والمتحف الثالث؟ سيرة رجل في مسيرة شعب

صار للرئيس المؤسّس مؤسّسة باسمه. صار للمؤسّسة جوائز باسمه.. وصار للمؤسّسة متحف باسمه. من يوم الغياب، الذي سميته “يوم من نهارين” إلى يوم افتتاح المتحف، صار في ما كان (“المقاطعة” ـ الثكنة) ثلاثة صروح: ضريحه، ومئذنة جامع كانت ترى أنوار القدس بعين شعاع ليزري، ومتحف هو المتحف الفلسطيني الثالث، بعد متحف محمود درويش، والمتحف الفلسطيني في بيرزيت، الذي سيفتتح، رسمياً، في العام المقبل.

اقرأ أيضاً: المتحف الفلسطيني يفتتح معرض «أطراف الخيوط» في 25 أيار

من يوم الغياب إلى يوم افتتاح المتحف، مرّ عقد وعامان، وفي مجرى هذه السنوات، خصّ قلمي لعرفات عشرة أعمدة هي: تمرين على الغياب. يوم من نهارين. العرفاتية اللاعرفاتية. الذي يحكم بالقلم. تحرّر من شعبه. عرفات لمشهد الجبال ومسارات الأنهار. قلم في خدمة المحرّر العام. لماذا حجر مغشوش لضريح عرفات (غيّروه لاحقاً). هذا قبر الجندي المعلوم. مطبّات صحافية مع الختيار.
هذا هو العمود الحادي عشر عشية يوم الافتتاح الرسمي. قبل يومين منه، خصصت مؤسسة عرفات جولة صحافية للمتحف، بينما كانت “ورشة” تضع اللمسات الأخيرة ليوم الافتتاح، وبعده سيتم فتح المتحف للجمهور.
لا أذكر عدد المرّات التي وقفتُ فيها أمام الضريح، وحدي أو مع رفقة، لكن، بدأت جولتي غير الأخيرة للضريح بوقفة أخرى، وتلتها زيارة إلى مسجد بمئذنته الفريدة، ذات الشعاع الليزري الغافي حالياً.
قبل يوم الغياب وإلى الآن، كانت قنطرة بين مبنيين للمقاطعة، هدمها جيش الاحتلال مرّة، وأعدنا بناءها مرّة أخرى.
هذا يفسّر لماذا يقودك، من باب المتحف، إلى غرفة نوم عرفات ممرّ يصعد بك بسلاسة بين الباب وغرفة نوم صغيرة ومتقشّفة جداً، حتى عن غرف فنادق رخيصة جداً. لماذا مرقى صاعد سلس؟ حتى يتمكن مقعدون على عربات مدولبة من جولة باب الدخول ـ محراب غرفة النوم.

المتحف الفلسطيني
“كان عرفات الفصل الأطول في حياتنا (..) وفي كل واحد منّا شيء منه ـ درويش”.. لكن متحفه هو موجز للفصل الطويل من النضال الفلسطيني، منذ “وعد بلفور” (حيث صورة للوعد وصاحبه) إلى ما تركه قائد العاصفة ـ “فتح” في مخبئه بعد حرب حزيران 1967 في الضفة: راديو ترانزستور، والقرآن الكريم، وأمّا سلاحه فلم يفارقه قط 40 سنة.
فهمت لماذا أطلق أبو جهاد طلقة واحدة من مسدسه قبل أن يجهز عليه، موشي يعالون، الذي صار وزير حربية إسرائيل؟
المسدّس ليس في المتحف الآن، وهو مفقود في غزة، ويقول الشرح: طلقة مسدس وحيدة، ثم طلقات أصابت أخمص المسّدس، أي منعت يد أبو جهاد من طلقة دفاع ثانية.
سيحمل زوار المتحف كتالوجاً، وأنا حملته ووجدت فيه شيئاً مما خطه قلمي الذي وصف مقرّ قيادته ومكتبه بـ”الخندق الأخير” ولخّص سيرة حياته بـ”الرئيس المؤسّس”.
“الذي يحكم بالقلم” كانت طاولته طافحة بالأوراق، وفي الحصار كان يوقّع على الأوراق تحت ضوء البطاريات أو اللوكس.
الآن، صار للزوار أن يذهبوا إلى مركز المصادر، وقاعة “المنتدى”، ويستفيدوا من أرشيف إلكتروني، بما فيه مجلّدات كاملة لـ”فلسطين الثورة” و”شؤون فلسطينية” و”بلسم” وكتب عن سيرة ياسر عرفات.

التكنولوجيا متوفرة ليس عنه فقط، لكن الرسوم متوفرة عن رفاق دربه، أو دربنا، من 65 شخصية فلسطينية، وخمس شخصيات عربية. يكفي أن توجه عدسة هاتف نقّال (بدون فلاش) إلى صورة أحمد ياسين، أو فتحي الشقاقي، أو دلال المغربي، أو ليلى خالد، لتظهر لك على الشاشة معلومات عنهم، وعن عز الدين القسّام، والشيخ عبد الحميد السائح.. إلخ. هذه جدارية بريشة حسني رضوان. هو القائد العام للجميع.
المتحف الثالث، كما الأول والثاني، والضريح، أيضاً، صمّمه مهندسون فلسطينيون، وتم تشييده بأموال الشعب الفلسطيني. عملياً بدأ إنشاء متحف عرفات في العام 2010، بعد أن وضع الرئيس عباس حجر الأساس العام 2008، ولأسباب استغرق البناء وقتاً طويلاً، وبعد الافتتاح ستتواصل مهمة جمع المقتنيات الشخصية لـ”الأخ” و”الختيار” و”القائد العام” و”الرئيس المؤسّس”، واستعادة ما أمكن من الوثائق والصور والفيديوهات والمواد الصوتية. من بين الصور واحدة حميمة وشخصية جداً، هي صورة نص عقد قران والد عرفات على أمّه بخطّ اليد.
سيرة ومسيرة عرفات، جزء من مسيرة الشعب ونضاله. زائر المتحف سيأخذ معلومات عن السيرتين المتداخلتين، سواء طلاب مدارس وجامعات على مستوياتها، أو من يحتاج مصادر للبحث عن النضال الفلسطيني.
“المقاطعة” لم تعد أقرب إلى ثكنة، بل صارت مجمّعاً رئاسياً جميلاً مرتباً وحديثاً، وبخاصة إذا تم افتتاح قصر الرئاسة المطلّ على الشارع، عندما تصير فلسطين دولة سيادية مستقلة.

اقرأ أيضاً: بالفيديو: فلسطينيات يقاومن بالتطريز في لبنان

سألت قائدي قبل رحيله بشهرين: هل هذه “الخرابة” هي قلعة الشقيف؟ هل هذا الكوريدور هو ممر الماراثون؟ قال: نعم.. هذه معركة المتر الأخير في حياتي.. ربما لهذا السبب كانت براميل معبّأة بالرمل في ساحة “المقاطعة” وقت الحصار، وبقي بعضها في غرفة النوم.. في نهاية الجولة من باب المتحف.
هو متحف للذاكرة الوطنية المعاصرة.

السابق
مقتدى الصدر الرجل الاخطر في العراق
التالي
عنصرية ما بعدها عنصرية: تلوث الهواء بسبب السوريين!