والهولوكوست السياسي المستمر في لبنان؟

بول شاوول زياد الرحباني فيروز

ثم سمعنا ان العالم «المتحضر» صُعِق بهول الفظائع التي يرتكبها بوتين (وتابعه الأسد)، وخامنئي (وتابعه حزب الله)، بحق الشعب السوري وخصوصاً في حلب.

صُعِق صعقة كهربائية لا تجرح ولا تقتل ولا تؤذي ليعبّر «بقوة» عن قلقه (المعهود والاعتيادي) وكذلك عن «ادانته« الجاهزة هذه الأعمال البربرية، واستنكاره «الشديد اللهجة» ببلاغة ميلودرامية البربرية الساطعة بدماء السوريين. كأنها هزت «الضمائر» (الميتة!) وصولاً إلى ضمير أوباما «الغائب» وأوصال مجلس الأمن… إذاً ضجّ من ضجّ من العالم، بوسائطه الإعلامية بشيبه وشبابه وأحيائه وأمواته… وأضرحته المزهرة… انه الهولوكوست الجديد! كل هذا مؤثر. ردود فعل

انسانية «صادقة حتى العظم» لكنها لم تمنع صاروخاً واحداً من قصف العُزل والمستشفيات وتدمير المدن. ردود بلا فعل! فكيف يستقيم هذا التعبير؟ وحده بوتين بلا أسف، ولا عواطف، يفعل! يستمد من «دموع» المنددين العاجزين ومن تأوهات «المعارضين» جبروته. وحده يفعل! بل كلّما «ثرثر» هذا العالم بمراثيه واداناته استفحلت آلات حفيد ستالين وشروره.

اقرأ ايضاً : «جنوبية» تكشف تفاصيل معركة الجيش السوري وحزب الله في ريف حلب

لكن المضحك- المبكي، ان بعضهم صرّح بأنه فوجئ من هول ما يجري ليصرخ «غير مقبول» أو «يجب معاقبة الفاعلين» و»قطع التعاون معهم» (أميركا). فوجئوا اليوم كما فوجئوا ربما أمس في تضاعيف العصر القديم والحديث: وللتذكير: ما حدث في غروزني عام 1999 – 2000 عندما سوّى بوتين مدينة كاملة بالأرض، أو في رواندا عام 1994 وفي فلسطين عام 1948؛ وفي لبنان عام 1982 وفي سوريا الأسد في الثمانينات (40 ألف قتيل في بضعة أيام)… وما ترتكبه اسرائيل يومياً (وعلى مرأى من هؤلاء البكائين بحق الفلسطينيين… وايران بحق الشعب العراقي.

افتتح القرن الماضي بالثورة الشيوعية الدموية بقيادة لينين وأكمل فصولها ستالين وأبدع باقتباسها في الصين ماو تسي تونغ، وبربرَها بول بوت قائد «الخمير الحمر». والقرن الواحد والعشرون يفتتحه بوتين أيضاً، سليل ستالين وتروتسكي، ومعه خامنئي سليل الخميني فقيه التكفير… الذي أبدع في تصدير «أفكار» الثورة الجوفاء والتافهة والدموية…

[ الأيديولوجيا العلمية

في القرن العشرين كانت الأيديولوجيا «العلمانية» تلعب الدور الذي لعبه بعدها الطغاة من كل لون وجنس، ليتخذ الاستعمار شكلاً فكرياً جديداً «خلب الألباب». وطهّر النفوس من أدران الماضي: الانسان الجديد! العالم الجديد. التاريخ الجديد. الذاكرة الجديدة. الشعب الجديد. أي محو كل ما سبقه من انجازات وأنظمة وثقافات وحضارات. البدء «بسفر تكوين» جديد يعيد إلى الانسان حضوره بعدما «استلبه» «الدين» وخدّرته الخرافات وضيعته الخيالات. كل شيء حاضر لصناعة العالم «الجديد» الجنة الأرضية الخالدة. هذا الفكر القطعي، الاقتلاعي ورثه بجدارة «أبطال القرن الحادي والعشرين»: نتنياهو يستأصل الفلسطينيين بمستوطناته، بوتين ينتزع القرم يدمر الشيشان، يدجن جورحيا، وها هو يشن حرب ابادة على سوريا. لكن ماذا يعني ذلك، اذا كانت اللعبة لم تتغير بل تغير أبطالها فيعني ان شعارات التقدم، والتواصل والانفتاح والحريات والديموقراطيات… والمجتمعات المتعددة بَطُل مفعولها وسحرها وصارت عقبة في طريق تحقيق هذا العالم، أما قرين بوتين اي خامنئي، فقد حفظ درس الخميني والإخوان المسلمين جيداً: في نقطة تمزيق النسائج المتشابكة في العالم الاسلامي (السنة) والعربي.

