الذاكرة المتخشّبة للحزب الشيوعي اللبناني

هذه السنة، كانت إحتفالات الحزب الشيوعي اللبناني بذكرى تأسيس جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول)، صاخبة. أرادها الشيوعيون كذلك، وفسّروا ضجيجهم بثلاثة أسباب: صار لهم أمين عام جديد. ثم انهم “يعيدون” صياغة علاقتهم بـ”المقاومة”. وأخيراً رحيل ثلاثة شيوعيين كبار من بينهم. صاحبَت الإحتفالات تعبيرات ومشاعر كلها تصبّ في “الحنين” إلى مرحلة التأسيس: حنين طاغ، موجع، رافقته الصور والأغاني والأفلام، وربما الدموع ايضاً. حنين حُمّل بالكلمات الحارة، والمواقف الاستعادية العابقة بزمن “جمول”، وبجمال مضامينه… الخ. بحيث انك لو كنتَ من الأجانب، أو من الشباب الذين لا يعرفون التاريخ القريب، يمكن أن تضم قلبكَ إلى قلبهم، وربما تربط مصيرك بمصيرهم، لشدّة الحلاوة والرقة.

ولكن مهلاً، هذه النوستالجيا الجذابة، تلك الشاعرية الفائضة، تخفي مفهوما عن الزمن، كثير التداول بيننا: فيما النوستالجيا هي الشوق إلى مرحلة سابقة، مرت ولن تعود، فان الحزب الشيوعي اللبناني، بالنوستالجيا الخاصة به، يعامل الزمن وكأنه توقف عند اللحظة المحبوبة، ولم يمرّ شيء من بعده؛ يكون المرء، بذلك، يعيش حالة التفويت، القائمة على عدم مطابقة الزمن المتخيل أو المرغوب، مع الزمن الحالي المعيوش، ولا مع الزمن الذي مرّ بينهما. وهذا ما تجده بكثرة في الخطابات والبيانات التي صدرت بمناسبة هذه الذكرى.

وعلى هذا المرء يقع التساؤل: ما دامت “جمول” قد تأسست قبل 34 سنة، وقاومت، وظفرت، وانتصرت على العدو… ما الذي محا وجودها بعد هذه الإنتصارات؟ ما الذي أحالها الى التعطيل؟ هل كانت خلال العقود الثلاثة تخزن، أو تتدرب، أو تتعلم، أو أي نشاط آخر، يشي بالهمّة والاستمرارية؟ الجميع يعلم بأن “حزب الله” أخرج، بدءا من تأسيسه، عام 1985، وبسرعة ومنهجية، كل الفصائل المقاومة التي لم تنتسب اليه. الشيوعيون بالذات كان لهم النصيب الأوفر في الإزاحة، والإغتيال، والطرد الخ. من غير الطبيعي لحزب يدعي بكل فخر أمتلاكه لكل صفات الإنضباط، أن لا يكون قد علم بما حلّ بوجوهه وكادراته وبوجهة نشاطه. النوستالجيا التي يستسيغها الحزب، قد تكون الحجاب الذي يخفي تلك المرحلة من تاريخه. وهو بذلك إنما يكذب على نفسه، إن لم يكن يكذب أيضا في نسبْ العمليات المعادية لإسرائيل في بيروت وغيرها، إلى أعضائه المقاومين…

إقرأ أيضاً: الحزب الشيوعي بين المقابر والاحياء

هذا التساؤل الأول ما كان ليكون له أية قيمة لولا النقطة الثانية الغائبة عن الحزب في حفل تذكّره لتاريخه القريب. فالكلام الصادر عن قياداته وأفراده، يعيدك إلى حقبة من الزمن، كانت فلسطين فيه هي القضية الوحيدة للعرب، إلى جانب قضية العمال والفلاحين والكادحين التي يضفيها الشيوعيون دائماً على “برامجهم”. يضيف الآن الحزب إلى “فلسطين” عبارتين مكملتين للتصور، مرتبطتين “عضوياً” بفلسطين؛ وقد أحب أن يمررهما بسرعة. العبارتان هما ربط النضال من أجل فلسطين بـ”النضال ضد التكفيريين والإرهاب”. أي ان الحزب لا يرى في كل الذي يحصل الآن، على بُعد مئة كلم منه، وقد هزّ الكرة الأرضية من صميمها، لا يرى في سوريا هذه غير ما يراه “حزب الله” وإيران وبوتين واوباما والأسد واردوغان: انها حرب على الارهاب، مع إضافة “التكفيريين”، لكي نكون على بيّنة بأن المقصود هو الحرب نفسها التي يخوضها “حزب الله” في سوريا، ضمن “محور المقاومة”. هكذا سباحة في الزمن الماضي فيها عادة أخطار التوقف عنده ونسيان كل حاضر، إلا ذاك الحاضر الذي يغنيك عن التفكير مطولا بما تقول أو تتصور.

إقرأ أيضاً: رسالة إلى الحزب الشيوعي اللبناني

يصرّح ناشطون في الحزب الشيوعي اللبناني انهم يتدرّبون على السلاح والقتال في البقاع، منذ عام ونصف العام؛ مفسرين بذلك المعنى العميق لـ”السبب الثاني” الذي أعطى للحزب كل هذه الحماسة لإحتفالياته. معلوم ان تأسيس تنظيم عسكري، وتدريب أعضائه في البقاع لا يمكن أن يحصلا من دون موافقة “حزب الله”. ما يطرح السؤال عن وظيفة هذا التنظيم العسكري الجديد، وهو يتكون تحت شعار “الأعداء الصهاينة المرتبطين عضويا بالتكفيريين”. هل سيطلق الحزب الشيوعي قذائف على إسرائيل، ويدخل معها في معركة، فيما عرابه، “حزب الله” منشغل في سوريا؟ أو انه سوف يساعد الحزب في سوريا نفسها، ويمدّ “حزب الله” بالمادة البشرية اللازمة بعدما تعبت بيئته من قتلاه؟ أم ان كل الموضوع هو كلام بكلام، يملأ الذكرى بالأوهام، ويحول الحنين الى مشروعية سياسية لـ”حزب الله”، المتحكّم بلبنان؟ فيحيل الشيوعيين إلى رتبة “معارضي الداخل”، الذين يرتضي بهم الديكتاتور، مثلهم مثل نظرائهم السوريين؟

(المدن)

السابق
ماذا تريد روسيا في سوريا…
التالي
بعد تغريدة التفاح.. برنامج الأغذية العالمي يرد على جبران باسيل