انتخاب عون رئيسا للجمهورية: تكريس لـ «الواقعية السياسية» في زمن اختلال موازين القوى

ميشال عون رئيسا للجمهورية. هو حلم قديم لرجل «ارتطم» في ثمانينات القرن الماضي بأمواج عاتية حين سار «عكس تيار» التوازنات الإقليمية والدولية والتسوية الكبرى للحرب اللبنانية. فكان أن خرج من المعادلة، في سنوات منفاه الباريسي، ليعود إلى لبنان بعد «انتفاضة 14 آذار» عام 2005 التي وُلدت من رَحم اغتيال الزعيم السنّي الرئيس رفيق الحريري، في مشهد توحّدت فيه إرادة اللبنانيين، مسلمين ومسيحيين، على إنهاء الوصاية السورية، وأدى إلى خروج الجيش السوري من لبنان بعد ثلاثين عاما من الوصاية. لكن عودة الجنرال حملت في طياتها تحوّلات أساسية في التوجهات السياسية الاستراتيجة. فمن عدو لدود لسوريا و «حزب الله»، الميليشيا المسلحة إيرانيا، إلى حليف لمحور طهران ـ دمشق ـ حارة حريك (حيث المقرّ الرئيسي للأمين العام لـ «حزب الله» السيّد حسن نصرالله)، بعدما التحق بركب «تحالف الأقليات» في المنطقة.
تمسّك هو بحلم الرئاسة ووقف حليفه «حزب الله» وراءه، من باب «الوفاء والالتزام الأخلاقي»، وفق توصيف نصرالله لرجل أمّن غطاء داخليا، عبر تياره المسيحي العريض، لإمساك الحزب بقرار الحرب والسلم في لبنان، ولاحقا لانخراطه في الحرب السورية في مواجهة «الإرهاب الذي ذهبنا إليه قبل أن يأتي إلينا» حسب مقولة نصرالله أيضا.
ستُنسَج روايات كثيرة حول كيفية وصول عون إلى سدَة الرئاسة بعد سنتين ونصف السنة من الشغور الرئاسي، وَضَع خلالها سيّد «حارة حريك» مفتاح قصر بعبدا الرئاسي في جيبه، معلنا بالفم الملآن أنه لن يُخرجه إلا لـ «جنرال الرابية» (مقر إقامة عون) ما دام الأخير لا يزال يراوده حلم القصر. روايات تبدأ من «صنع في لبنان» ولا تنتهي عند اتفاق أمريكي ـ إيراني.
فوسط الغليان الذي يشهده الإقليم، والمواجهة المستعرة بين إيران والمملكة العربية السعودية، على وقع تداعيات الاتفاق النووي الإيراني، ووسط قلق أوروبي كبير من تدفق اللاجئين من شواطئ المتوسط إلى القارة العجوز، وقرار دولي بتأمين مظلة حماية للاستقرار في لبنان وتوفير مقوّمات صمود له لتمكينه من استيعاب عبء النزوح السوري وعدم انفجاره في وجه الجميع، يمكن فهم هذا الاختراق السياسي الذي يتجاوز التوافقات الداخلية والصناعة المحلية إلى ما هو أبعد من ذلك.
ويُشكّل المسار الإيجابي الذي تسلكه العملية السياسية مؤشرا واضحا على حجم التفاهمات الإقليمية والدولية حيال هذا الاستحقاق الرئاسي، وما يليه من استحقاقات دستورية، والضمانات المقدّمة على هذا الصعيد.
فحين بدأت تتسرّب المعلومات عن احتمال أن يسير زعيم الغالبية النيابية، الزعيم السنّي سعد الحريري بخيار تبنّي عون للرئاسة، ظنّ كثيرون أن ذلك لا يعدو كونه محاولة داخلية جديدة من الحريري لإنهاء الشغور الرئاسي، وهي تاليا لن تؤول إلى إنجاز الاستحقاق، بعدما جرى ربطه، بشكل مباشر أو غير مباشر، بتطورات الأوضاع في المنطقة من بوابة الأزمة السورية، وما دام أوان التسوية الكبرى في المنطقة لم يَحن بعد، في وقت يجهد «حزب الله» لإبقاء الانتخابات الرئاسية اللبنانية ورقة من أوراق القوّة في يد إيران لاستخدامها على طاولة مفاوضات تكريس نفوذها في المنطقة، أو رسم معالم وحدود هذا النفوذ.