أي اتباع سياستي الاستعمار والهيمنة وكذلك الاقتلاع وكأن الاثنين يحاولان تطوير مسالك الاستعمار القديم لتعززه باستيطانهم من جهة (أو احتلالها) وافراع الأرض من شعوبها… نسف الديمغرافيات والجغرافيات والتواريخ. وهذا بالذات ما يفعله بوتين وخامنئي في سوريا، ونتنياهو في فلسطين: التهجير هو العنصر الرئيسي. نريد البلاد ولا نريد اهلها «أي نريد أرضاً بلا شعب»، وهكذا يتسنى لهم «خلق شعب صاف» نقي، يخضع.. لهما أو يتماثل بهما. وقد يعجب القارئ من عدم ذكر كثيراً رمز السيادة السورية سيادة بشار الأسد، فذلك لأنه غير موجود… وإذا كان موجوداً فلكي «يشرعن» مخططات بوتين وخامنئي… الاقتلاعية والتدميرية. فهو.. اقل من بيدق وأكثر من عميل يبحث عن دور مستحيل له في سوريا بوتين – خامنئي – نتنياهو.

وبهذا المعنى نفهم أن بوتين وخامنئي يريدان سوريا كلها. لكن سوريا بلا خريطة واحدة بل بخرائط. سوريا بلا جمهورية واحدة بل بمستوطنات (تماماً كما هي حال فلسطين والعراق) سوريا بلا شعب، بل بقبائل تُجنّس بالإيرانيين: شعب يحل محل شعب آخر (التجربة الصهيونية) وهذا ما يؤول (أو كما يريدون أن يؤول) إلى فصل سوريا عن عروبتها واسلامها ومسيحيتها وثقافاتها. لا سوريا عربية إذاً ولا حتى سورية. (تماماً كما كان لبنان أيام السلطنة العثمانية). بلا هوية. ولا انتماء. جُزر منفصمة «لن تخلو من حروب مذهبية وطائفية. اذاً لا سوريا مجتمعية. هذا ما يفعله بوتين وخامنئي (بمباركة الضمير الغائب أوباما)، تفكيك المجتمع السوري، بحاضره وتاريخه وموقعه وأواصره وهذا يطاول الفرد نفسه. فبلد بلا مجتمع هو بلد بلا أفراد من هنا هذه النزعة البوتينية إلى تدمير العلاقات المجتمعية السورية، عبر هولوكوست القتل والتهجير والتدمير والمحو وارجاعه إلى حالاته البدائية. وكم سمعنا نتنياهو ومن قبله يصرحون انهم يريدون «اعادة لبنان إلى «العصر الحجري» إلى زمن الغرائز والنوازع الأولية بشروط هذا العالم «الحديث».

وهنا بالذات يلعب داعش ما رُسم له: اقتلاع العالم العربي الحديث ورميه في مجاهل الماضي والخرافات واللاتاريخ باسم الله والشريعة والمحرمات والوحشية والخضوع والجهل. أي عزل العالم الاسلامي والعربي عن تاريخه المضيء وربطه بعالم هيولي عدمي بلا قسمات ولا أرضٍ ولا حضور ولا هوية. وهنا يلتقي داعش بما يسعى إليه بوتين وخامنئي. الهدف واحد والأسباب متعددة لكي لا أقول متماثلة… فهو ربيبيهما!

