لا تقارب اسلامي – مسيحي واقعي الا بالتصوف

مسيحية
من ينظر إلى حال الأمة العربية بل جميع الأمم، يجدْها قد انقسمت فرقاً متناحرة، لا ترى الواحدة منها، الخير والفلاح إلا في فناء نظيراتها. وهذا يعني أن المشترَكات التي تجمع بينها ، خلاف ادعائهم ، لا تشكل قيمة حقيقية عندهم.

السبب في تشرذم الأمة وانقسامها لفرق، هو أن كل واحدة قد فقدت حسن الظن بهداية غيرها، بل تتجاهل جميع المواثيق والعهود والإتفاقيات البشرية في عصرنا الحاضر الذي لطالما أكد القرآن الكريم والسنة الشريفة على ضرورة إحترام جميع المواثيق والعهود والإتفاقيات التي تشكل اليوم اللبنة الاساسية لحضارتنا البشرية، مادامت لا تتعارض مع القيم الإنسانية والإيمانية.

اقرأ أيضاً: الخلافة وأزمة الأيديولوجيات الاسلامية الصاعدة

ونحن لا نرى إزاء هذا الوضع، ما يمكن أن يكون جامعاً بين جميع الفرق المتناحرة إلا التوجه إلى الحق وباطن الشريعة، الذي يسَع الجميع وتجاوز الأحكام الظاهرية التي هي محصورة بزمن المعصومين من أهل الحق، فيحسن الظن بالجميع، ويعترف بشراكة الجميع فإما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق. فالله رحمان رحيم، يريد أن يشع فيضه ورحمته على الكل مهما أمكن، رغم أنف المتشددين والمتحجرين الذين يريدون أن يقسموا الجنة والنار على أهوائهم.

إن التوجه إلى حقيقة الأحكام والعقيدة والشريعة، يجعل الدين والمذهب أوسع صدرا في تحمل الآخر، وبما أن كل الناس من أي فرقة وطائفة كانوا، هم مؤهلون للهداية بسبب معرفتهم بالحق بنسب مختلفة، فإنهم بخلاف النظرة المتشددة ، نجد الخير في كل مكان ومع الجميع، هؤلاء لا يحتكرون الحقيقة، ولا يزعمون انه لا يمكن أن يهدي الله غيرهم، فلعل شبه عبدة الشمس ينالون من الهداية ما لا يناله من يظن أنه أصل الهداية.

نحن اليوم، في هذا الزمن العصيب، أحوج إلى التوجه إلى القلوب من كل زمن مضى. لا نقول هذا تعصبا لفئة دون أخرى، أو ندعي أننا نحن أصحاب القلوب الواعية بل إنما نقوله لعلمنا بما يجري ويحاك للمنطقة، وبما سيترتب على ظلم البشرية لأنفسهم. لم يعد في الوقت متسع ننتصر فيه لميول فردية أو جماعية؛ بل الأمر متعلق بأمن الأمة جمعاء، إن عقلنا. إن كل من ينتصر لفرقة دون الآخرين من البشر، كما كان الشأن في الأزمنة الماضية، فليعلم أنه غير مدرك لحقيقة الحال؛ وليعلم أنه متخلف عن الركب الإنسانية بمسافة فارقة. ومنطق “أنا المحق”، وسواي على الباطل والضلال، صار جنونا يأباه الواقع، وتتأفف منه العقول. لا بد أن ينظر عقلاء كل فرقة بروية إلى ما نحن مقبلون عليه. ترك أمير حرب واحد يأخذ مجده قد يغرق السفينة بكل راكبيه، فالمعمورة لا تتحمل وصول مجنون واحد مثل هيتلر الى سدة السلطة المتوحشة والحكم المدمر، ولا بد أن يوطّنوا أنفسهم على طلب القيم الإنسانية المتوازنة والعاقلة، فيما سينتهون إليه من رأي.

