«أوراق الليل» لطراد حمادة… ليل العارف

إذا كان "الفِعلُ الشِّعريُّ هو فعل الرّؤية الشّعرية للعالم" (يمنى العيد)؛ وإذا كان "التفسيرُ العِرفانيّ للوجود، هو الرؤية العِرفانية لعالم الوجود" (الشهيد مطهري)، فإنّ الشاعر (الوزير السابق) والكاتب والدكتور طراد حمادة، وفي مسيرته الشعرية/ العرفانية استطاع، وبقدرة فنيّة لافتة، الجمع بين الرؤيتين، بتوحيدهما توحيداً عضويّاً، بحيث يستحيل الفصل بينهما، على صعيدي، شكل ومضمون القصيدة عنده (مبنًى ومدلولات)، في كلّ عوالمه الشِّعريّة المتميّزة بنبضٍ إبداعيّ حيّ، نَدُرَ مثيله في الشِّعر العرفانيّ، في عصرنا الحديث.

فطراد حمادة، تحوّلت القصيدة العرفانيّة على يديه، إلى شِعرٍ خالص، أو شعرٍ محض، من خلال حدْثَنتهِ الواضحة لشعرية هذه القصيدة، بإضافته البُعد الواقعي (الموضوعيّ)، إلى بُعْدِها الجوهريّ والأساسيّ، والذي هو المحوريّة الباطنيّة (الذاتيّة)، لشاعر القصيدة العرفانية، عموماً. فقصيدة طراد حمادة تأخذ من الواقع/ الموضوعيّ مادّيّتها الظاهريّة ومن الواقع الذاتيّ/ الشخصيّ سُمُوُّها الروحانيّ/ الباطنيّ، وهي تنبني من خلال التلاحُمِ العضويّ بين الفكر وتقنيّات تقديمه، ومن خلال ما يتميّز به نصُّها بلغته الخاصة، والتي هي لغة فلسفيّة، فيضيّة، إشراقيّة، (لغة الفيض الإشراقيّ الكشفيّ/ ذوْقيّاً/ قلبياً ووجدانيّاً/ فلسفياً (عقليّاً)، إذ هي لغة منبثقة من نظرة ثاقبة نابعة من التحام (الرؤية والرّؤيا) لـ وحدة الوجود.

اقرأ أيضاً: رواية «ألواح» لرشيد الضعيف… عن مشاعر مدعاةً للخجل!؟

وإننا نلمس هذه الإضافة مجدَّداً، في “مِعراجه الروحيّ” الجديد، المتمثِّل بديوانه: “أوراق الليل”، الصادر حديثاً عن “دار الجمل” في بيروت وبغداد (في طبعة أولى 2016).

يتأسطر الليل، في هذا الدِّيوان، كرمز (عرفاني) أثير، وأصيل، وثريّ بغزارة مدلولاته ودلالاتها، المتعدِّدة والمتنوِّعة والمختلفة، يتأسطرُ هذا الليل هنا، إذ تُؤسطره مواجِدُ العارف الذي تُذهِله حيرته، في حالتي “صحوه” و”سُكْرِهِ” الرُّوحيّين، وعلى السّواء. ذلك لأن هذا العارف هو “العاشق الإلهيّ” المُجتهد في البحث الحثيث الدّؤوب والمُضني عن نور المعنى (معنى المعنى) بغية تحقيق الكشف المشعّ عن حقيقة الكون والإنسان ومآلِهما المتكثِّر الشاهد على وجود الخالق الواحد الأحد، (واجب الوجود)، هو الله سبحانه، هو الفرد الصّمد جلّ وعلا.

