هل انتهت حرب الوكالة في العراق وسوريا

بدلا من أن تصبح معركة تحرير الموصل وطرد داعش معركة استنهاض لكل قيم العراقيين الأصيلة، تصبح قبيل تحريرها بأيام ميدانا لمساومات اللاعبين الذين يقتربون من المواجهة المباشرة.

ليس بمقدور التاريخ البعيد والقريب للعراق وسوريا والمنطقة أن يكون له دور في صناعة الواقع الجديد لهذين البلدين اللذين أصبحا مركزا لصراع لنفوذ القوى الكبرى والصغرى، ذلك أن استحواذ المصالح يتم اليوم في أخطر مرحلة صنعتها السياسة الأميركية في العراق وروسيا الجديدة في سوريا، واستثمرتها إيران الباحثة عن اعتراف عالمي بنفوذها الذي بنته بسرعة منذ الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003.

ما يحصل اليوم في العراق وسوريا متشابك، فحرب الوكالة قد تكون وصلت إلى نهاياتها لأن الوكلاء من الجماعات العرقية والطائفية ومن بينهم تنظيم داعش قد تعبوا وأنهكوا رغم أنهم قتلوا البشر ودمّروا مرتكزات الحضارة، وكان على الكبار أو أشباههم أن يدخلوا في صورة المشهد الجديد، فالعجينة تماسكت وأصبحت جاهزة للخبز. حيث تبدأ اللعبة الكبيرة في صياغة المنطقة انطلاقا من العراق وسوريا، ليس المهم من يكون أولا: العراق أم سوريا.

في العراق تم تعيين الوكلاء بصورة رسمية وعلنية، عيّنتهم أميركا بواسطة مندوبها بول بريمر الذي اختارهم بعناية وفق القواعد الطائفية مستثمرا لعبة “المظلومية” للحصول على أعلى درجات الولاء للمحتل لدرجة جعلته يهينهم ويكسّر مهابة بعضهم الدينية والعشائرية بإغداق المناصب والمال بصورة لا حدود لها رغم أنه شتمهم جميعا بعد مغادرته العراق، ولم يتمكن أحد منهم، سواء خلال فترة الاحتلال أو بعدها، من أن يرفع وجهه قبل صوته بوجهه، لأنهم يعرفون من أين جاؤوا وكيف أصبحوا؟

ومنذ ذلك التاريخ فتحت الأبواب أمام أبشع حرب داخلية أهلية، حتى وإن هدأت نيرانها التقليدية في أيام لتشتعل بعد أيام أخرى، وأغلقت سياسيا أبواب السلم الأهلي لدرجة أصبحت أسماء الأفراد ومنابتهم المناطقية والعشائرية والمذهبية عناوين للقتل والملاحقة والتصفيات الجسدية والحرمان من الحقوق المدنية، وحرقت جوامع وحسينيات وارتفعت التكبيرات على المآذن تفرق ولا توحّد، وابتدعت طقوس غيّبت التاريخ الموحد للمسلمين واستحضرت الكراهية والثأر وألغيت هوية العراقيين لتحل محلها عبارات “النواصب والروافض”، وسخرت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي لتقديس حرب الثأر والطائفية لتتحول بعد عمليات غسل دماغ للبسطاء إلى عناوين للحملات الانتخابية لثلاث دورات سابقة.

أصبح التطرف دليل الرجولة والشجاعة أمام الاعتدال والوسطية لأنه دليل الضعفاء. ودائماً التاريخ لا يصنعه الضعفاء. أما العروبة وهي عمود هوية العراق، فقد محاها الدستور الجديد من ميثاقه، تلبية لرغبات أصحاب المنهج الطائفي، وبعد أن كان العراقيون يتفاخرون بأدوارهم القومية في العصر الحديث بفلسطين وسوريا، تحولت إلى غصة في صدور الناس لا يستطيعون النطق بها، لكي يصبح من يجرؤ على ذكرها منبوذا وقد يشكك في أمره وبأنه خاضع لأجندة هذه الدولة العربية أو تلك، وبدلا عن ذلك عليك أن تقول إنك سني أو شيعي أو كردي، ولعل الناس تقبل بهذه التوصيفات لو أنها تعيش برخاء وأمان، لكن المطلوب أن تعيش سنيا مهانا وضائعا، وأن تعيش شيعيا متخلّفا محروما من أبسط مقومات الحياة لكي يسهل انقيادك للسياسيين.

كان المتوقع أن تتوقف ماكنة حرب الوكالة بعد كل الذي جرى في العراق من تدمير لنفوس الناس وتحطيم لكراماتهم، لكن الذي شحنها مجددا احتلال رمز التطرف السني داعش لثلث أرض العراق ليقابلها التطرف الشيعي بالمزيد من التصعيد، وليدخل العنصر الكردي في اللعبة رغم أن الأكراد قد حصلوا على ما كانوا يحلمون به قبل الدولة المستقلة.