ولا بد أن يصدُقوا قومهم النصيحة، وإن كانت ستخالف الموروث الثقافي، والأهواءَ العامة. هذا، وإلا فلينتظروا أن يعمّهم الله بعذاب من صنع أيديهم، مهما كانت طائفتهم و دينهم !.. نحن نتكلم عن التصوف القرون الأولى، تصوف سلمان المحمدي، و أويس القرني وأباذر و … ، الذي هو الإسلام الكامل عينه؛ الكامل، بجمعه بين ظاهر الدين وباطنه، في نقاء وصفاء، لم ينحرفا عما كان عليه الأمر في القرون الأولى من الزهاد والعباد المخلصين. ولا ينبغي أن تحجبنا هنا تفاصيل الصورة الذهنية، عن حقائقها؛ لأن الزمان غير الزمان، والقوم غير القوم. لكن مع ذلك، فإن الإنسان هو الإنسان عينه والإنسانية هي الإنسانية عينها، لا يُمكن أن يتغير أو يتبدل، ولا ينبغي ذلك. لقد عرف التاريخ صورة ناصعة مما ندل عليه هنا، سنة 1860م، عندما قامت فتنة الشام بين المسيحيين والمسلمين، وتعرّض إبانها إخواننا المسيحيين للقتل على أيدي الجهلة من إخواننا المسلمين، فقام لها الأمير عبد القادر الجزائري وفتح بيته لهم يُؤويهم ويجيرهم، وسعى في إصلاح ذات البين، وتم له ذلك. وقد بلغ عدد من نجا من المسيحيين على يديه 15000 فرد؛ وهو ما أدى إلى إثبات الكنيسة في الشام لعرفانها بجميل هذا السيد في وثائقها الدينية، حتى يُتوارث هذا الذكر الطيب لديهم عبر الأجيال.

هذا هو التصوف، بل الإسلام الحق، الذي نريد أن يعم نوره العالم؛ فهل من مجيب؟! أما المشاهد التعايش الإسلامي والمسيحي اليوم في ظل الأزمة في بلاد الشام فهي كثيرة و كثيرة، أكثر مما تحصى .. لا شك أنه لا بد من بعض الوقت حتى يأتي الزمن على ما أفسده التحجر العقلي وأفرزته عادات الاستبداد بالرأي والتنكيل بالخلاف في المشرب والمعتقد؛ والتشدد الجاهلي اليوم هي من إفرازات ذلك الماضي البغيض الذي لم تتخلص منه بلادنا. ولعل هذا هو السبب الذي يقدمه بعض السياسيون في تفسيرهم لعدم تشددهم مع هؤلاء الذين يفسدون عليهم الإسلام ويشوهونها إلى حد إفشال تجربة الاسلام الناصعة. أما وقد بلغ السيل الزبى، فعلى التيارات الدينية اليوم أن تبيّن موقفها وتحدّد خياراتها، فيعلنها بكل جرأة وصراحة ويؤكد عليها بسياسة لا لبس فيها، أن لا للإسلام التكفيري والإرهاب وأن الإسلام هو الإسلام الحق دون تمييع ولا تسفيه ولا تجزئة ولا انتقائية. إننا نقول هذا دون أن يخفى علينا ما في الساحة الإسلامية من تعقيدات وحسابات يراها البعض من باب تعاطي الفطنة والحس السياسي وهي لا تعدو أن تكون من خزعبلات السياسة الذي أكل الدهر عليها ولا يزال يشرب، لفظها بلادنا الإسلامية إلى أقصى جنوبها. لذا، بغض النظر عما تتميز به ساحتنا السياسية من مزالق، نقول أن عقدة ما يسمّى بمشكلة التشدد السياسي هي أولا وقبل كل شيء عقدة انعدام الأسس الواضحة والسليمة لحوار بناء هو ممكن دوما إذا انعدمت النوايا الخبيثة من كامل الأطراف المدعوّة للتحاور وكانت مبنية على المواثيق والعهود المتفقة عليها مثل المواطنة وإتحاد الأمم و….