وبدا أن السقف العالي لرئيس مجلس النواب نبيه بري، أحد قطبي «الثنائية الشيعية السياسية» المتمثلة بـ «حركة أمل» و «حزب الله»، في مواجهته خيار عون، هو مِن المؤشرات على عدم جهوزية «الطبخة الرئاسية»، ليتبيّن لاحقا أن الشريك في «الثنائية» حجب عنه ما كان يجري في عواصم القرار من ترتيبات للواقع اللبناني، من واشنطن إلى طهران وما بينهما في باريس وموسكو والرياض.
لا شك أن ثمة تحوّلات داخلية وعوامل طارئة على المشهد اللبناني كان لها أثر ما في تظهير لوحة الرئاسة، لكن اكتمالها ما كان ليتم لولا «كلمة السر» الآتية من الدول المؤثرة في الساحة اللبنانية، سواء في تبني شخص الرئيس العتيد أو ما خص واضعي «الفيتو» عليه.
فقد يصحّ القول أن المصالحة المسيحية ـ المسيحية بين «أعداء الأمس»، «التيار الوطني الحر» بزعامة عون، وحزب «القوات اللبنانية» بزعامة سمير جعجع، وذهاب الأخير إلى الانسحاب من السباق الرئاسي وتبني ترشيح عون، أسهمت في رفع أسهم حظوظ الجنرال بعدما حظي بغطاء مسيحي أوسع. ويصح القول أن جعجع، بفعلته هذه، قطع الطريق على تسوية كانت تُطبخ لوصول ابن منطقة زغرتا الشمالية سليمان فرنجية إلى سدّة الرئاسة، وهي تسوية اعتبر أنها ستفضي إلى إقصائه عن المشهد السياسي، أو على أبعد تقدير، إلى تحجيمه. وسُجلت له على أنها «ضربة معلم» في قلبه الطاولة على رؤوس الحلفاء والخصوم في آن، مِن منطلق أن اتحاد الحزبين المسيحيين الأكبر والأكثر تمثيلا في البيئة المسيحية من شأنه أن يُضاعف من قوتهما، ويُعيد الاعتبار إلى المسيحيين كقوة وازنة قادرة على فرض خيارها على الآخرين في إطار لعبة الطوائف وحقوقها، بعدما آل العداء والانقسام المسيحي ـ المسيحي إلى خسارة الطائفة المارونية ثأثيرها السياسي التاريخي، والتي قام لبنان على «فلسفة» حمايتها، بحيث أضحى رموزها، في زمن الوصاية السورية، موزعين بين المنفى والاعتقال، ولم يستعيدوا التأثير الفعليّ في القرار بعد عودتهم إلى المعادلة اللبنانية كلاعبين مفترض أن يكون لهم الثقل الذي كانوا يتمتعون به في غابر الأيام.

اقرأ ايضًا: التسوية: لحزب الله الحرية الأمنية وللحريري الحرية الاقتصادية
وإذا كان هناك تاليا من تسليم بأن رئيس الجمهورية سيكون حليفا لمحور طهران وامتدادا لذراعها الأمنية ـ السياسية المتمثلة بـ «حزب الله»، بما يمثله في النسيج اللبناني، فليكن عندها الزعيم المسيحي الأقوى ضمن هذا المحور. هو تحوّل يشي، في جانب منه، بأن جعجع الذي رفض في مساره السياسي السابق الانسياق وراء منطق «الواقعية السياسية»، التي كانت موازين القوى تفرضها في زمن إحكام سوريا قبضتها على لبنان، وأفضى به إلى قضاء أحد عشر عاما في السجن، فيما كانت قوى مسيحية أخرى، ومعها قوى لبنانية من طوائف أخرى، تتعامل مع الوجود السوري من منطلق هذه «الواقعية» وموازين القوى التي تحكم لبنان والمنطقة، قرّر في نهاية المطاف سلوك نهج مختلف يُؤمّن له موقعا في المعادلة الجديدة من باب مساهمته في إيصال عون إلى سدّة الرئاسة، يجعله قادرا على تعزيز وجوده وقوته ضمن البيئة المسيحية، وعلى أساسها شريكا وازنا في الحُكم.