كان يمكن للمواطنة العراقية أن تستيقظ على إيقاع الحرب ضد داعش في العراق لو وجدت من يوقظها من أولي الأمر الحكام، لكن لم يحصل ذلك، فتمدد أخطر وكيل دولي داعش في كل من العراق وسوريا لأنهما البلدان المستهدفان لسحق بنيانهما المادي والمعنوي ورصيدهما البشري، ولم يكن الرد بالمستوى الذي ينهي كل تلك الوكالات المدمّرة، بل برز أبطال جدد مسحوا الحدود بين سوريا والعراق عبر التعبئة الطائفية التي امتدت من البصرة إلى الأنبار والموصل والرقة، وأصبحت لهم فيالق ترفع رايات الثأر مقابل رايات المظلومية السنية الجديدة.

وبدلا من أن تصبح معركة تحرير الموصل وطرد داعش معركة استنهاض لكل قيم العراقيين الأصيلة، تصبح قبيل تحريرها بأيام ميدانا لمساومات اللاعبين الذين يقتربون من المواجهة المباشرة. وعلى الضفة الثانية سوريا كان الشغل بذات المضمون، لكنّه مختلف من حيث الشكل، ففي هذا البلد العربي الذي لم تتوفر فيه لعبة المكونات والطوائف كان مطلوبا استيرادها عبر تحويل قضية محلية داخلية تتعلق بالمطالبات الشعبية ضد نظام بشار الأسد عام 2011، إلى قصة تفجر الحرب الطائفية الداخلية بأشكال مريبة تتطور في ما بعد إلى تقسيم المجتمع السوري إلى علوي وسني وكردي وإلى ذرائع تبيح فتح الحدود أمام المتطرفين من كل صوب بعد أن جعل داعش من الرقة عاصمة لخلافته المزعومة، ليتواصل لهيب نار الحرب الطائفية من العراق إلى سوريا وبالعكس، وتتوحد العساكر الشيعية مقابل العساكر السنية، وتتراجع الوطنية السورية حتى لدى المعارضات السياسية، فإما أن تكون داخل أحد المعسكرين وإما أن تموت.

اقرا ايضًا: داعش يخوض معركة الموصل ويحوّل سكانها لدروع بشرية

كان مطلوبا استيراد احتلال خارجي من نوع جديد هو الاحتلال الروسي، الذي دخل سوريا متأخرا قبل سنة، حيث وجدت روسيا فرصتها التاريخية لجعل سوريا وسادتها المريحة وموقعها الاستراتيجي الذي يناطح أميركا مجددا، وهي لا تمتلك وكلاء محليين لحسابها على طريقة إيران وأميركا، لكن لديها بشار الأسد غير المكترث بمقايضة حفاظه على كرسيّه بدماء أبناء الشعب السوري، كما استثمرت روسيا تراخي إدارة أوباما وشل الذراع العسكرية الأميركي في المنطقة بعد اختلال توازن الصراع العسكري لصالح المعارضة السورية التي فهم انتصارها ضد الحكم بأنه انتصار لقوى التطرف السني، حتى أصبح من يدعي المعارضة يعني أنه إرهابي داعشي.

كان المطلوب أن يتقابل الجيشان الطائفيان من الجهتين، ثم يدخل المحتل الجديد منحازا للنظام وحارقا للأخضر واليابس. ثم تستكمل أقطاب الصراع إقليميا من خلال تركيا القومية مقابل إيران الفارسية. ويصبح مشهد اللعبة أكثر اقترابا من حرق الأصابع، وتتداخل القوى الكبيرة وتقترب من الاشتباك (أميركا المتراخية وتركيا الباحثة عن أمنها الداخلي وإيران المتمسكة بالعراق، وروسيا الجامحة للتربع على مقعد الاتحاد السوفيتي).

أبطال حرب الوكالة في العراق وسوريا كثر ولهم منزلاتهم المتعددة بمدى قربهم من ولي النعمة، وأخطرهم أولئك المتطرفون (شيعة وسنة) تقدمهم داعش لأنه وكيل دولي اشتغل على العراق وسوريا. ويبدو أن تلك الوكالات اقتربت من انتهاء صلاحياتها. ولعلها في العراق ستعود بعد تحرير الموصل من داعش لاستلام مكافآتها في الحكم إن بقي العراق موحدا، أما في سوريا فالأمر أكثر تعقيدا ولم تتم بعد تصفية الحسابات لأن الوكلاء كثر وبينهم من لم تكشف تبعياتهم لحد الآن. هل هي إيران أم تركيا أم أميركا، وما هي الأثمان التي لن تحدد إلا بعد قيام كيانات جديدة على أعقاب الدولة السورية؟

السابق
مصادر تنقل عن بري: سنكون خارج السلطة.. في صفوف المعارضة
التالي
بدائل بوتين صواريخ الحوثيين؟