لا الشيعة هم الغالبون، ولا السنّة

يستشِف الإعلامي العربي من مقابلة مع الرئيس التركي أردوغان بأن علينا الإعتماد على العصبية السنّية لكي نمضي قُدماً في معاركنا الجارية. هو أردوغان لم يقلْ الكلمات بهذا الوضوح، ولكن الإعلامي العربي أحب أن يستخلص منها ما كان مهيئا لإستخلاصه؛ من ان الإنتماء السنّي هو خلاصنا، وليس علينا “حرج” طائفي في إعلاننا هذا. ثم يتابع، بكلمات كثيرة تدور حول فكرة واحدة: طالما ان أميركا تحب الشيعة وايران، وتعرقل خطوات أردوغان، وترفع قانون “جاستا” بوجه السعودية، وترفض إنقاذ سوريا السنّية، وتتعاون مع الشيعة في حروب طائفية… الخ، فان زعيمتي العالم السني، أي تركيا والسعودية، عليهما ان تدافعا عن السنّة… و”لا تُبالوا” (يكتبها ثلاث مرات متوجها الى زعماء تركيا والسعودية، في مقال متوسط الحجم). كذلك “نحن”، يضيف الإعلامي العربي، ليس علينا سوى الدفاع عن السنّة، وأن “لا نبالي”. بماذا “لا نُبالي”؟ أو “لا تُبالوا”؟ من تهمة الطائفية المذهبية.

من هنا يبدأ النقاش: مسألة “اللامبالاة” هذه، ألا تخفي خجلاً دفيناً، يقاوَم بالمكابرة، من دون النظر إلى مترتباته؟ مزيداً من الإنغماس في الصراع المذهبي، يدعو المستمعين اليه، “ولا تُبالي”… كأنه بذلك يوسّع دائرة الصراع المذهبي ويضفي عليه طابعا شبه رسمي؟ “لا تُبالي”! طالما ان الأميركيين ينظرون إلينا كسنّة… فان الردّ الوحيد عليهم هو أن نصدقهم، ان نستجيب لتصوراتهم، أن نكون فعلا سنّة، وبذلك نفلح…

 

والحال ان العرب، الذين نحن منهم حتى إشعار آخر، ليس لهم دور أصيل، ولو محدود، في الصراع الدائر اليوم. أعظمهم شأنا ينتظرون الحلف مع قطب تركي، قومي تركي بالسليقة، أن يلمّح بشيء من السنّية، حتى يصبح منقذنا من براثن العداء السنّي-الشيعي. “الحليف” التركي هذا الذي يتأرجح أصلاً بين الأطلسية والبوتينية، بين الغرب والشرق، ولا يبادر عسكرياً إلا بموافقة أحدهما، أو بتواطئهما، أو صمتهما؛ الحليف التركي المحارب للكرد، وغالبيتهم من السنّة…! منه نستمد العزّة السنّية، فيما هو يشتغل مثل كل الناس من أجل مصالحه القومية. إلا العرب! ليس للعرب دور في الصراع الدائر اليوم. أما ان يجترعوا هذا الدور من العصبية السنّية، وبتبعية تامة للأتراك فوق ذلك، فهذا يعني أنهم لم يستفيدوا من مخيلتهم التاريخية، لم يوظّفوها، ولا هم اشتغلوا  على مواردها المعاصرة. أو انهم، في حرمانهم شبه المطلق من القرار في صراع يخصهم مباشرة، ويخص مستقبل مجتمعاتهم، لم يجدوا أمامهم إلا الخشبة السنّية التركية للإنقاذ، يعوّلون عليها ليبنوها على صورة الخشبة الشيعية، وعلى الدرجة نفسها من العصبية. وفي تصورهم انها، أي الخشبة، هي التي تخترع “الدور”.

اقرا ايضًا: نصرالله في خطاب الولاء لخامنئي والتحريض على آل سعود

المشكلة أيها الإعلامي العربي الحصيف، هي في العرب أنفسهم. الإيرانيون تمكّنوا من خرق مجتمعاتهم، والأتراك على طريقهم سائرون… متأخرون، ولكنهم، بمجرد مقابلة تلفزيونية تمكنوا من النيل من عقلك، وفرشوا لك طريق الخلاص المذهبي. وفي ذهنهم، وذهنك المثال الإيراني “الناجح”.

كيف تمّكن القطبان الإقليميان، المتنافسان غير المتخاصمين، أن يخرقوا هذا العالم العربي، وأن يغروا مكوناته الكبرى بالإلتحاق بأحدهما؟ كيف تمكّنت إيران من الاستيطان في لبنان واليمن والعراق، والآن سوريا بجيوش “شرعية”، وقد تسلّلت إلى المؤسسات، وكبرت على يد مرجعيتها الخامنئية؟ كيف تحولت تركيا، التي لا تقل قومية عن إيران، إلى قائدة للسنّة؟ الجواب في هوان الحصانة الوطنية، القومية منها و”القطرية”، في ضعف أنظمتها السياسية، في انعدام ثقافة القانون والمؤسسات لديها، في التهميش الذي ألحقته، حديثاً وقديماً، بالطوائف أو المذاهب الأخرى، بالأقليات الشيعية والعلوية، والمسيحية والبهائية والايزيدية… قانوناً وعرفاً وثقافة…. فخلقت بذلك ثغرة، تمكّنت منها القوى الباحثة عن فراغات توسِّع بها مجالها الحيوي، وتكسب على ظهرها نفوذاً فوق نفوذ… السنّة لا يستطيعون ان يتسنّنوا حقيقة، أي أن يصبحوا عصبية مماثلة للعصبيات الشقيقة، إلا اذا تحوّلوا كلهم إلى “داعش”، أو في أفضل الأحوال الى “الإخوان المسلمين”… كما هو الحال مع الشيعة، بأحزابهم الإسلامية. غير ذلك، فهم من العدد والكثرة بحيث انهم مختلفون بداهة، ولا يلتقي بعضهم بصفتهم السنّية، أي عصبيات مختَلَقة، إلا رداً على عصبيات أخرى، على صورتها نفسها، وطريقتها نفسها.

 

وساعتها، خذْ على صراع أهلي دموي طويل ومعقّد، لن يغلب فيه لا الشيعة ولا السنة، بل يهلكون لضيق مخيلتهم السياسية، الكسولة، ولعجزهم عن بناء دول حصينة منيعة، ترفع من شأن مواطنيها. الردّ الوحيد على كل هذه الدائرة المذهبية المغلقة، هو بكسرها عبر تبنّي القيم العالمية: المساواة، العدل، المواطنة، دولة القانون الخ. وإلا فثارات متواصلة، حروب المئة سنة… أبطالها الرئيسيون هم الصحابة وبعض زوجاتهم، وكلهم معمّرون، تجاوزوا الألف وخمس مئة عام…

السابق
كارثة كانت ستحل على اللبنانيين في العاشر من محرم لولا..
التالي
العجز الدولي بمثابة «اعتراف» بالاحتلال الروسي