ولنا أن نقرأ: “من يسهرُ في هذا الليل/ هو السّهران/ من يشرب من ماء النِّيل/ هو السَّكران/ من يُبْحرُ في طُوفانِ السَّيل/ لا يلْقَى اللؤلؤَ والمرجانْ/ أسئلة حَيْرى/ لا تجِدُ في أجوبة/ العُشَّاقِ،/ سوى النِّسيانْ./”. هذا هو المُتَخيَّلُ الشِّعريُّ لـ”أوراق اللّيل”، الذي نرى فيه “دوران المُريد على إيقاع أنفاسه” الحرَّى “… كطائرٍ حملتْهُ

الرِّياحُ/ رغم الجناحِ إلى معراجه/ الصّاعد، الهابط/ كشلاّل نُوْرٍ صاعق حتَّى/ حدود الجنون”، وذلك على مدى قوسَيْ الصعود، والنّزول.

وشِعريّةُ هذا الدّيوان تتمظهر مداليلُها، وتتجلى كشوفاتُها المعرفيَّة، على مدى ستّة عشر قصيدة، اخترنا منها ما يلي:

من قصيدة “أوراق الليل” التي أعطت الديوان عنوانها:

سرُّ الليل/ يُهدى للسكارى/ الريحُ في الليل/ تشعلُ مصابيحها./ أخبري السريرَ/ أن الليل آتٍ/ واصغي إلى عزفه./ تتعرّى الأشجار/ في الليل/ وتغفو على أسرّة/ الريح.

هل تعرفين لماذا/ تصيح الديكَة/ في الصباح الباكر؟/ لأن أُنثاها/ تفيق من النوم.

أعارني الليلُ صمتَه/ فنطقتُ بما لا أعرفُ/ فنطقت بما لا أعرفُ/ أعارني الليلُ صوتَه/ فأصغيت إلى موسيقاه/ أعارني الليل ثوبَه/ فارتديت عباءَة/ الغريب/ أعارني الليل دربَه/ فمشيتُ بخطى واثقة/ إلى دارة الحبيب.

كتاب

تكشف المرأة عن حسنها/ في الليل/ والظن أنها تقيم/ في مرآته/ تقول: لعلها واحدة/ من النجومِ/ وليس للقمرِ في عشقه/ سوى النظر إلى مرآة/ حسنها/ ليطلق الخيال.

تصوّري/ لو كنتِ نجمةً/ وكنتُ القمر الوحيد/ هل يكون الليل/ منزل عشقنا/ أو يكون النهار؟

اقرأ أيضاً: كتاب لشيركو كرمانج يطرح تصوّراته لمستقبل الدّولة العراقيّة

ومن قصيدة الهجران:

ذهبَ الصوفيُّ العاشقُ/ إلى شيخ الحانة/ يسألهُ في أمرِ الهجرانِ/ وأمرِ الفَقد/ قال: يا شيخَ الطُرقِ الصوفيّة/ يا نورَ الحان/ أسعفني،/ تركتني عاشقتي/ ذاتَ صباحٍ،/ كنتُ أُمّني النفسَ/ أن نذهب للبحرِ كلانا/ ونعومَ خلفَ سفينةِ نوح/ يسكنُها من كلّ زوجَين اثنين/ لكن هجرتني/ وارتحلتْ ناحيةَ البرّ/ إلى الصحراء،/ يجذبُها الرملُ، وواحات الصيّادين/ وأهازيج البدوِ الرحّل،/ كيف ستمضي نهارات/ القيظِ مع القطعان/ ويأتي رعاةٌ يصفّرون لها/ أغنيات في قصب الناي/ مثلما يفعل صبيانُ الجان/ وإذا ما استوفت رغبات/ الصحراءِ،/ هجرتهم ذاتَ صباحٍ/ مثلما هجرتني/ إلى أعلى جبال القوقاز/ تشغل حطباً في مواقد فرسانِ/ الريح،/ تُلبسهم قمصان الصوف/ تعلّمهم لغة النحلِ/ تشير إليهم أن يتبعوا/ في الترحال، أيامَ الصحوِ،/ وأن يبنوا منازلهم فوق/ القمم العذراء.

السابق
ترامب يشكك بنزاهة الانتخابات: الموتى يصوتون للديمقراطيين
التالي
زواج اسطوري لابنة «اللواء مرهج» على وقع مجازر حلب!