هذا التحوّل قرأه ممثلو الطوائف الأخرى بدقة. فـ «حزب الله» الذي دأب أمينه العام، في كل مناسبة، على التأكيد أنه يدعم الجنرال، أصبح في موقع المُطالب بالإيفاء بما تعهد به، لا سيما بعدما باتت لدى عون شرعية مسيحية أكبر. وبُدئ العمل على زعزعة العلاقة التي نسجها الحزب مع العونيين من خلال خلق حال من التشكيك لديهم حول حقيقة موقف الحزب، فيما وصل الحال بقيادات التيار، ولا سيما «صهر الجنرال» وزير الخارجية جبران باسيل وآخرين، إلى استعادة مفردات بدايات الحرب الأهلية وارتفاع منسوب الخطاب الطائفي والتحريض ضد المسلمين السنّة، من زاوية أن «الشريك السنّي» زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري يرفض السير بالممثل المسيحي الأقوى. وقرأ الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، الذي لا يزال يعمل على توثيق عرى المصالحة الدرزية ـ المسيحية في الجبل ذات الوجود الدرزي ـ المسيحي بغالبيته، ملامح ما يمكن أن يُفضي إليه هذا الخطاب.
إنه اللعب على وتر إنتاج حرب أهلية جديدة، مع نزعة لضرب الصيغة اللبنانية وتعديل آليات الحكم، في وقت يستفحل الصراع السني ـ الشيعي في المنطقة رغم ما يُبذل من جهود لخفض وتيرته في لبنان، فيما تعلو اللغة الانفصالية لدى كثير من الأقليات، ويبدو مستقبل حدود الدول غير واضح المعالم. فارتفاع الخطاب الطائفي المسيحي ـ السني في غمرة التأزم السني ـ الشيعي، وفي ظل وجود ما يزيد عن مليوني نازح سوري سني في لبنان، وتزايد انخراط «حزب الله» في الحرب في سوريا وما تشكله من عنوان مواجهة طاحنة إقليمية ودولية، وتزايد الضغوط المعيشية لدى فئات واسعة من الشرائح اللبنانية، مضافا إليها تداعيات الحرب السورية وأعباء النزوح بما ينذر بخطر حقيقي من انهيار اقتصادي ـ مالي ستكون نتيجته استشراء الفوضى في البلاد وعدم قدرة الأجهزة الأمنية على ضبط الاستقرار، بما يوفر أرضية خصبة لنمو حالات التطرّف واستجلاب الإرهاب، وانهيار المؤسسات والتشكيك بميثاق العيش المشترك ووثيقة الطائف التي أنهت الحرب الأهلية والحديث عن حاجة إلى مؤتمر تأسيسي يُعيد إنتاج دستور جديد للبلاد، هي معطيات كانت حاضرة لدى قراءة المشهد اللبناني، التي دفعت بدورها بالحريري إلى تبني خيار عون بما يحمله من «مخاطرة سياسية» عبّر عنها بوضوح في خطاب ترشيح الجنرال، والذي «حلّ» به العقدة الأخيرة والأهم في رحلة الوصول إلى قصر بعبدا. فمن دون الغطاء السني، لم يكن ممكنا لعون أن يصل، ولا كان ممكنا لـ «حزب الله» أن يخاطر في الذهاب إلى خطوة يعلم أنها «الوصفة السحرية» للانفجار السني ـ الشيعي في البلاد، لكنه نجح في نهاية المطاف، وبعد سنتين ونصف السنة، في «تدجين» القوى الرافضة للخيار الذي تبناه، ودفع الجميع إلى السير به، سواء على توقيت ساعته أو نزعا لفتيل صاعق كان يمكن أن ينفجر في أي توقيت.
على أن ارتفاع الصراخ لبعض حلفاء سوريا «بأن الحريري يُكلّف برئاسة الحكومة لكنه لن يُؤلف»، و «أن لا رئيس للحكومة يمكن أن يأتي من دون موافقة دمشق»، كان في واقع الأمر صراخ المفجوع بأن مفاعيل وصاية الرئيس السوري بشار الأسد في لبنان قد عُلقت إلى أجل غير مسمى، وحلت محلها مفاعيل الوصاية الإيرانية، وأن «حارة حريك» أضحت بديل «عنجر»، وأضحى نصرالله «بديلا» لرستم غزالة (ممثل النظام السوري في لبنان)، أقله في المدى المنظور.