إذاً ثلاثة مجرمي حرب يتحكمون بمصير الأمة العربية: نتنياهو وبوتين وخامنئي. ولكل أهدافه ومراميه تجمعهم «هولوكستات» يومية «مُبينة» وهمجية لا نجد مثيلها سوى عند هتلر وستالين وماو تسي تونغ… وهولاكو: حلب وفلسطين والعراق في براثن هؤلاء!

وماذا عن لبنان؟

لكن ماذا عن لبنان؟ نعم، فهذا البلد يعاني منذ 1975 ما يعانيه بعض الشعوب العربية اليوم من مجازر وتقسيم وهويات مفتعلة وتدمير مجنون مبرمج لم تغب عن ارتكابه أنظمة عربية مثل حافظ الأسد وعرفات وصدام حسين والقذافي من دون أن ننسى اسرائيل. وما شهدنا من محاولة تغيير ديمغرافي بالتهجير القسري في مناطق عديدة من لبنان، يذكرنا بما يجري اليوم.

فإذا كان الأمس «أسود» فما بالك اليوم. فحزب إيران «اللبناني» (مدعوماً) بإسرائيل وأميركا وطهران يرتكب منذ عقدين هولوكوستات «سياسية» في لبنان تحت تهديد السلاح. فاذا كان وراء كل هولوكوست مرام «سياسية» فان الهولوكوست السياسي في لبنان يخفي هولوكستات أخرى من الخراب والتهديد والتدمير. الهولوكوست اللبناني المتواصل الصامت لا يقل خطراً عن شبيهه المدوي في سوريا والعراق. كأن الهولوكوست السياسي البطيء والمبرمج والمدروس لتدمير الدولة هو ذاته الذي يتم بالسلاح والكيماوي والكلور والقنابل العنقودية والفراغية والبراميل والمتفجرة في سوريا… وها هو «حزب الله« في غرفة انتظاره الفارسية: ليتحّين فرصة مواتية ليجمع الوسيلتين ويكمل على لبنان. هولوكوست «سياسي» بقفازات يؤدي إلى هولوكوست تدميري سافر: لا رئاسة يعني ذبح رأس الجمهورية، لا حكومة يعني ذبح يد الجمهورية، لا مجلس نواب يعني ذبح إرادة الشعب، لا مؤسسات يعني ذبح الأطر التي تصنع الدولة. وطريقة الحوار الذي يجريه الحزب مع «المستقبل» كأنها الذبح بماسة جميلة.

لا شيء. وعزل لبنان عن محيطه العربي والعالمي ازهاق وجوده واقتصاده وهويته. ونظن ان مراوغته في انتخاب رئيس للجمهورية لا تختلف عن غزوة 7 أيار، وحرب 2006 المفتعلة ضد اسرائيل. كل هذه الظواهر التي ينتجها الحزب هي مجازر بطيئة ترتكب منذ العام 2000 لاستهداف سيادة هذا البلد وديموقراطيته وتاريخه. عدنا إلى نقطة الصفر إذاً. يعني، وكما يريد بوتين ابادة كل ما سبق ثورة 2001، فها هو الحزب، يريد إبادة كل ما يتصل بلبنان من حضارة وانجازات وابداعات انسحاباً ربما إلى أيام الفينيقيين. فلا أصل للبنان ولا فصل ولا أثر: لبنان (كالعالم العربي) يبدأ معنا، وكل ما عدا ذلك هراء بهراء.

وهنا نتذكر ما صرح به محمد رعد قبل أشهر «لبنان قبل المقاومة لم يكن موجوداً. كان مجرد نقطة صغيرة مجهولة على الخريطة. فلبنان الجديد يبدأ معنا..» أي مع ولاية الفقيه. الولاية الإيرانية. قبل العروبة وبعدها. قبل الإسلام وبعده. قبل الحداثة وبعدها. قبل الشعب وبعده. فهناك «الـ قبل» المقطوع و»الـ بعد» المقطوع! وما بينهما – تدمير مباشر للحاضر والماضي والمستقبل. ويكفي ان نعاين ما يمارس هذا الحزب في الحكومة لنتفهم هذه الحقيقة: حكومة كرتونية بلا شرعية ولا شرع ولا أساس. نحن فيها «لنهيئ« حكومتنا الخاصة الفريدة، والقادرة. تعطيل + تعطيل + شرشحة + احتقار، تقابلها قيم «المقاومة»!

