«أين العرب؟»

من يتذكّر تلك الصرخة “أين العرب؟”، تطلقها التظاهرات والأقلام الجيّاشة، المشْبعة بالأمل والإنتظار، عند كل منعطف حاد من منعطفات حياتنا: من فلسطين، إلى العراق إلى لبنان… كان كلما تورطت اللحظة بمصيبة جديدة، يصرخ الصوت الجماعي، الضمير الجماعي، السؤال الحارق نفسه: “أين العرب؟”.

الآن اختفى السؤال، وجلّ الأنظار تتجه مباشرة نحو الله: أنظر إلى التراجيديا السورية، راقب لسانهم، أقلامهم، تنصَّتْ إلى أنينهم، وحدّق بعيون الخارجين من بينهم من مطحنة حلب. وسوف تلاحظ بأن أنظارهم تتجه نحو السماء، وهم صامتين، أياديهم تحمل أبناءهم القتلى، لا ترتفع، لا تتحرّك، لا تتلمّس… فقط عيونهم تراقب الفضاء، لا نحتاج إلى كلماتهم لنفهم بأنهم يناجون الله في قلوبهم، لا يحتاجون إلى الكلمات، لم يعد له معنى يذكر عندهم ذاك السؤال الجريح “أين العرب؟”. كان بالأصل عبثياً في أيام الخير، مثيراً للشفقة، كأنه يشهد آخر أيام العرب. أما اليوم، فيبدو ان الجميع فهِم ان لا طائل منه، ولا معنى. غاب السؤال تماماً، من دون أن تغيب المصائب والمنعطفات، إنما بحلول هذه المصائب… المشهد الأخير الذي اتذكر به السؤال، أو ربما هو الأقوى من بين الأواخر، هو ذاك الذي طُرح في الإنتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، أو في الحرب الإسرائيلية الما قبل الأخيرة على غزّة.

من أين كان يصدر هذا السؤال؟

ربما من قوة الدفع القومية التي كانت ما زالت عائشة في صدور الناس، منذ الاستقلالات، منذ عبد الناصر. من إسهاب البعثين العراقي والسوري بالعزف على هذا الوتر، وقيادتهما لجبهات “الصمود والتصدّي”، وانتاجهما لأدبيات ورطانة وأشعار، كلها تضع العرب والعروبة في ميزان “حامي الديار”. طبعاً، كان سؤالاً عديم الفاعلية، يشكّل إحراجاً، أو غروراً بسيطاً للمعنيين به، فيردّون عليه بموقف من هنا، وخطاب من هناك…

ربما أيضاً، لأن اسرائيل، العدو الواحد المشترك، قد نشأت بالتزامن مع قوة الدفع القومية هذه، وكبر معها ذاك النظام الأيديولوجي القائم على محاربة اسرائيل بوكالات “محلية” محضة، تتجسد خصوصاً بالفلسطينيين واللبنانيين. قوة الدفع القومية كانت تنعش السؤال بالآمال والدعم المادي أحياناً، الذي يحرك طاحونة البلاغة القومية، فيبقيها حيّة، رغم الإخفاقات والهزائم والتراجعات. كان للعرب دور، ولو ضئيل، ولو ديبلوماسي، أو معنوي. كنتَ تسمع عن دولة بعينها، عربية وكبيرة، تعلن المبادرة أو القرار أو الموقف. وكانت هذه كلها تجد صدى ما، في مراكز القرار العالمي، ولو من باب رفع العتَب. وكنتَ تشعر بهذا الصدى الهزيل، فيرتفع صوتكَ في التظاهرات الغاضبة “أين العرب؟”. ولكن، ما الذي أخفى هذا السؤال؟ ما هي التغيرات التي أضعفته، فأخفته؟