الاسلام والمسيحية

اليوم تمتاز الصوفية بالزهد والبساطة والإيمان العميق وغلبة الروحانيات في القول والفعل والسلوك والصوفيون سمتهم الرئيسية الصمت والتفكر والعقلانية والخلوة والتدبر والتفكر في صفات الله وعظمته وأسماءه المتجلية في أعظم أولياءه الفانون في الله الباقون بالله و بين خلق الله، ويمتازون ببساطة الملبس والمشرب والمسكن والمركب وكل أمر متعلق بشؤون حياتهم اليومية ويتصفون بالمحبة والتسامح والمسامحة وقبول الآخر والتواضع وهم مخلصون بمعتقدهم وصادقون في علاقاتهم مع الآخرين ومخلصون مع أنفسهم ومع الآخرين ويفعلون ما يعتقدونه بإيمان عن إقتناع تام ويتحلون بمداومة الذكر والتعبد وقراءة الأدعية والأوردة التي تغذي أرواحهم وتشبع أفئدتهم وبروحانية عذبة تظهر جلية في سلوكهم الحسن وبشاشة وجوههم النيرة ويعشقون العمل بكد اليد ولو من أجل غيرهم ويحرصون على مساعدة الآخرين بشكل عجيب ومستمر ويتعاون مع الجميع في الأعمال الشاقة دون رجاء أجر مالي هذه بعض من صفات يتسم بها المتصوفون وإلا فخصالهم لاتحصى ومما يلتفت الإنتباه أن جل هذه الخصال الرائعة والصفات الجميلة إنما هي بواقع الأمر قواسم مشتركة تتسم بها الصوفية والعقيدة المسيحية ونلاحظ أن الروحانيات هي القاسم الأعظم المشترك بينهما ناهيك عن الزهد والمحبة والعطاء والبذل والتسامح.

اقرأ أيضاً: الكآبة ولائحة الممنوعات تجتاحان الشعب الإيراني

في أوطاننا كان ولازال تمتاز الشعوب بالبساطة والمسامحة والانفتاح وحسن الوفادة والمعاشرة وللأسف منذ عقود طويلة تعرض أهل الصوفية للقمع والتنكيل والسجن والقدح بل وكانت الأحكام القضائية تطالهم مع الجلد لسنوات بسبب معتقدهم وهذا مرده آحادية الفكر المتشدد المتزمت وثقافة تكفير المخالف له من الصوفية وغيرهم وقطعا غير المسلمين من باب أولى!! نحن بحاجة للصوفية والمتصوفين والصوفيين الحقيقيين نريدهم لتعود لمجتمعنا البساطة والمحبة وتتفشى به ثقافة التسامح والمغفرة وقبول الآخر لننعم بأجيال قادمة واعية متنورة منفتحة ولننعم بالأمن والإستقرار وطالما أن هناك قواسم مشتركة بين الصوفية والمسيحية فإذن تواصلنا مع الآخر ستكون ممكنة وسهلة لنعرف الآخر ويعرفنا ونصنع جسور الود والوئام والمحبة مع الجميع ونقضي على ثقافة التكفير والتفخيخ واستحلال دم ومال المخالف مسلما كان أم غير مسلم إن أعدنا دور الصوفية في العالم العربي ورفعنا الظلم عنهم سننعم بالعلاقات الإنسانية كلها ونجتث فكر داعش وبقية أخواتها من مجتمعنا ونقضي على الإرهاب فكريا وهذا أهم من الحل الأمني وأولى! فهل نرى عقلاء يتبنون ثقافة المحبة والقبول للآخر ؟ بدلا من حلول مبنية على تمييع الدين والمذهب وتحريفها عن حقائقها!! فنختم بمقولة روني شار: «نحن نعيش في عالم يحتضر ويجهل أنه يحتضر، ويمعن في الكذب على نفسه لأنه يصر على تزيين غروب شمسه بألوان شروق العصر الذهبي».

*باحث ومتخصص بالمعارف الإسلامية

السابق
ترامب لن يكون برداً وسلاماً على روسيا
التالي
هل إستحقت «كلينتون» الهزيمة؟