ونظام الولاية الفارسية كبديل. اما الرئاسة فلم تعد تعبيراً عن شيء. فعندنا «مرشد» جاهز كامن وراء شاشات التلفزيون يملي من عليائه ما يمليه من أحكام وفتاوى وارشادات وأوامر، من وراء الشاشة (لا يحب محاورة الصحافيين لأنه لا يؤمن أصلاً لا بالحوارات ولا بالصحافة). يقرر «عون رئيساً أو لا رئيس». (وكذلك بشار وقبله المالكي وقبله اميل لحود أيام الوصاية). «دبروا حالكم».

هذا هو قراري «انتخبوا رئيساً بلا انتخاب». «انتخبوه بلا مجلس نواب» وكل ما عدا ذلك كلام لا قيمة له. حتى الشعب لو أراد 80 بالمئة منه غير رئيس، فلا يعني لنا شيئاً: وهل اخذنا نحن اذاً من الشعب عندما حققنا انتصارنا المجيد في غزوة 7 أيار؟ وهل اخذنا من الشعب اذناً عندما نفذنا قرار خامنئي بالمشاركة في ذبح السوريين؟ وهل اخذنا اذناً من احد عندما اطلقنا فرقتنا النازية ذوات القمصان السود لإسقاط حكومة سعد الحريري؟ وهل اخذنا اذناً من أحد (أيا كان) عندما رحنا ننشئ خلايانا الارهابية في الكويت والإمارات العربية أو في اليمن، أو في مصر أو أوروبا؟ وهل اخذنا إذناً من هذا الشعب عندما اشتركنا في حروب العراق وراء فيلق القدس. فهذا الشعب لا ننتظر ان يعطينا رأيه بل الخضوع تماماً كما لا ينتظر الولي الفقيه في إيراننا منا سوى الخضوع المطلق… الشعب يستأذننا وليس العكس… فنحن وكلاء المعصوم الأكبر!

اقرأ أيضاً : مهزلة ومأساة: الجيش السوري يقاتل حزب الله

هذا الكلام المتحقق بالممارسة هو ابادة: هولوكوست بقسمات سياسية. فما الفارق بين الهولوكوست الذي يرتكبه بوتين في سوريا بتدمير حلب وإفراغها من سكانها وتغيير هويتها، وبين هولوكوست «حزب الله« الذي يعمل منذ عام 2000 على تدمير لبنان السياسي وافراغه من هويته ومن تاريخه ومن حدوده ومن وحدته ودولته وكيانه ودستوره وارادة شعبه وجمهوريته؟ الفارق ان البربريتين البوتينية – الخامنئية والأخرى بربرية «حزب الله« في الوسيلة وفي الممارسة والهدف واحد!

وماذا نصنع في المقابل؟ وهل ما نصنع قد يوقف حرب «حزب الله« بمحو كيانية لبنان؟ لا! فاذا كان منطق القوة هو السلاح في سوريا فهذا المنطق هو ذاته في لبنان، وهو «الحل الأخير» الحاسم الذي سيلجأ اليه الحزب عندما تتسنى له الظروف الملائمة. فهل يعني ذلك مواجهة سلاح الحزب بسلاح آخر؟ قال الرئيس الكبير عبد الناصر «ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة» يعني ان السياسة لا تنفع مع هذا الحزب ولا الحوار ولا الدستور ولا الانتخابات: فهل من حل؟ لا! حتى انتخاب عون رئيساً؟ لا!.

(المستقبل)

السابق
سياسة رأس يفور منه الدم
التالي
الوليد بن طلال باع أحد فنادقه بثمن خيالي… من هو المشتري؟