ينص على ذلك ؟ ” نظر إلي (بتجهم) فخرجت من مكتبه (واعداً اياه بأن) أبي سياتي غداً للمدرسة.

مضت الأيام_ والأيام تمضي_ وأنا أنتظرها ،أقرأ تلاوات قرأنية وسورة الفاتحة للمقابر الأرمنية منتظراً عودتها من المدرسة، الأيام تمضي ، وأنا (ازداد عشقا) لخصلات شعرها ونظراتها البريئة وذلك الشارع المؤدي لمنزلها والمتجر الذي يسبقه ، ذات يوم كتبت لي أسمها في بن الفنجان ورغوة الكلام،عندما) زرتها في منزلها، كان شعوراً رائعاً وهي تقدم لي القهوة وعيناي يحدقان بعينيها،حينها عشقت جغرافيا منزلها،تضاريس وجهها ، كان قلبي يغمره الفرح والسرور ،آنذاك حدثني قلبي عن عشقه لمفردات منزلها ولغرفتها وتلك اللوحة المعلقة على جدران غرفتها ،كانت السماء تمطر حباً وعشقاً ،يومها كان شعوراً غريباً يجول في نفسي ووالدتها تنصحني بالدارسة وتسألني عن حلمي (دون أن تعلم أن ابنتها هي حلمي الوحيد)، تحدثنا (مطولاً) والساعات تمضي دون أن نشعر بالوقت (أو بالأحرى دون أن أشعر انا)، خرجت من منزلها ولا يزال طعم القهوة في فمي وعيناي معلقتان بتضاريس وجهها وجغرافية منزلها .

ذات يوم تغير كل شيء،فجأةً هبطت السماء للأرض ، والأرض قذفت للسماء،واصبحت الشمس تشرق من الجنوب وتغيب في الشمال ، واصبح كل شيء علي معكوساً.حينها كانت رياح الحرية والكرامة تهب من الجنوب ,فكان لابد لي من المشاركة فيها ودفعها للأمام فأنا أبن إنتفاضة قامشلو ،حفيد سليمان آدي، من شوارع العاصمة شيخ مقصود ،في جمعة العشائر بدأت حكينا من الحرية والكرامة ،بعد أسبوع كامل من التحضير لها، كان شعوراً غريباً،ونحن نهتف للحرية والكرامة رافعين شعارات سلمية تخترق السماء ، الأيام تمضي، كل شيء تغير في هذه الرقعة الجغرافية المتعطشة للحرية المرتوية من الذل والحرمان.

اقرأ أيضاً : انتصارات حلب وكسر الحصار الأسدي والدولي وسلاح الصمت العربي – التركي

بينما تلك الفتاة لم تتغير، كانت (ساكنة) كأصنام مدينة الله، تحاول إعادة ترتيب صورة الطغاة حينما كنا نكتب عبارات الحرية والكرامة على جدران عاصمتنا وندعو لتظاهرات عارمة تهز عرشهم، هي كانت توجه بندقيتها صوب صدورنا العارية ،تعارض حلمنا في الحرية والكرامة المنشودة، مشاعري العاطفية تغيرت تجاهها، فبعد كل مظاهرة كنت أكرهها ويزداد كرهي لها بعد كل اجتماع حزبي، أكرهها ،أكره يوم ميلادها، يوم وجودها، لقاءنا الأول، القهوة التي كتبت لي اسمها فيها ،أكرهها لأنّها تفضل حرية قائدها على حرية وطنها الممزق المحتل. كل شيء تغير ،فأصبحت أحب يوم رحيلها ،يوم وفاتها ،كل يوم نعشق الحرية ،نعشق الكرامة، نحلم بغدٍ أفضل من اليوم ،بينما هي توجه سبطانة بندقيتها لصدورنا العارية.

اتسعت رقعة الحرية والكرامة. فهربنا من حلب من رصاص الطغاة ،حالمين بالعودة إليها بعد ثلاثة أيام، كان شعوراً حزيناً ونحن نودع جيراننا والدموع تنهمر من أعيننا، توجهنا للكراج ،وفي قلوبنا غصة ألم،تحت وقع أشتباكات متقطعة في ذلك الحي بين طلاب الحرية وجنود الأسد. ساعتان ونصف مضت،الآن نحن في كوباني وقلوبنا لاتزال متعلقة بحلب،أربعة أشهر مضت على خروجي من حلب وفي قلبي غصة حنين لأزقتها. في كوباني والأيام تمضي، عادت إلي رياح الحنين من جديد لتلك الفتاة ،لتضاريس وجهها وبن قهوتها ،كان شعوراً رائعاً مليئاً بالحب والدتها تعانقني وأعانقها،تسألني وأسألها ،نتبادل الألم والأمل ،تكلمنا عن مفردات الأمس وتغيرات اليوم، كان شعوراً غربياً وشقيقتها الصغرى تقدم لي القهوة،مبتسماً حالماً برؤيتها من جديد.

أحببتها من جديد ،أحببتها رغم شتم والدتها للمجلس الوطني الكردي ،أحببتها و أنا لم أنس دماء ولات حسي وأبناء شيخ حنان ومجزرة تل غزال بعد ، أحبها ووالدتها تمنحني رقم هاتفها وأخاها الكبير يرسل لي طلب الصداقة،أحبها وأنا أتذكر كل شيء،

ولم أنس شيئاً، ساعات مضت ،خرجت من منزلها وقلبي جمرة حب وحنين، عشقت ذلك الشارع المؤدي لمنزلها ،المكتظ بالمارة و العربات العابق بدخانها.

السابق
بعد استهدافه بعقوبات أميركية.. «المحيسني» يتبرأ من «فتح الشام»
التالي
بالصور: وليد جنبلاط والماراثون