أولا يجدر الإشارة، قبل الجواب، الى أن “العرب” أنفسهم يعترفون بصراحة الآن بعجزهم التام. أبلغ الكلمات التي قيلت في الأيام الأخيرة والمترجِمة لهذه الصراحة، هي كلمة مسؤول مصري رفيع، في إحدى المقابلات في ردّه على سؤال قوامه “أين العرب من تدمير حلب؟”. يجيب المسؤول بأن ليس بوسع العرب القيام بشيء، لأنهم “لا يملكون الطائرات” اللازمة. تصريح عفوي ربما، قليل الحجة، يحرِّض على السؤال: وهل كانوا يملكون الطائرات عندما كنا نسألهم “أين أنتم؟”؟ أم طارت تلك الطائرات؟ هل كنا عائشين في أوهام حبنا للعروبة؟

إقرأ أيضاً: التطبيع العربي مع اسرائيل يخدم إيران

المهم إن المسؤول المصري قال بعبارات أخرى إن العرب لم يعُد لهم دور يُذكر في الحرب السورية. حتى على مستوى المشاعر السياسية الساذجة والمصدِّقة. أصلاً، القوى الإقليمية الأهم منهم، المالكة للطائرات، مثل إيران وتركيا، أصبح دورها مرهوناً بتوازن، أو بإختلال الإرادتين الأميركية والروسية. والذي حصل لسؤالنا وسط النيران هذه، أنه أحرق بأيدي الحصن الحصين الأخير للعروبة: سوريا البعث السوري. بشار الأسد ورجاله وحلفاؤه من الميليشيات الطائفية لم يعودوا في وارد العروبة. جرفتهم حقائقهم نحو ما هو مرسوم بخطوطها العميقة، أي الإنقسامات الطائفية، التي باتت تحمل نظرية معادية تماما للعروبة: أعني نظرية “تحالف الأقليات الطائفية” ضد الأكثرية. وسواء قصدوا بهذه الأكثرية السنّة أو غيرهم، وسواء ضموا إلى هذا التحالف إسرائيل أو لم يضموا، بصفتها أولى الأقليات… فهم بذلك يقضون، بدورهم، على آخر ما تبقى من مشاعر قومية. فيما الردّ عليهم، الإسلامي في مجمله، ليس أحسن عروبةً، عندما ينظر لإقامة الخلافة، أو تطبيق الشريعة الاسلامية. لم تَعُد إسرائيل العدو الأوحد، كما كانت أيام العزّ العربي. محور “الممانعة” يطرح السؤال، “أين العرب؟”، ولكن بخبث: يستخدمه الآن لمزيد من التدليل على عجز العرب عن مواجهة عدوهم الكلاسيكي. للمزيد من التشهير بتفرقهم وعداواتهم الطائفية، التي يشتغل عليها هذا المحور بذكاء تدميري هائل.

إقرأ أيضاً: عن العرب ودونالد ترامب

لم تَعُد إسرائيل العدو الأوحد، صار بشار الأسد عدو شعبه، قبل كل شيء. وهذه العداوة تهزّ المشرق والعالم، وآثارها تبدأ بالإرهاب وأزمة اللاجئين ولا تنتهي عند تفريغ سوريا من أهلها وإقامة كيانات طائفية على أنقاضها. طبعا، أضف إلى سوريا كل من العراق وليبيا واليمن ولبنان، فضلا عن الاكراد. والكراهيات المتبادلة العابرة للجنسيات والقوميات، والمصائر الفردية المبعثرة، والموزعة على قارات الكرة الأرضية… وقارن بين ما كانوا عليه وبين ما أصبحوا، فسوف تلاحظ بأن السؤال القديم “أين العرب؟”، كان صرخة أمل، إذا ما قيس باختفائه تماما، مقروناً بيأس بلغ قاعاً جديداً.

(المدن)

السابق
مصطفى فحص: حزب الله يأخذ دور الخليفة الأموي يزيد بن معاوية
التالي
ميريام كلينك من بارودة «نصرالله» إلى ذقن «الحريري»!