التسوية في لبنان سلكت طريقها في جزئها الأول، حيث انُتخب عون بـ83 صوتا. وشكّلت الأوراق البيضاء الـ36 فسحة لتنفيس احتقان رئيس المجلس من التسوية التي استبعد عنها، وهو الطبّاخ الماهر، الذي نحج سريعا في استيعاب «طعنة الحليف»، وإن كان صوّب غضبه على الحريري، فأعلن عن فتح صفحة جديدة مع العهد الجديد. كما سلكت طريقها في جزئها الثاني من خلال تكليف الحريري لرئاسة الحكومة بـ112 صوتا مع إحجام «حزب الله» و «حزب البعث» عن التسمية، وهو موقف دَرَجَ «حزب الله» على انتهاجه منذ زمن الاستشارات النيابية التي كانت تأتي برفيق الحريري رئيسا، والاستشارات التي أتت من قبل بسعد الحريري رئيسا وتعيد الإتيان به اليوم.
أما الجزء الثالث من التسوية المتمثل بتشكيل حكومة الحريري، فإن مسار التطورات يشي بأن قرار تسهيل التأليف قد اتّخذ، وأن الحكومة ستبصر النور في غضون أسابيع عدّة وليس أشهر عدة، كما جرى معه حين كُلف تأليف الحكومة ما بعد انتخابات 2009، فالحكومة الراهنة هي حكومة العهد الأولى، وعرقلتها هي عرقلة لانطلاقة العهد الحليف لـ «الحزب» الذي يرغب في تقديم نموذج مُشجّع ومُشع للداخل والخارج عن رعايته للحلول والتسويات ووصاية راعيه الذي يخوض كل هذه الحروب في المنطقة من أجل انتزاع اعتراف بنفوذه فيها.
التسوية تفترض تنازلات متقابلة، وهو ما تأمّن من خلال قبول «حلفاء أمريكا ـ السعودية» بانتخاب مرشح «محور إيران» بما يشكله من ضمانات استراتيجية لهذا المحور، وفي مقدمها عدم التطرّق لسلاح «حزب الله» ولانخراطه في سوريا، ومن خلال قبول محور إيران، في المقابل، بوصول رمز السعودية في لبنان سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة، بعدما كان أطاح هذا المحور، حين اختلت موازين القوى في المنطقة عام 2011، بالحكومة الحريرية الأولى، رغم التعهدات التي قطعها في «اتفاق الدوحة» الذي أنتجته «غزوة حزب الله» في 7 أيار/مايو 2008 لبيروت والجبل. وستحكم «الواقعية السياسية»، التي أضحت عنوان المرحلة في لبنان، «البيان الوزاري» بحيث يأتي فضفاضا، واضحا حيث يجب، وضبابيا حيت تقتضي الضرورة، بما يُريح الجميع ويوحي بتأمين مصالحهم، وهو كان حال خطاب القسَم للرئيس العتيد، الذي أكد الالتزام بـ «اتفاق الطائف» وتطبيقه كاملا مع تطويره، حيث الضرورة، من خلال توافق وطني والالتزام بميثاق الجامعة العربية والابتعاد عن الصراعات الخارجية، وتحدث عن المقاومة وإن كانت من دون «ال التعريف» وعن الحرب الاستباقية، فأعطى كل الأطراف ما ترغب بسماعه، فكان أن خلق ارتياحا عاما داخليا وخارجيا، وإن كان خطابا غير ملزم.
وتبقى العبرة في ما شهدته شوارع لبنان… «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» يحتفلان بانتخاب عون كرمز لعودة الاعتبار للمسيحيين الذين خرج زعيمهم الأقوى في 13 تشرين الأول/اكتوبر 1990 مهزوما من قصر بعبدا، وعاد إليه في 31 من الشهر ذاته بصفة الرئيس العتيد الرقم الـ13 معيدا الثقة إلى شارعه الذي شعر بالهزيمة والإحباط والانكسار.
و«تيار المستقبل» يحتفل بعودة زعيمه الأقوى إلى السلطة بتسميته رئيسا مكلفا لتأليف الحكومة، بعدما شكّلت الإطاحة به إنكسارا وتأزما وإحباطأ له، فيما «حارة حريك» تحتفل بتحوّلها إلى «عنجر» ثانية، حيث القرار الفعليّ، ويُدخل «حزب الله» إلى أدبياته مصطلح «السيادة الوطنية» في وقت ينتهك فيه سيادة الدول علانية، ويمضي في مشروعه وفقا لأجندته الإقليمية ومقتضيات حمايته!.

السابق
كلمتان خسرتا مارك زوكربرغ نحو 2.5 مليار دولار!
التالي
حزب الله ينعى في شهر ويومين 40 مقاتلا سقطوا في سوريا